بالرغم من المعارضة واسعة النطاق، رفض رئيس إقليم كردستان العراق التراجع، ومضى نحو عقد الاستفتاء حول استقلال الإقليم في 25 أيلول/سبتمبر. ليس من الواضح كيف أجرى الرئيس بارزاني حساباته، ولكن المؤكد أن هذه الحسابات لم تكن دقيقة بالضرورة.
حلفاء الإقليم وحماته الرئيسيون في واشنطن لم يتراجعوا عن معارضتهم للاستفتاء؛ ولم يترددوا بعد أن عقد عن إعلان رفضهم الاعتراف بنتائجه. وتركيا، شريكة الإقليم الكبرى في الدائرة الإقليمية، ومن وفرت غطاء حماية للسيد بارزاني طوال الأعوام القليلة الماضية، عندما كان الإيرانيون وقادة العراق الشيعة وأكراد السليمانية وحزب العمال الكردستاني يحاولون إطاحته، ردت على الاستفتاء بغضب غير مسبوق، مهددة الإقليم بإجراءات حصار وعقاب غير مسبوقة. وكذلك فعلت إيران. أما الحكومة الاتحادية في بغداد فلم تعلن عدم شرعية الاستفتاء وحسب، بل وأعلنت جملة من الإجراءات التي تهدف إلى فرض الإرادة العراقية على الإقليم.
لم تعارض واشنطن الاستفتاء من جهة المبدأ؛ فقد كان التدخل الأمريكي في شؤون المشرق، منذ بداية التسعينيات، القابلة التي عملت على ولادة الإقليم؛ والأمريكيون هم من وفر، في لحظات التأزم وبروز نذر الانهيار، مظلة حماية الإقليم واستقراره. هذا صحيح، بالتأكيد. ولكن المعارضة الأمريكية لأسباب مرحلية، تتعلق بالحرب على داعش واسترضاء بغداد وأنقرة تظل معارضة، ولابد أن الموقف الأمريكي هو من شجع أغلب القوى الدولية على اتخاذ موقف متحفظ من مشروع استقلال الإقليم.
المعارضة التركية والإيرانية، من جهة أخرى، هي معارضة مبدئية، وتنبع من مخاوف حقيقية، لا يمكن أغفالها، من أن يؤدي انفصال الإقليم إلى فتح صندوق شرور في المشرق يصعب إغلاقه. لا تتعلق هذه المخاوف بالكتلتين الكرديتين في تركيا وإيران، بالضرورة، لأن ليس ثمة مؤشرات صلبة على سعي الأغلبية الكردية في كلا البلدين للانفصال. تتعلق هذه المخاوف بالأحرى بطبيعة التكوين الديمغرافي القلق في دول المشرق، من إيران وتركيا إلى العراق وسوريا ولبنان والأردن، التي تضم عشرات من الطوائف والإثنيات، ويعاني عدد منها من ضعف الدولة الوطنية.
المستغرب هو الحدة القاطعة في الموقف التركي من مسألة الاستفتاء، وتهديدات القطيعة والحصار التي توجهها أنقرة للإقليم، وذهاب الحكومة التركية، وبدون تحفظ أو تردد، إلى بناء ما يشبه التحالف التركي ـ الإيراني ـ العراقي لإخضاع أربيل.
دوافع العراق، المعني الأول بالمسألة، تتشابه مع الدوافع التركية ـ الإيرانية، من جهة، وتختلف، من جهة أخرى. فقد يؤدي الانفصال الكردي إلى تعزيز الاتجاه الذي يدعو إلى تشكيل إقليم حكم ذاتي في محافظات الأغلبية العربية السنية، وربما حتى إلى الانفصال في النهاية. كما أن الاستفتاء الكردي سيفتح أبواب صراع محتدم على المناطق المتنازع عليها، سيما كركوك، التي يعتبر نفطها الضمان الوحيد لحياة الدولة الكردية المنشودة.
لذلك كله، للتحفظ الدولي، والمعارضة الإقليمية الصريحة والحادة، أمكن للحكومة الاتحادية في بغداد اتخاذ موقف تصعيدي من أربيل وفرض إجراءات عقابية ثقيلة الوطأة. ترفض بغداد بدء أية مفاوضات مع أربيل على أساس من الاستفتاء، وتطالب بإلغاء نتائجه كشرط مسبق لعقد مفاوضات جديدة. وفي الوقت نفسه، أعلنت الحكومة العراقية أنها ستقوم بتسلم الإشراف على المعابر البرية الدولية لكردستان العراق، وفرض سيادتها على شركات اتصالات الهاتف والإنترنت العاملة في الإقليم. وقامت بغداد بالفعل بمنع الطيران الدولي من استخدام مطارات الإقليم، عندما رفضت حكومة أربيل وضع مطارات المدن الكردية تحت سلطة الحكومة المركزية. وإلى جانب وقف المعاملات المالية مع أربيل، عرضت بغداد إدارة مشتركة لمحافظة كركوك.
ويعتقد أن القوات العراقية ستتحرك للسيطرة على المناطق المتنازع عليها، بما في ذلك كركوك وحقولها النفطية، إن رفضت أربيل سحب قواتها من هذه المناطق. بذلك، يقف العراق، الذي شهد جولات باهظة التكاليف من الحرب طوال القرن الماضي، على حافة جولة جديدة من الصراع العربي – الكردي.
علاقات الطبقة الشيعية الحاكمة لم تتأزم مع الأغلبية العربية السنية وحسب، بل ومع الشركاء الأكراد أيضاً، الشركاء في التحالف مع الغزو والاحتلال، في تهميش الأغلبية العربية السنية، وفي كتابة الدستور المشوه والحامل لكل عوامل الانفجار
هذا كله كان متوقعاً؛ كما أن دعم إيران غير المحدود لبغداد ليس بالمستغرب. المستغرب هو الحدة القاطعة في الموقف التركي من مسألة الاستفتاء، وتهديدات القطيعة والحصار التي توجهها أنقرة للإقليم، وذهاب الحكومة التركية، وبدون تحفظ أو تردد، إلى بناء ما يشبه التحالف التركي ـ الإيراني ـ العراقي لإخضاع أربيل.
كان التوافق الشيعي ـ الكردي هو الذي كتب دستور عراق ما بعد الغزو والاحتلال، الدستور الذي أعطى للإقليم الكردي درجة عالية من الاستقلال الذاتي ووضع بذرة تقسيم العراق أو تحوله إلى دولة كيانات متصارعة. وقد وضع الدستور في لحظة تصاعد المقاومة العراقية للاحتلال وتفاقم مناخ التشظي الطائفي والإثني. وربما تصور قادة العراق الشيعة عندها ضرورة وضع احتمال تقسيم العراق في الحسبان، إن استمر الصراع الأهلي المسلح وأخفقت الحكومة المركزية في كسب ولاء محافظات الأغلبية العربية السنية. ولكن الظروف تغيرت منذ كتب الدستور، وتغيرت بصورة كبيرة. فبالرغم من السيطرة الطائفية الشيعية على مقاليد الحكم والدولة، وقفت الأغلبية العربية السنية مع وحدة العراق، وتراجعت المقاومة المسلحة منذ انسحبت القوات الأمريكية. بصورة من الصور، قبلت الأغلبية العربية السنية التعايش مع الدولة الجديدة، واعتقدت أن بالإمكان، ببعض من العمل السياسي والبرلماني والحقوقي، التوصل في النهاية إلى تعديل للدستور، إصلاح مؤسسة الدولة الجديدة، وإيجاد نظام أكثر عدلاً وأقل طائفية.
تدرك تركيا، التي يحكمها الحزب نفسه منذ 2003، أن الدولة العراقية التي ولدت من الغزو والاحتلال لم تتمتع لحظة بالشروط الضرورية لحكم العراق
بيد أن علاقات الطبقة الشيعية الحاكمة لم تتأزم مع الأغلبية العربية السنية وحسب، بل ومع الشركاء الأكراد أيضاً، الشركاء في التحالف مع الغزو والاحتلال، في تهميش الأغلبية العربية السنية، وفي كتابة الدستور المشوه والحامل لكل عوامل الانفجار. وقد كان طبيعياً في النهاية أن يتسع نطاق سياسات الهيمنة الطائفية الأقلوية لتطال ليس السنة العرب، وحسب، بل والإقليم الكردي، أيضاً، كما مكونات الشعب العراقي الأخرى. الاتزان والاعتدال واعتبار المصالح العامة للبلاد ليست بين الفضائل الشائعة للعقل الطائفي الأقلوي.
وهكذا، سرعان ما سقطت الشراكة الشيعية ـ الكردية ضحية الخلافات المؤجلة حول المناطق المتنازع عليها، النفط، السيادة، ميزانية الإقليم، وعدد من المسائل الأخرى التي لا تقل تعقيداً. ثمة دلائل على أن قرار الاستفتاء لم يكن مدفوعاً باليأس من بناء علاقات صحية ومستقرة بين بغداد وأربيل، ولكن أيضاً بالمستقبل الشخصي لرئيس حكومة الإقليم الكردي، مسعود بارزاني. ولكن، وحتى إن صح هذا التقدير، فمن الصعب مطالبة الأكراد، الذين صوتوا بأغلبية ساحقة لصالح استقلال الإقليم، بالبقاء ضمن العراق، أسرى لرحمة طبقة حكم المركز العراقي، قصيرة النظر، تفتقد أدنى شروط عقلانية السياسة، ومسكونة بأوهام الهيمنة الطائفية.
تدرك تركيا، التي يحكمها الحزب نفسه منذ 2003، أن الدولة العراقية التي ولدت من الغزو والاحتلال لم تتمتع لحظة بالشروط الضرورية لحكم العراق. وتدرك تركيا أيضاً أن الانفجارات المتتالية التي تعرض لها العراق في العقد ونصف العقد الماضيين لم تكن وليدة مؤامرات خارجية أو لعنة فلكية، بل نتاج البنية الهشة والمشوهة للدولة العراقية الجديدة. وهذا ما يجعل التهديدات التركية لحكومة الإقليم، وذهاب أنقرة إلى التحالف غير المشروط مع طهران وبغداد لحصار الإقليم وإخضاعه، مبالغاً فيها وغير مسوغة. إن كان للعراق أن يبقى موحداً، وأن يتفادى المشرق شرور وتداعيات الانقسام الكردي، فلابد من إعادة النظر في بنية الحكم والدولة العراقية ككل، أولاً.