لا تقل ساعات عملهم عن 10 ساعات متواصلة، وبعض المهن والأعمال حتى الشاقة منها تصل إلى 12 ساعة، تبدأ عادة من السابعة صباحًا، وتنتهي بغروب الشمس وحلول الليل البارد، ليعود بعضهم مسرعًا إلى محل بيع مواد التدفئة ليشتري القليل من الفحم أو بضع قطع من الحطب ويكمل طريقه إلى المخبز ليشتري الخبز لأطفاله بما تبقى لديه من ليرات قليلة حصل عليها مقابل عمله طيلة النهار.
تلك الحالة ليست عابرة، فيمكن ملاحظة هؤلاء العمال وهم عائدون كل مساء في شوارع إدلب ومدنها الريفية، وأي منهم لو استوقفته وسألته عن أجور مياومته فستجدها 50 ليرة تركية، وفي أحسن الحالات تصل إلى 150 ليرة والتي تعادل حسب سعر الصرف اليوم أقل من 5 دولارات أمريكية.
ظروف عمال المياومة
تواجه شريحة كبيرة من العمال في سوريا ظروفًا صعبة بسبب ندرة الأعمال، فضلًا عن الابتزاز وهضم حقوقهم، خاصةً عمال المياومة الذين يجابهون عقبات لتأمين متطلبات الحياة اليومية لعوائلهم، مع ارتفاع الأسعار وسوء الواقع الاقتصادي.
والبطالة وتدني الأجور لم يستهدفا فئة العمال والكادحين وصغار الكسبة فحسب، فالكثير من الشبان حملة الشهادات الجامعية يكّدون للحصول على فرصة عمل، وإن وجدت فأجورها أقل من استحقاقاتهم.
وتشهد مناطق شمال غرب سوريا كثافة سكانية هي الأعلى بين المناطق السورية عمومًا، بعد أن استضافت تلك المناطق من جرى تهجيرهم إلى شمال غرب سوريا من مناطق ريف دمشق ودرعا وحمص وريف إدلب وحلب الجنوبي. وذلك بعد سيطرة قوات النظام السوري على مناطقهم بين الأعوام 2016 – 2019،
يروي محمد حميدان، خريج معهد طبي متوسط وأب لثلاثة أطفال ومهجر من ريف حلب الجنوبي، كيف حاول جاهدًا العثور على فرصة عمل منذ ثلاثة أعوام بعدما انتهى عقد عمله في مستشفى بمدينة جسر الشغور.
وتابع “هناك قنوات ومجموعات محلية على مواقع التواصل الاجتماعي تنشر الشواغر وفرص العمل، أجزم أنني تقدمت بطلبات لكل الشواغر التي تناسب شهادتي التعليمية وخبراتي، دون أن أتلقى أي رد”، وأشار الممرض إلى أنه قبل بالأمر الواقع، ويعمل كمساعد لأحد الصيادلة مقابل 150 ليرة ليوم العمل الواحد، لافتًا إلى أنه يعمل فقط ثلاثة أيام في كل أسبوع.
وعثر يوسف المصري، خريج كلية التجارة والاقتصاد، على فرصة عمل بعيدة كل البعد عن اختصاصه الدراسي، إذ يصطحبه شقيقه الأكبر محمد العامل قي إحدى ورش صيانة محركات السيارات العاملة بالديزل، إلى الورشة مقابل 50 ليرة تركية ليوم العمل الواحد، فيما يتقاضى الأخ الأكبر ضعف الأجرة كونه “معلمًا” في هذه المهنة ولديه سنوات خبرة أطول.
وأضاف الشاب لـ”نون بوست”: “لا تعتبر أجورنا في الورشة مصدر الدخل الأساسي في هذه الفترة، ونعتمد على حوالات مالية يرسلها شقيقنا الثالث اللاجئ في ألمانيا منذ العام 2013 على إكمال النفقات الشهرية، بحدها الأدنى”، فيما يأمل محمد بترك الورشة التي التقيناه بها وأن يفتتح ورشته الخاصة عندما يتقن شقيقه المهنة، ليشرفا معًا على سير أعمال الصيانة والإصلاح وإعادة إعمار المحركات، الأمر الذي سيزيد من دخلهما، حسب توقعاته.
ويعمل الخمسيني أبو حسن، المهجر من مدينة حمص إلى إدلب، مراقبًا لميزان في أحد محال الخضراوات والفواكه بسوق الهال المركزي مقابل 50 ليرة عن كل يوم عمل.
وقال أبو حسن إن عمله يتطلب الوقوف على قدميه منذ الخامسة فجرًا وحتى السادسة من كل مساء لتدوين الأوزان على الفواتير وتقديمها لمالك المحل، وكذلك يتوجب عليه جرد وحساب الخضراوات التالفة وتنظيم فاتورة بها في نهاية كل يوم.
أما عبد الله الإسماعيل الذي يعمل عتالًا بين المحل نفسه وسيارات الزبائن، فيتقاضى 75 ليرة تركية وبذات مدة العمل، فيما يعتمد غالبية العمال لتحسين دخلهم اليومي على الـ”إكراميات” التي تتراوح بين 30 و50 ليرة في اليوم الواحد.
ولجأ إبراهيم الذي عمل طيلة 16 سنة قبل العام 2012 كسائق حافلة لدى إحدى الشركات السياحية السورية إلى تقطيع الحجارة المخصصة للبناء من أحد الجبال المجاورة لبلدته.
شمال غرب سوريا يشهد كثافة سكانية مرتفعة كنتيجة للنزوح الداخلي وجرائم التهجير والتغيير الديموغرافي، في ظل هجرة أرباب المال للخارج، ما أوجد فراغًا في سوق العمل
وعلى الرغم من أن مهنته تعتبر من الأعمال الشاقة، فإنه متمسك بها منذ سبعة أعوام لأنها مصدر الدخل الوحيد لأسرته المؤلفة من 8 أفراد، مضيفًا “في الأيام التي أكون فيها مريضًا أو لا أتمكن من تقطيع الحجارة، نستدين ثمن الخبز وبعض المواد الاستهلاكية على أن أسددها عندما يتحسن العمل”.
ويضيف إبراهيم “أقطع شاحنة واحدة كل أربعة أيام وأبيعها بـ700 ليرة تركية، وبالكاد تكفي مصاريف المنزل من الاحتياجات الأساسية، وإذا مرض أحد أبنائي أضطر للعمل لساعات متأخرة من المساء للإسراع ببيع الشاحنة وتأمين مصاريف العلاج”.
وبالنسبة للشركات والمصانع الكبيرة ومنظمات المجتمع المدني، فيحصل غالبية عمال المياومة وعمال الفئات الثالثة والرابعة العاملين بنظام المرتب الشهري لديهم على أجور تتراوح بين 5 و9 دولارات أمريكية، أي 225 دولارًا في الشهر في أحسن الحالات.
وقدّرت أسماء الخاني التي عملت خلال السنوات الخمسة الماضية كرئيسة لقسم الموارد البشرية في مؤسسات ومنظمات عدة، نسبة هذه الشريحة من إجمالي العمال بـ2% فقط من اجمالي عمال المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في شمال غرب سوريا .
وأكدت أن غالبية هؤلاء العمال يحصلون على فرص عمل موسمية لا تتعدى 6 أشهر، مشيرة إلى أن الجهات المُشغلة تنظم عقودًا “شكلية” لا تضمن للعامل أيًا من حقوقه غير المالية، كحق الضمان الصحي على أقل تقدير.
ومن وجهة نظر الخاني فإن المنطقة الخارجة عن سيطرة النظام السوري في شمال غرب سوريا تشهد كثافة سكانية مرتفعة كنتيجة للنزوح الداخلي وجرائم التهجير والتغيير الديموغرافي، في ظل هجرة أرباب المال للخارج، ما أوجد فراغًا في سوق العمل.
لا حقوق مضمونة ولا وظائف مستقرة
عزا الباحث الاجتماعي والمدرب السابق في أحد مراكز تنمية القدرات ودعم الشباب محمود الحسن تدني أجور العمال في محافظة إدلب والأرياف المجاورة لها إلى غياب الرقابة القانونية التي دفعت ولو بشكل غير مباشر الصناعيين والحرفيين وأصحاب المصالح لاستغلال العمال بصورة غير أخلاقية، حسب تعبيره.
وأشار الحسن إلى أن الأجور التي يتقاضاها العمال لا تتناسب وطبيعة العمل خصيصًا لفئة العاملين في قطاعي الإنشاءات والزراعة، وقياسًا بدول الجوار أو بمتوسط الأجور العالمي، فهم لا يتقاضون أكثر من 20% من استحقاقاتهم.
واعتبر أن إنشاء نقابة للعمال تنظم العمال وتقسمهم إلى فئات وشرائح وتحديد الحد الأدنى للأجور من خلالها هو الحل الأمثل لتلافي هذه المشكلة.
وينذر إهمال سلطات الأمر الوقع في عموم مناطق شمال غرب سوريا بتوفير فرص عمل أو تنظيم الحدود الدُنيا لأجور العاملين بتنامي معدلات البطالة التي يمكن توصيفها اليوم بـ”الكارثة” التي تعاني كل أسرة وكل منزل وكل خيمة من تداعياتها، فلا وصف لواقع العمال المياومين في منطقة اكتظت فجأة بعشرات الآلاف ممن فقدوا مصالحهم وأرزاقهم وبيوتهم، فظروف الحرب والحصار جعلت الأنشطة الاقتصادية في حدودها الدنيا.
وفي ظل غياب مؤسسات رعاية أو نقابات تدافع عن حقوق العامل المياوم، فلا جدوى من المطالبة، وإلا فقد يضيع هذا النزر اليسير من الرزق المغمس بالقهر كما يقولون.
وتجاوزت نسب البطالة في إدلب وريفها بحسب منسقي استجابة سوريا الـ88%، وأمسى سوق العمل متخمًا بالباحثين عن أي عمل ولو كان مؤقتًا، يؤمنون من خلاله خبز يومهم، وسط غياب تام للنقابات ولأبسط الحقوق.