نجح نظام الأسد طيلة العقود الماضية في تأطير عمل الأحزاب والقوى السياسية في سوريا، وحصره تمامًا تحت مظلة حزب البعث الحاكم، وإلحاق بعض الأحزاب به كـ”الجبهة الوطنية التقدمية”، ما جعل العمل السياسي المعارض في سوريا عملًا سريًا ضمن غرف مقفلة، دون وجود أحزاب وقوى سياسية حقيقية قادرة على المساهمة في الحياة السياسية السورية.
وجاءت الثورة السورية في مارس/آذار عام 2011 لتعيد تشكيل الحياة السياسية كاملة، إذ حجمت دور التحالفات والتشكيلات السياسية التقليدية، وأتاحت المجال لظهور مكونات واصطفافات سياسية جديدة، مختلفة الرؤى والأهداف والإيديولوجيا.
نستعرض في “نون بوست” ضمن ملف “على طريق الخلاص”، أبرز التشكيلات السياسية السورية المعارضة التي تشكلت خلال الثورة السورية، ونستعرض سريعًا القوى السياسية التقليدية، التي كانت حاضرة قبل الثورة وحظيت بدور فعال خلالها، في محاولة للوقوف على تجربة هذه الكيانات وتكوينها وأهدافها، وفعاليتها ومرجعيتها الأيديولوجية والسياسية، ومواقفها السياسية خلال الثورة، ورؤيتها إزاء القضايا المعقدة في الملف السوري، وأثرها في الملف السوري على المستوى المحلي والدولي.
نفتتح هذا الملف بالإطلالة على الحياة السياسية بسوريا في أثناء وبعد الاستقلال، مرورًا بانقلاب حزب البعث على السلطة، وإلغاء الحياة السياسية تمامًا خلال عهد الأسد، وصولًا إلى الثورة السورية وما أفرزته من مساحة وهامش لعودة الحراك السياسي.
الحياة السياسية بعد الاستقلال
حظيت سوريا بتجربة ديمقراطية تبلورت ملامحها في ظل الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، فقد نشطت حينها الحركة الوطنية بزعامة عدد من الشخصيات الوطنية، على رأسهم شكري القوتلي، التي سعت إلى تأسيس البرلمان وإنهاء الوجود الفرنسي، لتشهد البلاد أول انتخابات برلمانية نزيهة في تاريخها عام 1928، أعقبها تأسيس القوتلي نفسه عام 1932 رفقة عدد من رفقائه بينهم هاشم الأتاسي، الكتلة الوطنية للدعوة إلى استقلال سورية.
وطيلة الفترة التي أعقبت إعلان الاستقلال من فرنسا عام 1946، عاشت سوريا تجربة ديمقراطية حديثة لعبت الأحزاب والقوى السياسية المختلفة فيها دورًا مهمًا ضمن حراك سياسي وشعبي نشط، وانتخابات برلمانية حرة مباشرة ومتعاقبة، بدأت مع انتخابات عام 1947، واستمرت في الأعوام 1949 و1953 و1954، رغم تعاقب الانقلابات.
استمر هذا الوضع حتى إعلان الوحدة مع مصر عام 1958، إذ حلّ جمال عبد الناصر الأحزاب وقيد الحريات السياسية وجمد الحياة البرلمانية في سوريا، لتعود الحياة السياسية مجددًا بعد ثلاث سنوات مع انقلاب النحلاوي عام 1961، الذي أعلن نهاية الوحدة مع مصر.
يعد كثير من المؤرخين الفترة بين عامي 1954 – 1958 مرحلة ذهبية في تاريخ سوريا السياسي، إذ تميزت بازدهار العمل السياسي والصحافي، بعد انقلاب عام 1954 الذي أنهى حكم أديب الشيشكلي، وأعاد الحياة السياسية مجددًا، مقابل إضعاف قوة الجيش، الذي بسط سيطرته تدريجيًا على السلطة، عقب قيامه بانقلابات عسكرية متتالية، بدأها حسني الزعيم عام 1949، ثم سامي الحناوي والشيشكلي.
عانت سوريا عمومًا خلال تلك الحقبة من اضطرابات سياسية، نتيجة تضافر عوامل داخلية وخارجية ساهمت في إضعاف التجربة الديمقراطية الوليدة، وإعاقة تطورها ومن ثم إنهائها.
ولعل الوضع الداخلي في سوريا كان له الدور الأكبر في ذلك، لا سيما مع انقسام النخب والقوى السياسية، وارتباطها بأحلاف ومشاريع سياسية خارجية إقليمية ودولية، فقد انقسمت المكونات السياسية بين فريق مناصر للحلف الهاشمي، وآخر مؤيد للحلف السعودي المصري، وسط سعي قوى دولية أخرى لجرها إلى دائرة تأثيرها كحلف بغداد ومشروع الهلال الخصيب، فضلًا عن انخراط تلك المكونات في أجواء الحرب الباردة والصراع الغربي الشيوعي، وتأثرها بحالة الاستقطاب.
كما خاضت أبرز المكونات السياسية في سوريا آنذاك، المتمثلة بالحزب الشيوعي وحزب البعث والحزب القومي والإخوان المسلمين، صراعًا بينها على استقطاب النخب العسكرية، من ضباط وعسكريين، واعتماد بعض هذه المكونات على سياسة الاغتيالات والتصفية السياسية والعسكرية لحل الخلافات بينها، وعلى رأسهم حزب البعث.
وتعد حادثة اغتيال العقيد عدنان المالكي، المقرب من حزب البعث، عام 1955 في دمشق، أوضح الأمثلة على ذلك، فقد استغل البعث الحادثة في تصفية أبرز منافسيه بالساحة السياسية، الحزب السوري القومي الاجتماعي (حزب أنطون سعادة)، واعتقال قادته وإعدام بعضهم، بعد اتهامه بعملية الاغتيال بدعم وتوجيه أمريكي، الأمر الذي ترك أثرًا عظيمًا على مستقبل الحياة السياسية، وعلى صورة وتموضع الأحزاب السياسية لاحقًا في سوريا.
انقلاب الأسد وإلغاء الحياة السياسية
أجهز حزب البعث تدريجيًا على التجربة الديمقراطية، بعد أن صفّى الضباط البعثيون خصومهم، وأحكموا قبضتهم على السلطة إثر انقلاب عسكري في مارس/آذار عام 1963، ثم جاء انقلاب حافظ الأسد عام 1970 لينهي الحياة السياسية تمامًا عبر ما يُسمى بـ”الحركة التصحيحية”، لتدخل سوريا في نفق مظلم من الحكم الاستبدادي البوليسي.
جعل الأسد الأب سوريا دولة أمنية شمولية، إذ سيطر على مفاصل الدولة والمجتمع، عبر أجهزته الأمنية والعسكرية، التي كانت بمثابة العمود الفقري لنظامه، وقيّد النشاط السياسي، وحصره ضمن إطار ما يُعرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية“، التي دجّن من خلالها العمل السياسي، وأخضع المجتمع السوري للأحكام العرفية وقانون الطوارئ، بعد أن أقر دستورًا عام 1972، كرّس قيادة حزب البعث على الدولة والمجتمع.
لم تشهد الساحة السياسية السورية تأسيس أحزاب جديدة منذ انقلاب حزب البعث عام 1963، واضطرت بعض الأحزاب السياسية حينها إلى الدخول في “الجبهة الوطنية التقدمية”، الخاضعة تمامًا لحزب البعث، خوفًا من الاستئصال الذي واجه أحزابًا أخرى رفضت العمل ضمنها، مثل الإخوان المسلمين، الذين استأصلهم الأسد قتلًا واعتقالًا ونفيًا، بعد أحداث حماة الدموية عام 1982، التي أزهق فيها الأسد أرواح ما يقارب 40 ألف مدني، ودمر أحياءً بكاملها، منهيًا بذلك أي حراك معارض لنظامه مستقبلًا.
دخلت سوريا بعدها في فترة تصحر سياسي قاتل، وعمّت ثقافة الخوف طيلة عقود، إذ سحق الأسد هوامش العمل السياسي والمدني، عبر إنهاء النقابات والمؤسسات الحقوقية والإغاثية والتعليمية، واقتصر العمل السياسي على العمل التنظيمي السري في الغرف المغلقة، أو ضمن التحالف السياسي “التجمع الوطني الديمقراطي“، الذي تأسس عام 1979، وضمَّ أحزابًا ذات توجه يساري.
قيّدت الإجراءات القمعية التي انتهجها نظام الأسد عمل الأحزاب والمكونات السياسية السورية، وحرمها من أبسط الأدوات السياسية المرافقة لأي عمل سياسي، سواء كانت تظاهرات واعتصامات أو حرية النشر والإعلام، بعد أن تحولت إلى العمل السري، ما سبب حالةً من الانعزال عن المجتمع والشعب، وكشف حجم الفجوة والضعف التنظيمي، فضلًا عن ضعف التجربة السياسية الحقيقية، وهو ما انكشف جليًا مع انطلاق شرارة الثورة السورية.
بوارد الحراك السياسي بعد عقود من التغييب
انطلقت جموع السوريين إلى الشوارع والساحات في مارس/آذار عام 2011، معلنين بداية ثورتهم على نظام القمع والاستبداد، وصدحت حناجر السوريين لأول مرة بهتافات الحرية والكرامة والعدالة، ووضع حد لسياسة القمع والفساد، بعد عقود من إخضاع نظام الأسد الشعب السوري، وتحكمه بكل مفاصل الحياة.
أحدثت الثورة السورية هزة طالت الحياة السياسية في سوريا، حجّمت دور التحالفات والتشكيلات السياسية التقليدية الموجودة آنذاك، ومهّدت لانبثاق مكونات واصطفافات سياسية جديدة، منها ما استمر في نشاطه السياسي، وأخرى ذبلت وانحلت وفقدت بريقها.
انعكست تطورات مسار الثورة السورية، والتعقيدات التي لحقت بالملف السوري، على تصورات مختلف تلك التيارات من الحل السياسي، وأسهمت في تأسيس وتطور مكونات أخرى، فمع بدء الحراك السلمي وانتشار المظاهرات في عموم الجغرافية السورية، بدأت تتكون شبكات سياسية، ركزت على تنظيم الحراك المدني، وتنظيم المطالب الثورية في إسقاط النظام ورموزه، مثل لجان التنسيق المحلية، واتحاد تنسيقيات الثورة.
ومع تحول الثورة نحو العسكرة نتيجة تعنت النظام وإصراره على سياسة القتل والتدمير والتنكيل، وتبنيه الخيار العسكري ضد الاحتجاجات السلمية، ظهرت مكونات سياسية، إسلامية وائتلافية ووطنية، وانعكس ذلك بدوره على رؤيتها ومشاريعها السياسية التي بدأت تتبلور آنذاك، لا سيما مع ما أصاب الملف السوري من تحولات محلية وإقليمية ودولية، كالتدخل الدولي العسكري المباشر، وظهور تنظيمات إرهابية كـ”داعش” و”جبهة النصرة”.
منع نظام الأسد السوريين من التعبير عن أنفسهم سياسيًا قبل الثورة، وعمل على تخريب محاولاتهم المتكررة في بناء تجربة سياسية حقيقية، تكون لبنة لبناء هوية سورية جامعة، تمثلها معارضة سورية تحظى بشرعية شعبية ودولية شاملة.
وفي المقابل، انهمكت مكونات المعارضة السورية خلال الثورة السورية في صراعات داخلية حادة، وتبنت رؤى ومقاربات مختلفة للحل السياسي، فضلًا عن ضعف أجسامها السياسية تنظيميًا وتشتتها وعجزها عن إحداث تأثير مهم على الساحة السورية، ما أسهم في جعل الثورة بلا غطاء سياسي حقيقي يعبر عن تطلعات وآمال السوريين، ما أطال عمر النظام وزاد من حجم معاناة السوريين، وجعل ملف الحل السياسي محكومًا بإرادة ورغبة القوى الدولية المتصارعة في سوريا.