قميص كتب عليه “وطن بلا تعذيب”، ولافتة تحمل شعار “لا للتعديلات الدستورية”، وامرأة تهتف وحدها في شوارع القاهرة، ومواطن آخر يصرخ وحيدًا فوق لوحة إعلانية بمدينة الإسكندرية.
هذه هي الحالة الثورية، أو بمعنى أدق، الصرخة الاحتجاجية الحالية في مصر، سواء كانت اعتراضًا على القمع السياسي الداخلي خلال السنوات الماضية، أو حتى التواطؤ والصمت حيال الإبادة الإسرائيلية الحالية في غزة.
ومن خلال رؤية هذه الصرخات، نحاول الإجابة عن سؤال كيف أصبح الاحتجاج فرداني، والصرخة شخصية، مثلها مثل كل الممارسات الاستهلاكية المعاصرة التي تشمل تحقيق الذات بناءً على الفردنة والانشغال بالإنجازات الشخصية؟ وما وراء فلسفة هذه الصرخات الفردانية؟، وكيف تحولت الحالة الثورية في مصر من الجماعية إلى الفردانية؟
صرخات يائسة
في 24 يناير/كانون الثاني 2014، خرج الشاب المصري محمود محمد البالغ حينها 17 عامًا، ليحتَفل بالذكرى الثالثة لثورة يناير، مرتديًا “تيشيرت” ملصق عليه عبارة “وطن بلا تعذيب”، ليتم القبض عليه في أحد الكمائن شرق القاهرة، ويدخل السجن كغيره من عشرات آلاف السجناء السياسيين في مصر، ويقضي قرابة عامين سجينًا، ثم يخلى سبيله، قبل أن يعتقل مرة أخرى في 30 أغسطس/آب من عام 2023 حتى وقتنا الحالي.
ارتدى محمود محمد “تيشيرت” وطن بلا تعذيب، كصرخة احتجاجية فردانية في وجه النظام المصري الجديد، الذي ألقى من بعد 3 يوليو/تموز 2013 بآلاف المواطنين داخل السجون المصرية بتهم ملفقة، وقام بإخفائِهم قسريًا، وتعذيبهِم بسبب معارضتهم لآليات حكمه السُلطوية، ليصبح محمود بعد ذلك، وبسبب فعله الاحتجاجي، واحدًا من السجناء المُعذبين من النظام ذاته.
مشهد آخر في منطقة التجمع الخامس بالقاهرة، حيث وقف المهندس أحمد بدَوي، يوم 21 أبريل/نيسان من عام 2019، رافعًا لافتة مكتوب عليها “لا للتعديلات الدستورية”، ليلقى نفس المصير، بالقبض عليه من قوات الأمن المصرية، وسجنه قرابة 4 سنوات، قبل خروجه ضمن قائمة العفو الرئاسي في يناير/كانون الثاني من عام 2023.
ما فعله بدوي كان أيضًا بمثابة صرخة احتجاجية فردانية، تعبر من خلال اللافتات عن رفضه لسياسات النظام في الهيمنة والبقاء في الحكم، بسبب التعديلات الدستورية التي مررّها، والتي هي سبب رئيسي في بقاء الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في الحكم إلى الآن.
أما في يوم 13 يناير/كانون الثاني الماضي، وإثر حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق فلسطيني غزة، وقمع النظام المصري لأي تظاهرات شارعية تضامنًا مع فلسطين، وقفت سيدة مصرية وحدها في منتصف شوارع القاهرة، تهتف بحرقة وحسرة، مناصرة لفلسطين ومتضامنةً مع شعب غزة تجاه ما يحدث لهم من جرائم إبادة وتجويع في ظل الصمت والتواطؤ العربي والغربي.
ولم تمض إلا أسابيع بسيطة، وانتشر مقطع فيديو للمواطن المصري عبد الجواد محمد، وهو يخلع بزته العسكرية، إذ يعمل أمينًا للشرطة في قسم كرموز، واقفًا على إحدى اللوحات الإعلانية الكبيرة في حي سيدي جابر بمدينة الإسكندرية، يهتف “السيسي خاين وعميل، مش خايف منك يا سيسي”، حتى جاءت قوات الأمن وقبضت عليه، وأخفته قسريًا حتى كتابة هذه السطور.
ما دل على أهمية الحدث، أن أمين الشرطة هو موظف ميري تابع لجهاز الدولة الأمني الذي يقمع المعارضين، فخرج واحد منه ليهتف لفلسطين، ويقول إن رئيس مصر هو “خاين وعميل”.
من الثورة الجماعية إلى الصراخ الفرداني
هذه الصرخات الاحتجاجية تعد حالات ثورية فرادنية تجلت في مصر آخر سنوات مضت، وهى ليست سوى نتاج لسياسات عدة أحدثتها السلطوية منذ انقلابها العسكري في يوليو/تموز من عام 2013، فمن خلال سياسات القمع، المتمثلة في القتل والسجن والإخفاء والنفي والإقصاء والتشريع القانوني الاستبداد، صُحرت المساحات السياسية الفاعلة في المشهد المصري، وحدث موات للتنظيم السياسي والاجتماعي، وحتى ما تبقى من تنظيم ضعيف للاحتجاجات الشعبية التي تخص القضية الفلسطينية، واجهتها السُلطوية بالقمع والاعتقال، حتى قضت عليها.
كذلك فشلت التنظيمات السياسية والمُجتمعية والنقابية في مواجهة استبداد السُلطوية، بسبب القمع الشديد الذي تعرضت له، وعدم تنظيمها القوي، وأيضًا عدم تكاتفها الإستراتيجي، فهي دائمة التفرق، وهذا ما ظهر جليًا في تناقضات الحركة المدنية الديمقراطية إبان الاتفاق على مرشح رئاسي واحد، ودون مساومات مع السُلطوية أو تفتيت للأصوات، لخوض السباق الرئاسي ضد الرئيس المصري الحالي.
هذا الضعف جعل التنظيمات، إما خائفة منزوية على هامش السياسة والمجتمع في مصر، وإما في حالة موات تنظيمي ليس له أي قيمة في المشهد السياسي داخل مصر وخارجها.
هذه الصرخات الفردانية، أيضًا، هي بالإضافة إلى القمع والخوف، إحدى تجليات الاغتراب، الذي هو نتاج للحياة الاجتماعية المعاصرة، إذ استبدلت الروابط الاجتماعية والسياسية بالروابط الاستهلاكية، وباتت مفاهيم الفردانية، والإنجاز، والانشغال بالذات، هي نمط حياتي هُوياتي مُمَارس لدى كثير من الاجتماعات التي ودعت وأهملت الفعل التنظيمي التضامني، سواء كان اجتماعيًا أم سياسيًا. وهذا ما ضمنتّه صرخات المواطنين، إذ هي صرخات ثورية تشعر بالاغتراب في وجه النظام القمعي، كما في وجه المجتمع الفرداني الصامت على السواء.
هنا الصرخات، وفي ظل ترسخ حالة اليأس والموات، وهما إحدى تجليات انهزام ثورات وانتفاضات الشعوب العربية وعودة الديكتاتوريات منتصرة عليها، صرخات وحيدة ليس لها تأثير جماعي، كما كان من قبل في صرخات المُنتحر البوعزيزي في تونس، والمقتول خالد سعيد وسيد بلال في مصر، فصرخات الانتحار احتجاجًا على سياسات القمع، كانت سببًا رئيسيًا في قيام ثورتي تونس ومصر.
لكن الآن لم يعد لها أي تأثير، إذ يصرخ الناس، يعتقلوا، يختفوا، وربما يموتوا، وهذا أمام جموع الناس الواقفين الشاهدين على هذه الصرخات، بلا أدنى تحرك حيال الحدث، وهذا بسبب أن الفعل الفرداني انفكَ تأثيره تماما على أي فعل جماعي، على عكس ما كان في السابق، إذ كانا مرتبطين ببعضهما البعض، أما في الوقت الحالي، تقف الجماعة للفرجة، بل وتُأرشف لحظة الفعل الفرداني، ولم يعد يهمها مضمون هذا الفعل، وما أحقيته وما هدفه، وكيف السعي للتضامن أو الانضمام لهذا الفعل.
على سبيل المثال، السيدة الفلسطينية التي كانت تهتف لفلسطين في شوارع القاهرة المُكدسة بالازدحام، وبدلًا من تفرج مئات أو حتى آلاف الواقفين والمارين عليها دون أي رد فعل تجاهها إلا المشاهدة والأرشفة من خلال التصوير، كان الأولى المبادرة بالانضمام لها والهتاف معها، وقتها كان الفعل وأثره وتجلياته تغيرت تمامًا، ليتحول من فعل (صرخة) فردانية، إلى عمل جماعي تضامني له مناشدة وهدف مُوحد.
كذلك المواطن الذي وقف أعلى اللوحات الإعلانية لمدة من الوقت كانت كافية، لانضمام الجماهير إلى صوته وقضيته، لكن مكث الناس يتفرجون عليه حتى جاءت قوات الأمن واعتقلته.
رغم غضب فئات كثيرة من المجتمع المصري من سياسات القمع والإفقار الذي مارسها النظام الحالي عليها، فإن حالة الانهزام واليأس والخوف التي تولدت بفعل سياسات وسياقات عدة، قد تملّكت من الأفكار والممارسات اليومية لفئات مُجتمعية كثيرة، ما جعل منها أجسادًا جماعية فردانية يائسة مشلولة تجاه الأحداث الداخلية والخارجية، تتفاعل وتتحرك ببطئ وخوف في أحايين عدة، لكنها سرعان ما تعود إلى شللها بفعل الخوف من القتل والسجن وتمثلات قمعية أُخرى يستمر من خلالها النظام المصري في بقاء حكمه وإخضاع المجتمع.