مَنْ أخطأته صواريخ الاحتلال الإسرائيلي لن يفلته الجوع حتى ينال منه في قطاع غزة، ذلك هو الحال الذي عجزت أمامه ترسانة من القوانين الدولية التي صدرت منذ عقود، واعتبرت التجويع جريمة حرب، لكن المشهد بصوره المؤلمة القادمة من القطاع المحاصر، خصوصًا في شماله بعدما قطَّعت قوات الاحتلال المتوغلة أوصاله، وضع الكل، منظماتٍ ودول، أمام ساعة الحقيقة.
المفارقة أن جريمة التجويع المستفحلة في كل القطاع اليوم تشبه إلى حد كبير تجارب كثيرة سابقة عبر التاريخ، لا سيما تجربة كان ضحاياها يهودًا، فعلى الطريقة النازية، يتخذ الاحتلال الإسرائيلي من الخبز والماء سلاح حرب، ويستعير “خطة الجوع” من أدولف هتلر، لارتكاب إبادة جماعية في غزة، كيف ذلك؟
القتل بالتجويع
يعد استخدام التجويع أسلوبًا قديمًا في الحرب يمكن أن يعود تاريخه إلى قرون مضت، ففي عام 376 قبل الميلاد، خلال الحرب البيلوبونيسية، استخدم الإسبرطيون هذا التكتيك ضد أثينا، ولا يزال استخدام الجوع كسلاح حقيقة مؤسفة حتى يومنا هذا.
فرض النازيون رقابة شديدة على دخول الطعام لأحياء اليهود التي عُرفت بـ”الغيتوات”، وتحكموا في كمية المواد الغذائية بالمتاجر فيها على مدى سنوات
أُسيئ تصنيف المجاعة الجماعية عبر التاريخ باعتبارها ظاهرة طبيعية أو أحد الآثار الجانبية للصراع والقمع السياسي، وهذا يشكل فهمًا غير دقيق لجرائم المجاعة وظلمًا للضحايا، فهي تعني عملية حرمان تحدث عندما تعرقل الجهات الفاعلة قدرة الأشخاص المستهدفين على الوصول إلى وسائل الحفاظ على الحياة.
يسجل التاريخ حالات لا لبس فيها اُستخدم خلالها التجويع كأداة للإبادة الجماعية منذ مطلع القرن العشرين، فقد ارتكب الحكم الاستعماري الألماني أول مذابح الإبادة جماعية في القرن العشرين بحق شعبي هيريرو وناما في ناميبيا، وكان الحرمان من الطعام والشراب في أثناء الهولوكوست أشد وطأة، وسقط آلاف الأرمن عندما أُجبروا على السير إلى حلب على أقدامهم في ظروف قاسية دون طعام أو شراب.
وباعتبار التجويع سلاح حرب شائع، فقد استخدمه الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين لقتل ما يقَّدره المؤرخون بين 3 و12 مليون شخص، معظمهم من أصل أوكراني، بين عامي 1932 و1933، فيما يُعرف بـ”هولودومور“، أي “القتل بالتجويع”، وهي واحدة من أكثر الفصول مأساوية في تاريخ أوكرانيا التي كانت “سلة غذاء” البلاد بفضل حقول القمح الخصبة.
تعمدت السلطات السوفيتية إحداث هذه الكارثة عمدًا عندما أراد ستالين تجويع الفلاحين الأوكرانيين وإجبارهم على العمل في المزارع الجماعية الحكومية التي تسمى “كولخوز”، والتي ادَّعى أنها ستكون أكثر فعالية، وتنتج فائضًا من شأنه إطعام العمال الصناعيين، لكنه سعى في الواقع إلى معاقبة ذوي العقلية الاستقلالية الذين شكّلوا تهديدًا لسلطته الشمولية.
في عام 1932، تم رفع حصة الحكومة السوفيتية من المحاصيل بشكل يعجز الفلاحون عن تلبيته، فأمر ستالين بمصادرة ما أنتجه الفلاحين من الحبوب، ولم يبق لهم أو لأسرهم أي شيء، وغالبًا ما عوقب المزارعون الذين خزنوا محاصيلهم بمصادرة حقولهم ومنازلهم ونفيهم أو سجنهم أو إعدامهم.
مع تفاقم المجاعة، لجأ الفلاحون إلى قتل وأكل الحيوانات الأليفة والزهور وأوراق ولحاء الأشجار والجذور في محاولة البقاء على قيد الحياة، وحاول كثيرون منهم الهروب من القرى إلى المدن وخارج الحدود لعلهم يجدون الطعام، وتناثرت جثثهم في المدن وعلى جانبي الطرقات، وتحدثت أيضًا تقارير عن أكل لحوم البشر.
على مدى عقود من وجود المجاعة، أنكر مؤرخو الاتحاد السوفيتي في روسيا والغرب “القتل تجويعًا”، واختلفوا حول ما إذا كان من صنع الإنسان وما إذا كانت محاولة للقضاء على استقلال أوكرانيا، ومنذ عام 2006، اعترفت أوكرانيا و15 دولة أخرى بالمجاعة الكبرى باعتبارها إبادة جماعية ضد الشعب الأوكراني، ومع ذلك لم يتم محاسبة أي شخص قانونيًا على الإطلاق.
بعد سنوات من المجاعة الكبرى، استعان أدولف هتلر بهذا السلاح في الإبادة الجماعية لليهود خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، فقد كان يرى في شرق أوروبا وفير الموارد مجالًا حيويًا لضمان مستقبل الشعب الألماني.
وعندما غزت ألمانيا الشعب السوفيتي خلال عملية بربروسا عام 1941، شرعت في تنفيذ ما عُرف بـ”خطة الجوع”، التي صاغها هيربيرت باك الذي كان وزير دولة في وزارة الأغذية والزراعة بـ”الرايخ الألماني” حينها.
تضمنت الخطة التي راح ضحيتها الملايين الاستيلاء على الأراضي التي كان يسيطر عليها السوفييت ومصادرة محاصيلها بهدف إطعام القوات الألمانية، وذلك لتأمين الغذاء للألمان داخل ألمانيا في مقابل تجويع السكان المحليين حتى الموت.
استخدم هتلر سردية تفوق العرق الآري للدعاية لخطته وتبرير سرقة الأراضي والإمدادات من أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم “أدنى عرقيًا” أو أولئك الذين اُعتبروا “غير جديرين بالعيش” أو مَنْ أُطلق عليهم “المستهلكون عديمو الفائدة”، وشمل ذلك البولنديين والغجر والسلاف وذوي الإعاقة والمثليين واليهود الذين كانوا على رأس القائمة.
فرض النازيون رقابة شديدة على دخول الطعام لأحياء اليهود التي عُرفت بـ”الغيتوات”، وتحكموا في كمية المواد الغذائية بالمتاجر فيها على مدى سنوات، وفي معسكرات الاعتقال والعمل القسري حُددت حصص طعام يومية هزيلة للسجناء تكاد تكون خالية من البروتينات والدهون التي كانت مخصصة حصريًا للألمان.
وبعد الحرب العالمية الثانية بنصف قرن تقريبًا، كانت مدينة سربرنيتسا شاهدة على أسوأ مذبحة لطَّخت وجه أوروبا الحديث، وراح ضحيتها 8 آلاف مسلم عندما حاصرتها القوات الصربية بقيادة راتكو ميلاديتش لمدة 43 شهرًا بلا كهرباء أو ماء، بتحريض من صرب البوسنة ومن خلفهم “جزَّار البلقان” زعيم يوغسلافيا سابقًا سلوبودان ميلوسوفيتش في تسعينيات القرن الماضي، بهدف تطهير المنطقة من مسلميها.
استمرت المذبحة أيامًا تحت أعين الكتيبة الهولندية التابعة للأمم المتحدة، حتى سقطت المدينة ذات الغالبية المسلمة بعد عزلها تمامًا عن بقية العالم، تمامًا كما عزلت القوات الصربية الرجال والفتيان، وأعدمتهم ميدانيًا أمام عائلاتهم، واستهدفت النساء والفتيات واغتصبتهن ورمت جثثهن في الشوارع.
تكتيكات التجويع.. قتل جماعي بطيء
أحد الأسباب الرئيسية للجوع هو الصراع الذي يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على المدنيين المحاصرين في مناطق القتال، خاصة عندما يستمر لسنوات أو عقود، وفي بعض الأحيان يكون هذا ضررًا جانبيًا للمجاعة الناجمة عن انهيار البنية التحتية والنزوح القسري، وفي أحيان أخرى، تتعمد القوات استخدام الجوع كسلاح حرب.
في الصراعات الأخيرة والحالية، استخدم المقاتلون هذا التكتيك من خلال تدمير النمط الموسمي لزراعة المحاصيل أو تهجير السكان الزراعيين أو تدمير المحاصيل أو الأراضي الزراعية أو مصادر الغذاء الأخرى، كما منعت الأطراف المتحاربة وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان الذين يعانون من الجوع.
يُستخدم سلاح التجويع الممنهج الأشد فتكًا من السلاح الكيميائي والصواريخ، ويبدأ بفرض حصار على منطقة يقطنها مدنيون لتبدأ بعدها المساومات السياسية والصفقات تحت مسميات الهدنة
قبل أكثر من 50 عامًا، رأينا كيف أن الصراعات المطولة والإستراتيجيات العسكرية المنهجية تخلق الظروف اللازمة لإعلان المجاعة التي تحدث عندما تواجه 20% من الأسر نقصًا شديدًا في المواد الغذائية، ويعاني 30% من الأطفال من سوء التغذية الحاد، وأن يتجاوز معدل الوفيات اليومي بسبب الجوع الشديد أو نتيجة لسوء التغذية والمرض معًا حالتي وفاة لكل 10 آلاف شخص.
هذا التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو مقياس تعتمده الحكومات والمنظمات الدولية لتعريف مراحل الأمن الغذائي، تجاوزته الكثير من المجاعات المتعمدة على مدار العقود القليلة الماضية، فمثلًا، بعد إعلان منطقة بيافرا استقلالها عن نيجيريا بعد الحصول على السيادة من بريطانيا عام 1960 تقدمت القوات النيجيرية، وأقامت حواجز على الطرق، وأعلنت أن المجاعة سلاح مشروع في الحرب، وتم تجويع السكان عمدًا حتى الموت.
وانقطع الغذاء عن سكان بيافرا البالغ عددهم 13 مليون نسمة، وانتشر الجوع لأول مرة في المنطقة في سبتمبر/أيلول عام 1967، وفي ذروة الحرب، كان يموت من الجوع كل يوم ما يقدر بنحو آلاف شخص من بينهم 6 آلاف طفل، وفي غضون 3 سنوات، مات ما يقدر بنحو مليوني مدني، أو 15% من سكان المنطقة.
وفي بعض الحالات، لا يكون الجوع سلاحًا من أسلحة الحرب بل نتيجة لذلك، فقد شهدت السنوات التي أعقبت استقلال بنغلاديش عن باكستان عام 1971، ارتفاع معدلات التضخم نتيجة تدمير بنيتها التحتية واقتصادها، وبحلول أوائل عام 1974، ارتفعت أسعار الأرز بشكل كبير، وفي الوقت نفسه، دمرت الفيضانات المحاصيل، ما تسبب في مزيد من النقص والتضخم، وبحلول وصول المساعدات الخارجية في أواخر العام، تراوحت تقديرات الوفيات المرتبطة بهذه المجاعة بين 27 ألف و1.5 مليون.
وفي كمبوديا، التي سميت وقتها كمبوتشيا الديمقراطية، أودت الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي بحياة ما يُقدَّر بنحو 25-33% من سكان البلاد قبل الحرب، ونُسبت العديد من هذه الوفيات إلى معسكرات العمل التابعة لحكومة الخمير الحمر الموصوفة باسم “نظام الإبادة الجماعية”، لكن استخدامها الجوع كسلاح امتد إلى ما هو أبعد من هذه المعسكرات، وغالبًا ما كان مسؤولو منظمات الأغذية يُمنعون من الوصول إلى المناطق المحددة، وكان ذلك متعمدًا من جانب أعضاء حزب الخمير الحمر، الذين عرفوا أن إضعاف قوات المعارضة لن يمكنها من القتال.
كذلك أسفرت الحرب الأهلية التي دامت 16 عامًا في موزمبيق عن سقوط مليون ضحية بين المدنيين، وفي الثمانينيات، حدثت مجاعات كبرى، وربط تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” لعام 1992 أسبابها بين المزيج من الإستراتيجيات العسكرية وانتهاكات حقوق الإنسان والمجاعة التي كلفت أرواحًا أكثر بكثير من تلك التي أزهقت بشكل مباشر بسبب العنف نفسه.
وفي السودان، يصف تقرير لجنة مراقبة إفريقيا 4 مجاعات شهدها خلال الحرب الأهلية الثانية (1984-1998)، بأنها “كارثة من صنع الإنسان بالكامل”، فقد استخدمت القوات الحكومية والمتمردة تكتيكات عسكرية كانت لها نتيجة متوقعة تتمثل في خلق مجاعة، بما في ذلك الحرمان المنهجي من الإغاثة الغذائية.
حصدت المجاعات الأربعة أرواح ما يزيد على نصف مليون سوداني، وشكَّلت جغرافية المواقع التي شهدت تجويعًا ممنهجًا ما وُصف في ذلك الوقت بـ”مثلث المجاعة”، وهو المثلث الذي لا يزال يعاني في جنوب السودان حتى يومنا هذا.
ويتشابه الوضع في الصومال، حيث استخدمت الفصائل المسلحة ما كان متاحًا من الغذاء كسلاح لفرض سيطرتها، وأحرقت المحاصيل في المناطق الزراعية الرئيسية في البلاد، ودفعت العديد من الصوماليين إلى الفرار من منازلهم مع محدودية الموارد الزراعية وغياب الرقابة الحكومية.
ولا يزال انعدام الأمن الغذائي مستمرًا في الصومال حتى اليوم، مع وجود مجاعة كبرى أخرى تعزى إلى الجفاف، وفي عام 2021، صُنفت على أنها الدولة الأكثر جوعًا في العالم، حيث يواجه أكثر من 50% من سكانها البالغ عددهم 10 ملايين نسمة شكلاً من أشكال انعدام الأمن الغذائي، ولا يزال الصراع يعيق الوصول إلى مناطق معينة، ما يمنع المواد الغذائية والسلع الأخرى من الانتقال من جزء من البلاد إلى آخر.
وفي مقاطعة كاساي بجمهورية الكونغو الديمقراطية يعاني نصف الأطفال، أي نحو ثلاثة أرباع مليون طفل، من سوء التغذية الحاد بعد اندلاع القتال بين الجيش ومقاتلي حركة “23 مارس” المتمردين، تاركًا خلفه أكثر من مليون نازح، أغلبيتهم غير قادرين على العثور على الطعام، لكن الجوع ما زال قائمًا بينما يكافح المزارعون لإعادة زراعة الحقول التي تم نهبها.
وفي المنطقة العربية، من سوريا إلى اليمن مرورًا بالعراق، يستخدم سلاح التجويع الممنهج الأشد فتكًا من السلاح الكيميائي والصواريخ، ويبدأ بفرض حصار على منطقة يقطنها مدنيون لتبدأ بعدها المساومات السياسية والصفقات تحت مسميات الهدنة المكلفة للكثيرين.
في سوريا، البلد الذي يتدفق إليه السلاح من كل جهة وتندر فيه قطعة خبز لآلاف المدنيين الذين مات المئات منهم جوعًا، اُتهمت الحكومة بارتكاب جرائم حرب بعد استخدام إستراتيجية الاستسلام أو التجويع، ومنع وصول الإمدادات الغذائية والطبية الحيوية، وحصار المناطق التي تعاني من المجاعة، ومنها الزبداني التي خضعت لحصار طويل وقاتل من جانب النظام السوري ومَنْ معه من الميليشيات العابرة للحدود عبر عشرات الحواجز ليقضي مَنْ يقضي جوعًا ومرضًا.
قبل الزبداني التي مات فيها الناس ألف مرة قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، كان هناك مضايا وحي الوعر وسجون نظام الأسد ومخيم اليرموك للاجئين وغيرها من المناطق التي شهدت حصار وابتزاز سكانها مقابل إدخال المساعدات، ما أدَّى إلى وفاة المئات في مناطق لا تدفع ثمن خروجها على النظام وحسب، بل ضحية التجويع على الهوية.
الأخطر في النموذج السوري هو دور الأمم المتحدة الحاضرة الغائبة في الصراع، والتي اُتهمت بفشلها في إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة، وتُنتقد لدورها في الوساطات التي تؤدي إلى هدن يريدها النظام لتفريغ مناطق من سكانها بغية تغيير ديموغرافية سوريا.
وحيث لا مجيب لنداءات الاستغاثة والمناشدات الإنسانية، فقد اُضطر الناس لأكل ما لا يؤكل: أوراق الشجر والقمامة وحتى القطط والكلاب لسد الرمق، لا فرق في ذلك بين شيخ وصبي وامرأة في بلد نهشت لحمه حسابات حرب مدمرة.
لا تقل حرب التجويع في اليمن قسوة ولا بشاعة، تجويع متعمد يرقى إلى جرائم حرب وفق الأمم المتحدة، فنحو 6 ملايين شخص يفتقرون للإمدادات الغذائية الأساسية، وقد رفع حصار تعز من ميليشيا الحوثي وقوات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح العدد أكثر.
جهرًا وعلنًا، يسرق الحوثيون وقوات صالح المساعدات الإنسانية الموجهة للمناطق المحاصرة، والتي باتت ورقة ضغط لتغيير مسار المعارك بين الأخوة الفرقاء، ولفرض شروط مسبقة لمحادثات السلام المقبلة.
صعوبة الوضع دفعت الكثير من المدنيين في المدن اليمنية الغنية بالموارد إلى التضرع لله من أجل الموت قريبًا بعد أن فقدوا الأمل في الخلاص، وتعبوا من انتظار فك الحصار وانتهاء الحرب بكل لعناتها.
في مكان وصراع آخر، قُتل مئات العراقيين في الأنبار بنفس السلاح، حيث تروي قصص العائلات الناجية من حصار الرمادي والمواجهات التي دارت بين الجيش العراقي وميليشات الحشد الشعبي ضد تنظيم داعش كيف تحولت حدائق بعض المنازل إلى مقابر.
جريمة حرب تتجاوز ترسانة القوانين الدولية
رغم الجذور القديمة للتجويع كتكتيك حربي، فإن هذه الجريمة لم تُمح بعد من التاريخ، ولا تزال سمة مهمة للحرب الحديثة، واليوم، لم يصبح تجويع السكان المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب حقيقة واقعة في العديد من البلدان بما في ذلك سوريا وتيغراي واليمن والآن فلسطين فحسب، بل إنها أيضًا جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
كانت الخطوة المهمة الأولى التي اُتخذت لحظر استخدام التجويع في الحروب من خلال اعتماد البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 لاتفاقيات جنيف، واللتين صدقت عليهما 174 و169 دولة، على التوالي، وبموجبها لا يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب فحسب، بل يُحظر أيضًا تدمير الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة.
بات القتل الجماعي البطيء بلا دخان ولا نار شائعًا ومكررًا في فوضى حروب تُستباح فيها الكرامة الإنسانية
رغم أن الاتفاقيات قد حظرت صراحةً التجويع كوسيلة من وسائل الحرب منذ عام 1977، فمن المثير للاهتمام أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لم يعترف بانعدام الأمن الغذائي المرتبط بالنزاع كقضية سلام وأمن إلا بعد أكثر من 4 عقود، وتحديدًا منذ عام 2018، عندما اعتمد القرار 2417. الذي يؤكد على أن استخدام تجويع المدنيين كوسيلة للحرب قد يشكل جريمة حرب بغض النظر عن تصنيف الصراع.
في عام 1998، عندما اُعتمد نظام روما الأساسي، أصبحت المحكمة الجنائية الدولية لاحقًا تتمتع بصلاحية مقاضاة والتحقيق في جريمة الحرب المتمثلة في التجويع المتعمد، ومع ذلك، عند اعتماد المادة 8، تم تطبيقها فقط في سياق الاتفاقيات الدولية المسلحة، ولم يكن لدى الغالبية العظمى من ضحايا التجويع المتعمد أي حق للجوء إلى المحكمة، وذلك لأن معظم النزاعات المسلحة منذ الحرب العالمية الثانية اتخذت شكل حرب أهلية أو تمردات أو غيرها من النزاعات المسلحة، وتندرج ضمن فئة النزاعات المسلحة غير الدولية.
ولم يتم تصحيح استبعاد تجريم التجويع المتعمد وتكاليفه الإنسانية الشنيعة في النزاعات المسلحة غير الدولية إلا بعد مرور عام على اعتماد قرار مجلس الأمن رقم 2417، ففي عام 2019، تم تعديل النظام الأساسي ليشمل جريمة الحرب في سياق النزاعات المسلحة غير الدولية، ومع ذلك لم يتم بعد الاستفادة من هذا التعديل، ولم تتم حتى الآن محاكمة مرتكبي هذه الجريمة على المستوى الدولي، ما يفاقم من عدم اليقين القانوني.
هناك عدة عوامل ربما ساهمت في إفلات مرتكبي هذه الفظائع من العقاب على جرائم الحرب من بينها اشتراط المادة 8 من نظام روما الأساسي إثبات أن مرتكب الجريمة قد استخدم عمدًا التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، كما أن المحكمة الجنائية ليس لها اختصاص على الدول التي ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، والذي يشمل دولًا مثل جنوب السودان وسوريا واليمن.
تجويع غزة على الطريقة النازية
على مدى السنوات الخمسين الماضية، يُروَّج لتطور القانون الإنساني الدولي والقانون الجنائي الدولي وإنشاء إطار يمكن من خلاله محاسبة مرتكبي جريمة التجويع المتعمد للمدنيين، ومع ذلك، بات القتل الجماعي البطيء بلا دخان ولا نار شائعًا ومكررًا في فوضى حروب تُستباح فيها الكرامة الإنسانية.
لاحق القصف والرصاص حتى من كانوا واقفين في طوابير انتظار الحصول على ما يسد الرمق مثلما حدث قبل أيام قليلة في “مجزرة الطحين” في دوار النابلسي التي راح ضحيتها 115 فلسطينيًا
في قطاع غزة المحاصر منذ عقدين، ما زال ينتهج الاحتلال سياسة مشابهة لتلك التي انتهجها هتلر وستالين وغيرهم من الديكتاتوريين عبر التاريخ، فقد ترافق القصف والاستهداف للمنازل ونسف المربعات السكنية وعزل المناطق بحصار مشدد مع حرب أخرى، هي الحرب على مصادر الحياة الأساسية، حتى بات يتحكم في كل شيء، ليس أقلها عدد السعرات الحرارية اللازمة للفرد، إلى جانب قطع الكهرباء وحظر الوقود ومنع دخول الأدوية والمياه الصالحة للشرب.
في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان على 1.1 مليون شخص من الشمال والمناطق المجاورة أن يتوجهوا ناحية الجنوب بأمر من الاحتلال الإسرائيلي، لكن القصف المستمر والغارات التي استهدفت مناطق سكنية وحتى مراكز إيواء للنازحين أدَّت حسب الأمم المتحدة إلى موجة فرار ونزوح لنحو 1.9 مليون شخص ليتوجهوا بالذات نحو رفح التي تضم الآن أكثر من نصف سكان القطاع، وهي المنطقة التي كان يبلغ عدد سكانها في الأصل قرابة 250 ألف نسمة قبل الحرب.
ومنذ الأسابيع الأولى للحرب على القطاع دمر الاحتلال عشرات المخابز وألحق أضرارًا كبيرة بها وبمرافق تخزين الأغذية وتوزيعها، إضافة إلى فرض قيود على المساعدات والإمدادات، والسماح بدخول إمدادات أقل من تلك التي كان يستقبلها القطاع الذي يعيش سكانه أصلاً شحًا كبيرًا في المواد الأساسية بسبب حصار القطاع.
ومنعت الحرب وصول 30 ألف طن من الدقيق كان من المفترض توزيعها من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قبل اندلاع الحرب، وبعد أن خلت منه الأسواق، لجأ الفلسطينيون إلى طحن حبوب الذرة وشعير أعلاف الحيوانات.
وعلى خلفية عملية “طوفان الأقصى” الأخيرة، يفاقم الاحتلال يومًا تلو الآخر أزمة أكثر من مليوني مدني من خلال الاستهداف الممنهج للمخابز والأسواق ومراكز التسوق في وقت ذروة تحرك السكان لشراء احتياجاتهم التي لم تعد موجودة أصلًا اليوم، وإن وُجدت فسعرها يفوق قدرة الناس على شرائها.
وازداد الوضع صعوبة بعد أشهر من الحرب، إذ حذرت الأمم المتحدة من مجاعة محققة، حيث انهارت الأرقام من 450 شاحنة مساعدات كانت تصل إلى القطاع يوميًا بحسب الأمم المتحدة قبل فرض الحصار الشامل الأخير إلى ما معدَّله 95 شاحنة فقط إلى القطاع، ما بين 10 أكتوبر/تشرين الأول ومطلع العام الجاري، وفقًا للهلال الأحمر الفلطسيني، لتتعذر أكثر الآن حتى لا تتجاوز بضع شاحنات كل أسبوع.
عجز تام عن إيصال الغذاء والماء والدواء لمئات الآلاف من قطاع غزة، بل الأمر ألا تتمكن منظمات دولية – من الصحة العالمية إلى برنامج الأغذية العالمي والفاو واليونيسيف وغيرها – من فرض ما يمكِّنها من أداء دورها الذي وُجدت لأجله، وهو إنقاذ الأرواح.
برنامج الأغذية العالمي أعلن مؤخرًا تخليًا مريبًا عن تقديم الإغاثة لشمال القطاع حتى تسمح الظروف بتسليم آمن كما يقول، وأكد أن القرار لم يُتخذ استخفافًا، محذرًا من أن ربع سكان القطاع يواجهون خطر الموت جوعًا بعد استنفاد إمداداتهم الغذائية، وأن القطاع انضم إلى المناطق الواقعة على شفير المجاعة كاليمن وأفغانستان والصومال وهايتي.
قطاع غزة، وخصوصًا في الشمال، بات ضحية لحملة تجويع ممنهجة تتمثل في عدم السماح بإدخال مساعدات كافية إليه وفق الأمم المتحدة، التي أشارت منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى أن أكثر 25% من الأسر في قطاع غزة تعاني الجوع الشديد، وأكدت أن كل سكان غزة، أي نحو 2.2 مليون شخص، يعانون من مستويات سيئة من الانعدام الحاد للأمن الغذائي.
وفق المعايير الدولية، فإن متوسط المياه العام للفرد الواحد يبلغ 15% لترًا في اليوم، أمَّا في غزة فهذا المتوسط يبلغ نحو لتر للفرد يوميًا، ولكن مع ندرة في توافر المياه الصالحة للشرب بات أقل من ذلك.
ويعد الأطفال الفئة الأكثر تضررًا من سوء التغذية في غزة، فقد أجبرتهم الحرب القاسية على ترك ألعابهم بينما باتوا لا يفارقون أطباقهم الفارغة، فقد يناولون بعض الفُتات المتناثر في صناديق القمامة نتيجة شح المواد الغذائية، أمَّا الأصغر سنًا، لا سيما من هم دون الثالثة، فيُحرمون عمدًا من الفيتامينات والمعادن الأساسية للنمو، وبالتالي هم معرَّضون للتقزم وحتى الموت.
كما أن الحوامل أكثر عرضة للإصابة بالأمراض في ظل الاكتظاظ الكبير داخل مراكز الإيواء وتكدس النفايات وانعدام وسائل النظافة، وترتفع حالات الوفاة بينهن خلال الولادة، وقد سُجلت حالات قاسية لولادات تحت القصف والاستهداف الإسرائيلي.
وقد تكون صادمة أرقام تقرير صدر الشهر الماضي عن مجموعة التغذية العالمية، وهو تجمع لمنظمات غير حكومية وأخرى تابعة للأمم المتحدة، فواحدة من كل 4 أسر، أي نحو نصف مليون شخص، تواجه ظروفًا كارثية، وقلَّصت 95% من الأسر في قطاع غزة من عدد وجباتها في اليوم، حيث بات نحو ثلثي (66%) أسر القطاع يتناولون وجبة واحدة فقط يوميًا، وتقضي بعض العائلات أيامًا وليالي دون تناول الطعام، ويتناول 90% من الحوامل مجموعتين غذائيتين فقط.
ويحذر تقرير منظمة اليونسيف في شهر يناير/كانون الثاني الماضي من أن القطاع على وشك أن يشهد انفجارًا في عدد وفيات الأطفال نتيجة الأزمة الغذائية الحادة، موضحًا هول المأساة بالأرقام، فـ90% من الأطفال دون سن الخامسة مصابون بواحد على الأقل من الأمراض المعدية، وفي الشمال يعاني 1 من كل 6 أطفال دون سن الثانية من سوء التغذية الحاد، أي أكثر من 15%، منهم 3% مصابون بالهزال الشديد، أمَّا في جنوب القطاع، وتحديدًا في رفح، فخلصت إلى أن 5% من الأطفال دون سن الثانية يعانون من سوء التغذية الحاد.
وضع غير مسبوق وتجويع متعمد لنحو مليوني من سكان غزة، سقط بالتزامن معه مشروع قرار – بـ”فيتو أمريكي” داخل أروقة مؤسسات تنفيذية مفترضة لحفظ الأمن والسلم العالميين – يدعو إلى وقف مباشر للحرب وإدخال المساعدات الإنسانية في غزة، وهذا ما جعل الجزائر، التي اقترحت المشروع، تقول إنه “ضوء أخضر لتجويع الفلسطينيين”، بينما لم تلتزم “إسرائيل” بقرار سابق لمجلس الأمن يفرض عليها تسهيل دخول المساعدات للقطاع.
بدورها، أشارت منظمة “أنقذوا الأطفال” إلى أن الإمدادات المنقذة للحياة التي تعتمد عليها الأسر في غزة إما أُدخلت بشكل هزيل جدًا وإما رفضتها “إسرائيل” بشكل منهجي، وحذرت من أن التوغل في رفح سيوقع حكم الإعدام بحق أطفال غزة.
وحتى اليوم، يستمر القتل الممنهج بسلاح الحصار الغذائي، فلا مساعدات دخلت إلى غزة، والناس يموتون فيها على مرأى ومسمع العالم، وليكتمل مشهد التجويع، لاحق القصف والرصاص حتى من كانوا واقفين في طوابير انتظار الحصول على ما يسد الرمق مثلما حدث قبل أيام قليلة في “مجزرة الطحين” في دوار النابلسي التي راح ضحيتها 115 فلسطينيًا، وجُرح أضعافهم في أثناء هروبهم من الموت جوعًا.
الإمعان في تجويع المدنيين هدفه كسر إرادتهم وتحطيمهم نفسيًا وجسديًا، فـ700 ألف فلسطيني الباقون في الشمال هم مثال صارخ حي على التشبث بالأرض في ظروف بالغة الخطر، وهؤلاء وسواهم في كل غزة هم مَنْ خرج من بينهم المقاومون، فيما لا شكل غير العار يرسمه البعد الأخلاقي لجريمة التجويع المستفحلة على الأقربين من عرب ومسلمين، والانكشاف للبعيدين من حكومات الشعارات الإنسانية ومعاييرها المزدوجة في الغرب.
لذلك، فإن من شأن تجويع المدنيين، فضلًا عن الانتقام، هو الضغط على المقاتلين والدفع لما يُروَّج له بالاستسلام مقابل السلام والغذاء، وذاك وضع ينحط بجيش الاحتلال إلى أدنى ما تبلغه الجيوش، حين يبحث عبثًا عن طريق للنصر وطريقة للإنجاز ولو بصورة، فلا يجد غير النصر على خبز الناس وحليب الأطفال ودواء النساء والشيوخ.
منذ 5 شهر، وحصار غزة مطبق من كل الجهات، لكن في بعض الأحيان قرار العيش يبقى، ويستمر الصراع من أجل الحياة، فيما تؤكد الأيام والوقائع أن تركيز الحرب على الشعب وليس على مجموعة أو حركة، ووفق هذا المنطق الزائف، يصبح الفلسطيني هو العدو ببندقية أو رغيف خبز أو كوب ماء، وهل لذلك اسم غير تطهير عرقي وإبادة جماعية؟