تبدأ الثورات عادةً بأهدافٍ نبيلةٍ تسعى لتغيير أو إصلاح الوضع إلى ما هو أفضل منه، وبالتبحر في أدبيات الثورات التي ظهرت للسطح عبر التاريخ، نلاحظ أن بعض الثورات حققت نجاحًا بفضل عزم الجماهير وحرص وكفاءة ووحدة القوى السياسية المدنية وتمتعها بأخلاقيات المسؤولية التي تعني، وفقًا لماكس فيبر، تنحية الخلافات الشخصية والحزبية التي كانت مهيمنة على وضع ما قبل تسلم منصب وطني، جانبًا من أجل المصلحة العليا. ومثلما كانت هناك ثورات نضالية حققت أهدافها نسبيًا على مراحل، أبرز التاريخ ثورات غاصت نخبتها في الفرقة والنزاعات، ورهن قرارها بالخارج، ومحاولة طُغمة من قياداتها الاستئثار بالساحة الداخلية لصالح حساباتها عبر كسب الدعم الخارجي لإحراز هيمنة سائدة على حساب الأحزاب أو المجموعات الوطنية الأخرى، وبالتالي تم الابتعاد عن الهدف الرئيسي.
ومن هذا المنطلق، يبدو لي أن الثورة السورية مشابهة إلى حدٍ كبير للثورة الفلسطينية الحديثة التي انطلقت في منتصف الستينيات من أجل تخليص فلسطين من ربقة المحتل، إلا أن تيارًا من داخلها حاول في بداية التسعينيات الاستئثار بالساحة الداخلية وفقًا لأهدافه دونما الرجوع إلى شركاء القضية، وفي منتصف التسعينيات بات هذا التيار يشكل طُغمة تحظى بدعم خارجي مادي حوَّلها من جماعة ثائرة إلى جماعة متناحرة مع الشركاء الذين تريد إخضاعهم لرؤيتها، الأمر الذي آل بالثورة الفلسطينية التي انطلقت ضمن إطار قضية نضال ترمي إلى تحرير البلاد، للسقوط رهينةً بيد “كيان نفعي” يحوي المنتفعين الذين يمسكون بزمام الأمور، ويتعاونون مع المحتل وداعميه على حساب قضية الوطن وأهدافها، وهذا ما آلت إليه، وفقًا لكثير من المؤشرات، الثورة السورية بعد عام 2013.
ولتوضيح أوجه الشبه بين القضيتين الفلسطينية والسورية وما آلتا إليه، أستند إلى نهج “التراكمية” الذي يعني تطوير الرأي بالاعتماد على رأي مسبق، وفي هذا الصدد، أعتمد على مقال الرأي الخاص بالباحث ثابت العمور، والذي نُشر في “العربي الجديد” تحت عنوان “ماذا تبقى من أوسلو؟”
ربما لطول فترة الثورتين السورية والفلسطينية دور أساسي في تحول عدد كبير من الثائرين، وليس الكل، إلى مجرد منتفعين براتب توفره لهم دول فاعلة تحركهم وفقًا لأجنداتها
يشرح الباحث، في مقاله، خطوات انحراف مسار النضال الفلسطيني عن أهدافه الأساسية، وتحوله لمسار انتفاعي ما بعد اتفاقية أوسلو المُوقعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وانطلاقًا من ذلك، نرصد أوجه التشابه بين محادثات جنيف وأستانة السورية وأوسلو الفلسطينية وما نتج عنهما على النحو التالي:
أولًا: فيض من المؤتمرات التي لا يتمخض عنها شيء: فبينما تدحرجت اتفاقات أو محادثات القضية الفلسطينية ما بين اتفاق أوسلو، واتفاق غزة ـ أريحا، مرورًا ببروتوكول باريس الاقتصادي، انتقالًا إلى اتفاق طابا، ثم “واي ريفر” الأول والثاني، وصولًا إلى خريطة الطريق، وختامًا اتفاق أنابوليس، تدحرجت اتفاقات أو محادثات القضية السورية ما بين جنيف 1 و2 و3 و4 و5 و6 وربما جنيف اللانهائية، مرورًا باجتماعات مجموعة دول أصدقاء سوريا في باريس ولندن ونيويورك، ومن ثم محادثات كيري ـ لافروف، وختامًا محادثات أستانة التي لم نعد نعلم هل ستصبح لانهائية كجنيف أم ماذا؟
وفي ختام جميع هذه المؤتمرات حظي الشعبان، الفلسطيني والسوري، بخفي حنين، ففلسطين لا زالت تقاسي من الاحتلال وبطشه، فضلًا عن حالة التيه السياسي والضياع الاقتصادي التي تتربص بمواطنيها، والسوريون ليسوا بأحسن حال، فالثورة التي انطلقوا تحت لوائها من أجل الحرية والكرامة والمساواة انتهت بتسابق نخبتها السياسية نحو اعتماد أوراقها في الدول الإقليمية والعظمى، مما أدى إلى ظهور منصات القاهرة والرياض وإسطنبول “الائتلاف الوطني”، وغيرها، فضلًا عن بدء عدد من تلك الجهات موسم الحج إلى موسكو، حيث كان آخرها زيارة “حركة التجديد الوطني” المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين. ولم يحصل المواطن السوري من هذه المنصات إلا على الخطابات الإعلامية التي أحالت قضيته إلى أحلامٍ انتهت بكوابيس مؤلمة.
تحول ثوار القضية الفلسطينية، بشكل أساسي، إلى منتفعين براتب بعد رهن قرارهم بصدام حسين إبان حربه على الكويت، وبالتالي قطع طيف من الدول العربية الدعم عنهم، مما اضطرهم لخوض عملية سلام مع الجانب الإسرائيلي، بعد انقطاع اتصالهم مع الدول الأخرى
ثانيًا: الفشل في حماية الملفات الأساسية وتحويلها إلى ملفات ثانوية: كان هدف الثورة الفلسطينية الأول هو القدس كعاصمة، وعودة اللاجئين كحق تكفله المواثيق الدولية، لكن مع انطلاق “محادثات السلام” أخفق “المُفاوضون باسم فلسطين” في حماية هذه الملفات وأصبحت القضية مقسمة ما بين ملف اللاجئين والحدود والمياه والتجارة والرواتب، وبذلك تحولت القضية الفلسطينية إلى محتوى من الملفات الثانوية التي أصابت الملفات الأساسية في مقتل. ولا يختلف مسار “محادثات السلام” السورية كثيرًا عن تلك الفلسطينية، فملفات الحرية والكرامة والمساواة، تحولت إلى ملف حل النزاعات بين الفصائل العسكرية المتعددة المتحاربة ومحاربة الإرهاب وإعداد دستور ومناطق الهدنة ومؤسسات الحكم والمجالس المدنية والمنظمات المدنية، وغيرها من الملفات التي أخذت بالثورة السورية نحو باب “الاتجار بها” و”الحياد عن الملفات الأساسية”.
ثالثًا: تحول الثائر إلى منتفع براتب: ربما لطول فترة الثورتين السورية والفلسطينية دور أساسي في تحول عدد كبير من الثائرين، وليس الكل، إلى مجرد منتفعين براتب توفره لهم دول فاعلة تحركهم وفقًا لأجنداتها، حتى تستطيع تحقيق القدر الممكن من مآربها بعد استيعابها أن معادلة “الحل أو الجمع الصفري” في حل القضية الفاعلة فيها باتت مستحيلة، وأن معادلة “الحل النسبي” التي تفيد بضرورة تقاسم النفوذ، هي الأكثر رجوحًا، وفي إطار هذه المعادلة تتحول، عادةً، الدول الداعمة إلى دول ترغب فقط بتحقيق نفوذ يُرجِّح كفة الميزان لصالحها في عملية الحل السياسي، وتصبح بمعزل عن هدف دعم الثورة حتى تحقق مآربها.
فقد تحول ثوار القضية الفلسطينية، بشكل أساسي، إلى منتفعين براتب بعد رهن قرارهم بصدام حسين إبان حربه على الكويت، وبالتالي قطع طيف من الدول العربية الدعم عنهم، مما اضطرهم لخوض عملية سلام مع الجانب الإسرائيلي، بعد انقطاع اتصالهم مع الدول الأخرى، ومر الثائرون السوريون بذات المرحلة، حينما رهن جزء كبير منهم قرارهم بتركيا في البداية، ومن ثم بالمملكة العربية السعودية التي أتساءل كيف كان لها أن تدعم أهداف ثورة هي تحرمها على مواطنيها، وقطر، وغيرها من الدول التي تخلت عنها، في نهاية المطاف، في سبيل حماية مصالحها القومية.
تنويع الجهات الخارجية الداعمة، وتوحيد الصفوف هما العنصران الأساسيان لنجاح أي ثورة أو قضية عادلة
وهذا ما ضيق أفقهم وحصر تحركهم واضطرهم في النهاية إلى الانصياع لعملية السلام، وفقًا لإملاءات الدول المنتفعين منها، وربما يمكن القول إن الثورة السورية تحولت إلى مجرد ورقة مرهونة، بالكامل، بأيدي دول أخرى، عام 2013. وتعدد الأسباب عن انتهاء الثورة السورية في ذلك العام، غير أن ظهور فصائل قاعدية، هيمنت على بقاع كبيرة، واتساع رقعة سيطرة القوات الكردية المهددة للأمن القومي التركي، وانقسام الائتلاف الوطني ما بين مؤيد لتنويع العلاقات الدولية كمعاذ الخطيب الذي اقترح التفاوض مع موسكو عام 2013، وأحمد الجربا الذي جنح للتقرب من المملكة العربية السعودية ومصر، ومن بقي سائرًا على علاقات وطيدة مع تركيا ومحورها فقط، كالمجلس الوطني، الذي رفض اقتراح الخطيب عام 2013، وطفق يُرسل ممثلين عنه إلى موسكو حتى الفترة الحالية، وفي نهاية المطاف، تحول جزء واسع من الثوار إلى “منتفع” عبر الدول الداعم أو منظمات المجتمع المدني أو غيرها من الجهات.
وللأسف عندما يتحول الثائر إلى منتفع، يصبح جلادًا للمطالبين بالرجوع إلى أهداف الثورة الأساسية، ولعل صد جيش الإسلام في الغوطة الشرقية لأكثر من مسيرة شعبية خرجت تطالب بمنح الشعب مزيد من الحرية والحياة المدنية في المناطق المحررة، إلى جانب تصدي حركة أحرار الشام لذات المظاهرات في إدلب، يمثلان مثالين نموذجين عن تجردهما من ثياب الثائر وتحولهما “لمنتفع دكتاتوري” يريد الاستئثار بالساحة، بعيدًا عن الأهداف الوطنية الأساسية للثورة. وبينما ظهر التحول في مسار القضية الفلسطينية من خلال إلغاء الميثاق الوطني وإلغاء المواد التي تطالب بمقاومة الاحتلال، برز التراجع في القضية السورية عبر إخفاق المؤسسات الأولى كالجيش الحر، في الحفاظ على تماسكه وتأسيس فصائل متشرذمة في الأهداف والطموح التي كان مُعظمها غير وطني ومرتهن للخارج.
في المحصلة، قد يرى كثير من المتابعين أن توفير العناصر اللازمة لإنجاح الثورة، كتوحيد عزم الجماهير وتوفير كفاءة مدنية وعسكرية ثورية مُوحدة وزاخرة بأخلاقيات المسؤولية، هو أمر مثالي في ظل وجود تدخل خارجي، غير أن التاريخ القريب يُظهر أن فيتنام وجنوب إفريقيا، وغيرهما، استطاعت الامتثال لهذه العناصر، وتمكنت من تحقيق أهداف ثوراتها، فتنويع الجهات الخارجية الداعمة، وتوحيد الصفوف هما العنصران الأساسيان لنجاح أي ثورة أو قضية عادلة، وفي كلا الثورتين الفلسطينية والسورية تنوعت الجهات الخارجية الداعمة لكن ليس لإطار شعبي نخبوي مُوحد، بل لعدة صفوف باتت متناحرة، والحل دومًا يكمن في نخبة وطنية تكون مستعدة لإجراء “انقلاب توعوي ناعم” يُفضي إلى إنتاج شعب يحفظ ثورته أو قضيته ويتحول إلى قاض صلد يحاكم كل من يحيد من النخبة عن الأهداف الأساسية للثورة.