اتسعت رقعة الاحتجاجات الشعبية المناهضة لسياسة “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على محافظة إدلب وغرب حلب شمال غربي سوريا، ممتدةً إلى مدن وبلدات إضافية، خلال الأيام القليلة الماضية، وسط غضب واستياء شعبيين، نتجا عن قبضة أمنية واعتقالات تعسفية إقصائية نفذتها الأجهزة الأمنية، ووضع معيشي واقتصادي مزر.
توسع التظاهرات في إدلب وغرب حلب
انضم أهالي مدينة دارة عزة غربي حلب إلى الاحتجاجات الشعبية ضد “هيئة تحرير الشام”، حيث خرج عشرات المدنيين إلى الشوارع ليل الثلاثاء، في تظاهرة ليلية للمطالبة بإسقاط زعيمها أبو محمد الجولاني، ورددوا شعارات منددة بجهاز الأمن العام، كما رفعوا شعارات تندد بسياسات الهيئة الاقتصادية والإدارية.
وأطلق مسلحون النار باتجاه المتظاهرين في دارة عزة بهدف تفريقهم، حسبما وثقت مقاطع فيديو مصورة، بثها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، ويُعتقد أن المسلحين يتبعون إلى “هيئة تحرير الشام”، فيما تعرض عدد من المتظاهرين على دراجتهم النارية للملاحقة من سيارات يقودها مجهولون.
لحظة إطلاق الرصاص مباشر على المدنيين المتظاهرين في #دارة_عزة
الفيديو لحظة إشهار السلاح بوجه الناس وإطلاق الرصاص على الأقدام
📌أين أبطال الثورة في الريف الغربي ؟ هل ستصمتون عن هذا التشبيح والعمالة؟
هذا الدليل أمامكم#جواسيس_العصر pic.twitter.com/OdbB5o3H8M
— مزمجر الثورة السورية (@mzmgr941) March 5, 2024
صباح الأربعاء، نقلت وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ السورية، عن قائد شرطة المنطقة الشمالية محمد صواف، قوله: “بلغنا بحصول إطلاق نار في أثناء وجود مظاهرة في مدينة دارة عزة، على الفور توجهت دوريات الشرطة إلى المكان لحماية الأهالي، وبالتنسيق مع إدارة المنطقة تم إحضار الفاعل وسيتم تقديمه للقضاء لينال جزاءه العادل”.
إلى مدينة الأتارب غربي حلب، خرج الأهالي في وقفة احتجاجية تحت عنوان “لا لتهميش الأتارب”، احتجاجًا على ممارسات أجهزة تحرير الشام، وطالب خلالها المتظاهرون بتحييد جهاز الأمن العام عن الحياة العامة، وتحسين واقع المعيشة، والإفراج عن معتقلي الرأي، وعودة الأتارب منطقة إدارية ضمن حدود ريف حلب، وإيقاف عمليات الاحتكار الاقتصادية وإلغاء الرسوم والضرائب الجائرة، وطرح قوانين بقناة عامة ومتاحة وإيقاف القرارات التعسفية.
وفي السياق، خرج الأهالي في مدينة بنش التابعة لمحافظة إدلب عصر الثلاثاء، طالب خلالها المتظاهرون بإسقاط أبو محمد الجولاني، ونددوا بسياسات “هيئة تحرير الشام” الإدارية والأمنية، والاعتقالات التعسفية، وطالبوا بالإفراج عن المعتقلين، فيما شهدت مدينة تفتناز وبلدتا كللي والفوعة تظاهرات مماثلة، بينما انضمت مدن أعزاز ومارع والباب في تظاهرات تضامنية مع إدلب الأسبوع المنصرم.
وتسير الاحتجاجات الشعبية المناهضة لـ”تحرير الشام” نحو زخم وتصعيد واضح، متأثرة بالعديد من العوامل، التي بدأت مع ملف العمالة منتصف عام 2023، وكشفت عن وقوع عمليات تعذيب واعتقال وإخفاء قسري بحق مئات السوريين بينهم عسكريون ومدنيون، نهاية العام ذاته.
مطالب الشارع في إدلب
لم تعد مطالب الشارع في محافظة إدلب مقتصرةً على ما تسبب به ملف العمالة ضمن أجهزة تحرير الشام، وما ارتبط به من سياسة الاعتقالات والإقصاء والتعذيب الممنهجة، وإنما فتحت آفاقًا جديدة للناس لامتلاك الشجاعة والنزول للشارع للمطالبة بحقوقهم، بعد سنوات مريرة قادتها سياسة “هيئة تحرير الشام” وحكومة “الإنقاذ”، ما تسبب في شرخ طبقي واضح بين مختلف شرائح المجتمع.
فند ناشط في حراك مدينة إدلب (شريطة عدم الكشف عن هويته)، أسباب التظاهرات المناهضة لهيئة تحرير الشام، إلى أسباب مباشرة وغير مباشرة، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “فالمباشرة كانت نتيجة ما كشفه ملف العملاء والتعذيب في السجون ومقتل عنصر من جيش الأحرار تحت التعذيب، بينما الأسباب غير المباشرة، جاءت في سياق تراكمي من حالة الظلم الموجود والاستبداد والتفرد بالقرار السيادي للمنطقة، من العسكر، أو فصيل واحد، وعدم إتاحة الفرصة أمام شرائح المجتمع للاشتراك بالقرار”.
وأضاف “من أبرز المطالب التي يرغب الشارع في تحقيقها، وجود مجلس شورى يمثل المنطقة كاملًا بإشراك مختلف شرائح المجتمع المدني، لاتخاذ القرارات السيادية، وتبييض السجون والمعتقلات وتحرير الشارع الثوري، وعودة التنسيقيات حتى تتحقق المطالب وإعادة صوت الثورة”.
يتأثر واقع المنطقة المتردي اقتصاديًا، وازدياد شريحة الطبقة الفقيرة والعاطلين عن العمل، بالعديد من العوامل، من بينها، انخفاض قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، وغياب المشاريع الاستثمارية والتنموية، وزيادة التحصيل الضريبي، ما تسبب في تشكيل عبء ثقيل على كل السوريين الذين يعيشون في إدلب.
سياسة تحرير الشام في إدلب
يرى مأمون سيد عيسى، ناشط في العمل الإنساني خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن مطالب السوريين في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، ليست معيشية وإنما نتاج التضييق على حرية التعبير ومصادرة المجالس المحلية، وآخرها مجلس مدينة إدلب الذي تم حله منذ أشهر وأحيلت صلاحياته لحكومة الإنقاذ، إضافة الى التضييق على النشاط السياسي والتدخل في النقابات وآخرها نقابتي المهندسين والمحامين”.
وأضاف أنها عوامل أوصلت المنطقة إلى حالة انفجار سيتفاعل ويتطور أكثر خلال المستقبل القريب، بعدما رفع المتظاهرون لافتات تطالب بحرية التعبير والإفراج عن المعتقلين، وحل الأجهزة الأمنية التابعة لـ”تحرير الشام”، وإسقاط زعيمها أبو محمد الجولاني.
وأوضح، أن الشارع بحاجة إلى إزالة قبضة العسكر عن الحكم، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف الاعتقالات التعسفية دون أمر قضائي، ووقف عمليات التعذيب والانتهاكات ضمن السجون، واحترام حقوق الإنسان، والشفافية المالية فيما يتعلق بالمدخولات والمصروفات الحكومية، ووقف سياسة الضرائب الجائرة التي طالت معظم القطاعات المهنية.
اجتماع لامتصاص غضب الشارع
اجتمع مجلس الشورى العام وقائد “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، ورئيس حكومة الإنقاذ محمد البشير، الثلاثاء، إضافةً إلى شخصيات ووجهاء من مدينة إدلب، بهدف الاستماع إلى مطالب الشارع في أوج التظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها محافظة إدلب.
عقد اجتماع لشخصيات من المجتمع المدني مع قيادات الهيئة و الحكومة في ادلب
لبحث مطالب المتظاهرين و الاستماع الى شكاويهم #ادلب pic.twitter.com/F5dCZ2yaDc
— 𝕏 𝕄𝕠𝕙𝕒𝕞𝕞𝕒𝕕 𝔸𝕝𝕒𝕨𝕒𝕕 (@mohammad_awad90) March 6, 2024
وقال أبو محمد الجولاني: “المناطق التي تسيطر عليها الهيئة تسير على قدم وساق وهي قوية بأهالها ومؤسساتها، ونحن قادرون على أن نبني مشروعًا ثوريًا يصل مده إلى دمشق”، وأضاف: “الواجب على أي سلطة الاستماع إلى مطالب الناس وتنفي المحقة منها، إلا أننا يجب أن ننظر إلى الواقع بموضوعية.. والمؤسسات قائمة لخدمة الأهالي في المحرر على أكمل وجه، والتطوير من جودة الخدمة”.
وأشار إلى تشكيل لجنة من الشورى والحكومة والعشائر والمهجرين والوجهاء للنظر في المطالب وتحديدها للوصول إلى قرارات سليمة.
والأربعاء، أخلت حكومة الإنقاذ في إدلب، سبيل نحو 420 سجينًا بمقتضى مرسوم العفو الذي أصدره رئيس مجلس الوزراء، محمد البشير، عقب الإعلان عن إصدار الحكومة مرسومًا يقضي بمنح عفو عام عن مرتكبي الجرائم بعد حصولهم على وثيقة حسن سيرة وسلوك، وفق فترة حكم السجن والتعزيز المالي.
في حين استثنيت من أحكام هذا المرسوم، جرائم الحدود والقصاص والخطف والسطو المسلح والسرقة وترويج المخدرات والاتجار بها، التي تزيد عقوبتها على 8 أشهر، ويزيد تعزيزها المالي على ألف دولار أمريكي، بينما يستفيد من القرارات الصادرة، الفارون من وجه القضاء شرط أن يسلموا أنفسهم خلال مدة أقصاها 30 يومًا من تاريخ صدوره، كما يشترط إسقاط الحق الشخصي.
وفي وقت سابق، أصدرت وزارة الإعلام التابعة لحكومة الإنقاذ، بيانًا بشأن الاحتجاجات الشعبية الغاضبة، جاء فيه أن المتظاهرين حملوا خلال حراكهم مطالب محقّة، تدل على حيوية هذه الثورة وعدالة قضيتها، مضيفةً “أصوات المتظاهرين وصل صداها، وبدأت الخطوات العملية لتنفيذ المطالب، بما يضمن استمرار الثورة والحفاظ على مصالحها العليا وضمان استقرارها حتى تحقيق آخر أهدافها”.
واعتبر ناشطون، أن “هيئة تحرير الشام” وحكومة الإنقاذ، استنسخا أسلوب تعاطي نظام الأسد مع الاحتجاجات السورية خلال عام 2011، التي كانت بعيدةً بشكل كلي عن واقع المطالب، من حيث إصدار قرارات ومراسيم تشريعية علها تخفف من حدة الاحتقان المطالب بالتغيير وحرية الرأي، في حين مطالب الشارع واضحة.
هل تستجيب تحرير الشام لمطالب الشارع؟
تحاول “هيئة تحرير الشام” استيعاب حراك الشارع المناهض لسياستها في محافظة إدلب، وسط مخاوف من توسع رقعة الاحتجاجات وتكثيف المطالب، التي وصلت حد الإطاحة بزعيم “هيئة تحرير الشام”، في ظل تخبط واضح في صفوفها إثر معطيات ملف “العمالة”.
وتزامنت التظاهرات الاحتجاجية في إدلب، مع إعلان مجلس الشورى العام عن تشكيل حكومة جديدة في دورتها السابعة، ومن المفترض ان تقدم الحكومة جملةً من الإصلاحات في إطار سعيها إلى تحقيق استقرار نسبي في مناطق إدارتها، بعدما كثفت الحكومة السابقة من القرارات والضرائب والاحتكار.
رجح سيد عيسى، أن اعتقال المئات من صفوف هيئة تحرير الشام بتهمة “العمالة” وبطلانها قد يولد انفجارًا في صفوفها، إذ ستبقى محاولات الجولاني لاحتواء الأمر محدودة، من خلال الاستجابة لمطالب المتظاهرين بإصدار عفو عام، وتوقيف مسبّبي التجاوزات داخل سجونها وبعض القرارات الاقتصادية.
وأوضح أن إمكانية الإصلاح لدى الهيئة مشابه لأي نظام ديكتاتوري في الإصلاح، والحرية تؤدي لتدمير هذا النظام وتتكشف العيوب، لذلك لن تقدم الهيئة تنازلات حقيقية بل إنها ستكون تغييرات محدودة فيي سياستها دون الوصول الى تغييرات حقيقية جذرية تنقل واقع المنطقة.
وتابع أن تصاعد الاحتجاجات قد يتسبب في قمعها، إذا لم تتواجد ضغوط تركية ودولية على “هيئة تحرير الشام” لإضعافها، لا سيما أن وجودها يشكل عبئًا على مشروع المنطقة الآمنة بعمق (30 – 40) الذي تسعى تركيا إلى تطبيقه، حسب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرًا.
من جانبه قال القيادي في الجيش الوطني السوري الفاروق أبو بكر، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “هيئة تحرير الشام تحاول إظهار رضائها تجاه الاحتجاجات ضمن مناطق سيطرتها، وتسعى إلى الالتفاف على مظاهرات الشارع من خلال استغباء الناس وتسخيف مطالبهم، وتقديم إصلاحات من خلال ترخيص بعض الخدمات مثل الكهرباء، وإصدار عفو عام، وغيرها، وتعتبر مماثلة لتعاطي نظام الأسد مع الاحتجاجات”.
وأضاف أنها تعمل من خلال شبكة علاقات شخصية مدنية وأمنية على التواصل مع متصدري التظاهرات، والتفاوض معهم، بهدف القبول بإصلاحات قريبة من مطالب الشارع، لكن مطالب الشارع واضحة، وتريد إزالة حكم العسكر وقيادة الهيئة.
واعتبر أن قدرة تحرير الشام على الاستجابة للتظاهرات ضعيفة، بينما يحاول الجولاني الانفراد بالسلطة، وفي حال رضوخها للأمر الواقع سيكون شكليًا من خلال تغيير الوجوه ريثما يتم تجاوز الأزمة، التي ستخسر مقابلها الكثير من التنازلات على صعيد السيطرة والصلاحيات التي بنتها خلال السنوات الماضية.