تنبع حاجتنا كبشر للتواصل مع غيرنا من الأشخاص المحيطين بنا لسدّ حاجاتنا العاطفية والداخلية في الحصول على الاهتمام والتعاطف والحبّ، والبقاء على اتصال مع من نحبّ. وتنشأ تلك الحاجة منذ اللحظات الأولى من عمر الفرد، فيبقى الطفل في بحثٍ دائم عن الاتصال مع والدته أو الشعور بوجودها وقُربها.
يُعتبر التحدث مع أطفالك واحد من أكثر الخطوات أهمية في التربية والتنشئة الصحية. فيلجأ الأطفال منذ لحظة ولادتهم للتعبير عن أنفسهم والتواصل مع والديْهم من خلال الأصوات التي يصدرونها كالبكاء والصراخ والضحك، أو من خلال تعبيرات الوجه والإيماءات التعبيرية أو حركات الجسم مثل تحريك اليدين والقدمين كتعبير عن ما يريدون إيصاله، ويستمرّ تطورهم في استخدام طرق التواصل بما يتناسب مع مرحلتهم العمرية إلى أن يقوموا يتطوير نظام اللغة الخاص بهم.
لذلك فمن المهمّ جدًا عند الوالدين أن يقوموا بالاستجابة لإيماءات طفلهم الرضيع وأصواته وحركات جسده، كالتفاعل معه في حال مدّ يديه، أو النظر في عينيه في حال حدّق في أمه، ومحاولة إضحاكه والحديث معه حتى وإن لم يفهم ما تقول، فهذه الاستجابات الفورية والمتناسقة تخبر طفلك بأنّ محاولته للتواصل معك مهمة وفعالة، وهذا من شأنه أن يشجعه على مواصلة تطوير مهاراته التواصلية.
يختلف الأطفال عن بعضهم في أساليب تواصلهم ومحادثاتهم، فهناك من يفضّل الحديث صباحًا وآخرون يفضلونه قبل النوم، وهناك من ينزعج من طرح الأسئلة وهناك من ينتظرها ليبدأ الحديث
صحيح أنّ التواصل ليس ملَكة أو مهارة طبيعية نولد بها، وكثير منا عاجزون عنها، بسبب غياب النموذج الجيد في حياتنا، فجزء أساسي من تعلمنا للحديث ومناقشة أفكارنا وترتيبها يأتي من خلال سماعنا لغيرنا يتحدثون بها ويناقشونها. ولكن معظمنا كبر وترعرع في وسطٍ عائلي لم يكن يولي للحوار بالمواضيع النفسية والعاطفية الصعبة أي اهتمام، وعلى العكس تمامًا كان يتم تجنب نقاشها وذكرها وكأنها غير موجودة أو التحدث عنها بتغليفها أو الدوران حولها وكأنها غريبة أو مبهمة، ما جعلنا ننشأ كأفراد ليسوا جيدين فيما يتعلق بالتواصل والتعبير عن الذات، غير أنّ هذا لا يعني أنّنا لا نستطيع تطويرها مع الوقت.
مع تقدّم عمر الأطفال وتطوّر مهاراتهم اللغوية، أي تقريبًا ما بين سنتهم الرابعة والخامسة، لتحتوي لغتهم ما بين 1000 إلى 2000 كلمة ومفردة تقريبًا، الأغلبية العظمى منها مفهومة تمامًا، على الرغم من احتمال وجود بعض الأخطاء الصوتية أو التأتأة مثلًا، وخاصة بين الأولاد، ما يعني تطور قدرتهم على المحادثة والحوار والكلام، فيبدؤون بإبراز تقدّم أكثر تعقيدًا في هذا الاتجاه، فتراهم أكثر حماسًا في الكلام، وسرد القصص، وتأليفها والاستمتاع بسماعها وطلب إعادتها، كما أنهم يبدؤون في هذه المرحلة بتحويل خيالهم إلى لغة محكية، فيحكون كلّ ما يخطر على بالهم ومخيّلتهم، سواء للأشخاص من حولهم أو لألعابهم أو لشخصياتهم المتخيّلة التي رسموها بأنفسهم.
يختلف الأطفال عن بعضهم في أساليب تواصلهم ومحادثاتهم، فهناك من يفضّل الحديث صباحًا وآخرون يفضلونه قبل النوم، وهناك من ينزعج من طرح الأسئلة وهناك من ينتظرها ليبدأ الحديث، وقد يكون طفلك يحب التحدث السريع أو على النقيض من ذلك يأخذ وقته في التحدث البطيء. لذلك عليك أن تلاحظ ما يمكن أن نسمّيه بطقوس الحديث عند طفلك، الوقت المفضل لديه، الوتيرة، الأسلوب، نبرات الصوت، القدرة على إظهار الانفعالات، وغيرها الكثير، فهذا يساعدك كثيرًا في بناء تواصل فعّال معه.
اعمل على تطوير الحصيلة اللغوية فيما يتعلق بالعواطف والمشاعر عند طفلك، من دون تصنيفها إلى جيدة أو سيئة، وإنما جزء منا لا يجب أن نخاف أو نخجل أو نهرب منه
اسأل نفسك مثلًا “ماذا كنت تفعل أثناء آخر محادثة جيدة لك مع طفلك؟”، هل كانت على مائدة الطعام، أم أثناء الذهاب للمدرسة، أم قبل نومه بساعة، فهذا قد يقودك لمعرفة الأوقات أو الفعاليات التي يجد فيها طفلك نفسه منساب للحديث والتواصل معك.
حاول أن تتعامل مع طفلك بتعاطف تامّ أثناء حديثه، أيْ أن تضع نفسك في ذات الموضع الذي يتحدث منه، دون أن تشعره بفارق العمر الكبير بينك وبينه، فأي إيماءة أو إشارة لذلك قد تهدم أي وسيلة تواصل بينكما، أو يفقد الثقة في كونك مستمع جيد له ومتفهّم لأحاديثه وحكاياته.
بالإضافة لذلك، اعمل على تطوير الحصيلة اللغوية فيما يتعلق بالعواطف والمشاعر عند طفلك، من دون تصنيفها إلى جيدة أو سيئة، وإنما جزء منا لا يجب أن نخاف أو نخجل أو نهرب منه. علمه مثلًا كيف يقول أنه حزين في حال حدث معه ما يستدعي للحزن، أو علمه كيف يعبّر عن اشتياقه، أو فرحه، أو ملله، أو استمتاعه، ثمّ قابل ذلك كله بالاحتواء والتقبّل وتشجيعه على التعبير أكثر فأكثر.
وتلعب القراءة دورًا كبيرًا في تحفيز قدرة الطفل على التواصل والتعبير عن الذات، لذلك خصص من وقتك يوميًا لتقرأ مع طفلة قصة قصيرة أو بضع صفحات من قصة، وركّز على إثارة تفاعله معها من خلال طرح الأسئلة على سبيل المثال. ويمكن أن تخصص لهذه الفعالية وقتًا محددًا من كلّ يوم يرافقه فيها حديثكما عن أحداث يومه الروتينية سواء في البيت أو المدرسة، وقد يحدث ذلك بمشاركة الأسرة جميعها، فيتعلم الأطفال مع بعضهم كيفية التواصل والاستماع والاهتمام لأحاديث أخوتهم وأخبارهم ومشاعرهم وأفكارهم.
ولا تنسَ أنّ أهم نقطة في كلّ ذلك، هي أنّ طفلك يراك قدوةً له، يراقبلك بعناية فائقة وتركيز كبير، ويحاول تقليدك ومحاكاة أفعالك وسلوكياتك وتصرفاتك، فإذا كنتَ فاشلًا بالتواصل مع زوجتك أو مع ابنك الأكبر سنًا، فتأكد أنّ ابنك قد لا يستطيع تطوير قدرته على التواصل والتعبير مثلك تمامًا، لذلك اسعَ منذ البداية أن تكون قدوةً حسنة لطفلك.