تخيم حالة من الارتباك على الشارع المصري جراء القرارات التي اتخذها البنك المركزي المصري صباح الأربعاء 6 مارس/آذار 2024 وعلى رأسها تعويم العملة المحلية (الجنيه المصري) وزيادة سعر الفائدة على الجنيه بنسبة 6% دفعة واحدة، لتقفز إلى 27.25%، وهو الرقم الأكبر في تاريخ البلاد.
بعد ساعات قليلة من تلك القرارات أعلنت الحكومة المصرية موافقة صندوق النقد الدولي بشكل رسمي على قرض جديد للدولة المصرية بقيمة 8 مليارات دولار، وذلك بعد تسويف الصندوق لتلك الموافقة لما بعد التزام القاهرة ببرنامج الإصلاح المقدم وعلى رأسه تحرير سعر صرف العملة المحلية (التعويم).
فقد الجنيه المصري في البنوك الرسمية نحو 60% من قيمته أمام الدولار، لينخفض من 30 جنيهًا للدولار إلى 50 جنيهًا، مع توقع المزيد من الانخفاض، فيما ارتفعت العملة الأمريكية إلى 55.7 جنيه في السوق الموازية.
لم تكن تلك القرارات مفاجئة، وإن لم تكن بهذا الحجم (رفع الفائدة 600 نقطة مرة واحدة، وإجراء تعويم حر) فقد كان يتوقع اتخاذها قبل أشهر، إلا أن القاهرة طلبت تأجيلها لما بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية العام الماضي، فضلًا عن المستجدات التي شهدتها المنطقة وأثرت على الاقتصاد المصري على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية والحرب في غزة.
يعد هذا التعويم هو السادس في تاريخ الدولة المصرية، والرابع في عهد السيسي، فكان أول تعويم للجنيه عام 1977، بعهد الرئيس أنور السادات (1970-1981)، ثم عام 2003 خلال فترة حسني مبارك (1981-2011)، أما التعويم الثالث والأول في عهد السيسي فكان في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ثم الثاني في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022، ومن بعده في مطلع 2023، وصولًا إلى التعويم الحاليّ.
دوافع الحكومة
بعيدًا عن الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي، ترى الحكومة المصرية أن تلك القرارات ستساهم في كبح جماح التضخم وتساعد بشكل كبير في القضاء على السوق الموازية وتراجع الطلب على الدولار وبقية العملات الأجنبية، حسبما جاء على لسان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.
وأضاف مدبولي في كلمة له: “هدفنا في هذه المرحلة العمل والتنسيق مع البنك المركزي من أجل خفض معدلات التضخم، وضبط الدين والانتقال به إلى مسار نزولي، مع الاستمرار في إجراءات برنامج الإصلاحات الهيكلية الذي يركز على دفع قطاعات الصناعة والزراعة والاتصالات، واستمرار السياسات الداعمة لزيادة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد المصري”.
لافتًا إلى أن تلك الإجراءات مخطط لها منذ فترة من أجل تقليل الفجوة بين سعر الدولار في السوقين الرسمي والموازي، موضحًا أن لجنة السياسات النقدية التابعة للبنك المركزي هدفت من خلال قراراتها الحد من السيولة النقدية التي في حوزة المواطنين، من خلال رفع معدل الفائدة بنحو 600 نقطة أساس وإصدار شهادات ادخار بعائد بلغ 30%.
مصطفى مدبولي خلال الإشراف على عملية الإفراج عن البضائع بميناء الإسكندرية: وجهنا وزارة الداخلية بالضرب بيد من حديد لمواجهة السوق الموازية، والدولة لديها الثقة لتدبير العملات الأجنبية المطلوبة لدفع عجلة الاقتصاد pic.twitter.com/Sp5DgcUXSD
— شبكة رصد (@RassdNewsN) March 7, 2024
صدمة للمصريين
لا شك أن قرار التعويم وتراجع سعر الجنيه أمام الدولار رسميًا بتلك النسبة غير المسبوقة سيكون له انعكاساته السلبية على أسعار السلع والخدمات، خاصة أن أكثر من 90% من المستلزمات الخاصة بالصناعة، فضلًا عن الكثير من السلع الكاملة، مستوردة من الخارج بالعملات الأجنبية.
ويشير خبراء الاقتصاد إلى أن الانخفاض الكبير في سعر الجنيه، قرابة 60% من قيمته في ساعات قليلة، سيُحدث قفزات جنونية في سعر المواد الغذائية تحديدًا، وإن لم تكن بنفس نسبة انخفاض العملة المحلية، لكن وقعها سيكون كبيرًا وصعبًا على غالبية المصريين من محدودي ومتوسطي الدخول.
وتأتي تلك الزيادات في وقت يعاني فيه المصريون في الأساس من هرولة الأسعار بشكل جنوني، ومما يزيد من حجم المأساة أنها تأتي قبل أيام قليلة من شهر رمضان المعروف عن المصريين زيادة استهلاكهم فيه مقارنة بالأشهر الأخرى، وهو ما أفقدهم – بجانب أحداث أخرى كالوضع في غزة – فرحة استقبال الشهر الكريم الذي كان في السنوات الماضية قبلةً للكثير من الجنسيات الأخرى للاستمتاع به في قلب المحروسة.
ورغم الحزم الاجتماعية التي اتخذتها الحكومة للتخفيف عن أعباء المواطنين في مواجهة غول التضخم والأسعار المتزايدة وتهاوي قيمة العملة المحلية، كارتفاع الحد الأدنى للأجور وزيادة المعاشات وغيرها، فإن ذلك لم يكن كافيًا، فما يأتي باليمين سرعان ما تنسفه تلك القرارات باليسار.
يذكر أن الحد الأدنى لأجور المصريين (1200 جنيهًا) كان يساوي 170 دولارًا مع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في 2014، لكنه تراجع اليوم ليصل إلى أقل من 120 دولارًا رغم أنه زاد من 1200 إلى 6000 جنيه، وذلك بفعل انهيار قيمة الجنيه وتراجعه بشكل كبير أمام العملات الأجنبية.
هل تنتهي السوق السوداء؟
اتخذت الحكومة المصرية من السوق الموازية خصمها اللدود خلال الآونة الأخيرة، كونه أحد العقبات الأساسية وراء تراجع الاستثمار الأجنبي، وحاولت من خلال معركتها الحاليّة القضاء عليها بالضربة القاضية التي تتمحور في تحريك سعر الجنيه في البنك بما يوازي سعره في السوق السوداء.
ويميل خبراء إلى أن سد أو تقليل الفجوة بين سعر الدولار في البنوك الرسمية والسوق السوداء الخطوة الأولى من أجل الوصول إلى سعر موحد يحفز رؤوس الأموال الأجنبية على الاستثمار في السوق المصري، خاصة بعد خروج الكثير من الاستثمارات من مصر بسبب حزمة أسباب، على رأسها الفارق الكبير بين سعر العملة في البنوك والأسواق الموازية، حيث شهدت مصر نحو 3 أسواق سوداء ( السوق العام – سوق الذهب – سوق الحديد).
التساؤل هنا: هل يقضي التعويم على السوق السوداء؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يجب الإشارة إلى أن السبب الرئيسي في وجود أسواق موازية هو عدم توفر السيولة الدولارية في البنوك الرسمية، ما يدفع المستثمرين ورجال الأعمال والمواطنين العاديين الباحثين عن العملات الأجنبية لدواعي السفر أو العمل إلى السوق البديلة للحصول على العملة الأجنبية، وفي ظل زيادة الطلب على تلك العملات ترتفع قيمتها بشكل كبير، وهنا تنتعش السوق السوداء وتصبح هي السوق الرئيسية للتداول وتحل محل البنوك الرسمية.
ويبقى الحل هنا مرهونًا بضرورة توفر السيولة الدولارية في البنوك وقدرتها على تلبية احتياجات الباحثين عن العملات الأجنبية، فهل تملك الدولة من الدولارات ما يمكنها أن تلبي جميع الاحتياجات من أجل إثناء المستثمرين عن اللجوء إلى السوق السوداء؟
🔴 أعلنت الحكومة عن ما يبدو أنه تعويم جديد للجنيه المصري، إذ بلغ أقل قيمة رسمية له على مدار تاريخه بنحو 50 جنيهًا للدولار الواحد، ومنذ التعويم الأول في نوفمبر 2016، وتواجه الحكومة المصرية التخفيض المستمر لقيمة العملة المحلية باستخدام بروباجندا إعلامية مغايرة للواقع.
📌 تطلق… pic.twitter.com/09l10iBDTr
— صحيح مصر (@SaheehMasr) March 7, 2024
الأيام القليلة الماضية دخلت خزانة الدولة المصرية قرابة 10 مليارات دولار دفعة أولى من صفقة مدينة رأس الحكمة (شمال)، وفي انتظار 16 مليار أخرى خلال شهرين، بحسب الاتفاق مع الشركة الإماراتية، كذلك أبرمت الحكومة اتفاقًا مع صندوق النقد للحصول على قرض قيمته 8 مليارات دولار، من الممكن الحصول على أول دفعة منه خلال أشهر قليلة، هذا بخلاف الحديث عن صفقات أخرى بشأن مناطق ساحلية تدخل فيها شركات إماراتية وسعودية، ويتوقع أن تُدر عشرات المليارات من الدولارات.
لكن في المقابل مطلوب من مصر سداد أكثر من 40 مليار دولار خلال العام الحاليّ خدمة دين، فوائد وأقساط، وذلك بعدما وصل الدين الخارجي إلى 165 مليار دولار، هذا بخلاف ديون الحكومة لشركات الغاز والطاقة، وديونها الداخلية لشركات القطاع الخاص، فضلًا عن عشرات المليارات للإفراج عن البضائع المتكدسة في الجمارك منذ أشهر واستيراد السلع والمستلزمات الداخلة في عملية الصناعة، ما يعني أن كل ما حصلت عليه الحكومة المصرية جراء صفقات البيع والاستثمار والاقتراض، لن يلبي احتياجاتها والتزاماتها المالية لهذا العام.
وهنا التحدي الأكبر، فالدولة مطالبة بتوفير سيولة دولارية في البنوك الرسمية من أجل تلبية الاحتياجات الاستثمارية للقطاع الخاص، كشرط أساسي ووحيد للقضاء على السوق الموازية، فهل تنجح في ذلك رغم الأعباء المالية الهائلة المطالبة بسدادها جراء السياسات الاقتصادية والمالية الخاطئة التي اتبعتها خلال السنوات الماضية وأودت بها إلى تلك المرحلة الحرجة؟
متى يكون التعويم مجديًا؟
تجدر الإشارة إلى أن التعويم في حد ذاته كقرار اقتصادي ليس مسألة ضارة على طول الخط كما يتوقع البعض، فقد يكون نافعًا في إنعاش بعض القطاعات الاقتصادية بالدولة ومحفزًا للاستثمار كقطاع السياحة والتحويلات المالية والصادرات، فخفض قيمة العملة يسمح للمنتج المصري بالمنافسة عالميًا بصفته أرخص نسبيًا من غيره، كما سيجعل السوق المصري مشجعًا للمستثمرين الأجانب كونه أقل كلفة من غيره من الأسواق الأخرى.
كما أن تراجع قيمة الجنيه أمام العملات الأخرى ربما يكون دافعًا للحفاظ على السيولة النقدية التي بحوزة المصريين وعدم إنفاقها عبر استيراد سلع كمالية بأسعار غالية أو عبر السياحة الخارجية، وهو ما يمنح المنتج المحلي والسياحة الداخلية فرصة للانتعاش والرواج بشكل أكبر مما يمكن أن يكون عليه إذا ما كانت قيمة العملة مرتفعة.
وهناك نماذج عدة تفضل فيها بعض الاقتصاديات العملاقة انخفاض قيمة عملتها الوطنية، كالصين على سبيل المثال، فتراجع عملتها سيحافظ على تصدرها لدول العالم اقتصاديًا كونها الدولة الأكثر تصديرًا للسلع والمنتجات رخيصة الثمن، فالعملة المنخفضة ستخفض بالتبعية كلفة الإنتاج وعليه سيكون التصدير بأسعار أقل من نظيراتها في بلدان العالم الأخرى، وهو ما يجعل الإقبال على شراء منتجاتها كبيرًا، وفي النهاية ينعكس ذلك على اقتصادها الذي ينتشي سنويًا بمئات المليارات من الدولارات نتيجة بيع تلك السلع رخيصة الثمن.
رئيس الوزراء: اشتغلنا أيام وليالي لحل أزمة الدولار وتوحيد سعر الصرف pic.twitter.com/rbuLITLOT6
— Cairo 24 – القاهرة 24 (@cairo24_) March 7, 2024
على الجانب الآخر فإن دولة مثل الولايات المتحدة، التي تعتمد على الاستيراد في المقام الأول، من مصلحتها ارتفاع قيمة عملتها الوطنية، وهو ما يخفض قيمة السلع المستوردة بصفة عامة ويقلل من كلفتها، ومن ثم فإن ارتفاع الدولار يخدم مصلحتها الاقتصادية، عكس الصين وبقية الدول التي تعتمد على التصدير.
ومن هنا فإن نتائج التعويم تختلف من دولة لأخرى حسب إمكانيات وقدرات وظروف كل دولة على حدة، فأحيانًا يكون انخفاض قيمة العملة ميزة وأحايين أخرى أزمة، لكن الأمر يتوقف على مدى استعداد الدولة لخطوة كهذه وقدرتها على التعامل معها بما ينعكس عليها إيجابيًا في ضوء الدراسات والخطط المعدة للتعاطي مع هذا الأمر.
أزمة ثقة في المقام الأول
رغم القرارات التي اتخذها البنك المركزي في الـ6 من الشهر الجاري، رفع سعر الفائدة وطرح شهادات ادخار بعوائد غير مسبوقة بلغت 30%، التي تستهدف في المقام الأول حث حائزي الدولار على التخلص منه وبيعه لدى البنك استفادة من العروض المغرية المقدمة على الجنيه المصري، فإن التفاؤل بشأن نجاح تلك الإستراتيجية محل شك لدى الكثير من الخبراء والمتابعين.
على مدار السنوات الـ10 الماضية تبنت الحكومة سياسات اقتصادية ومالية ثبت فشلها بشهادة الجميع، وافتقاد كامل لفقه الأولويات في الإنفاق، أسفر عن إغراق البلد في الديون والعجز المالي ودفعته نحو بيع أصوله للوفاء بالتزاماته المالية السنوية، وكان الضحية في هذا الامر هو المواطن الذي تلقى ضربات قاسية على مدار العقد الماضي، قفزات جنونية في أسعار جميع السلع والخدمات وارتفاع معدلات التضخم وتراجع القيمة الشرائية لمدخراته وانهيار قيمة الأجور والرواتب رغم زيادتها الكمية، وهو ما زج بالكثير من المنتمين للشرائح المتوسطة إلى الأخرى المتدنية.
ترجع الأزمة هنا إلى فقدان المصريين الثقة في نظامهم المصرفي والنقدي حسب رأي الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، الذي يرى أن المصريين والمستثمرين في الداخل والخارج بحاجة إلى براهين عملية على إصلاح هذا النظام وتخليه عن سياساته القديمة، وأن هذا الأمر يحتاج إلى وقت كاف حتى يثق الباحثون عن الدولار في توافر السيولة الكافية لدى البنوك وانتفاء السوق السوداء وتبني سياسات مرنة في تسهيل عمليات البيع والشراء والاستيراد والتصدير.
يستشهد الولي بالتجربة المشابهة التي شهدتها مصر عام 1991 حين رفعت سعر الفائدة بمستوى كبير نسبيًا، لكن الثقة في السياسة النقدية وقتها دفع كثير من المصريين إلى التخلص من الدولار وحوّلوه إلى الجنيه المصري للاستفادة من فارق سعر الفائدة، في ضوء استقرار سعر صرف الجنيه أمام الدولار لـ6 سنوات متتالية.
وهكذا لم يهنأ المصريون كثيرًا برفع الحد الأدنى للأجور ولا لغة التفاؤل التي صاحبت عوائد بيع مدينة رأس الحكمة ولا حتى القروض التي تنهال على الدولة من الشرق والغرب، ليجد المواطن متوسط ومحدود الدخل نفسه، وقبيل أيام قليلة من شهر رمضان، مثقلُا بموجة ارتفاعات جديدة في أسعار السلع والخدمات، تفقده لذة الاستمتاع بهذا الشهر الذي يعول عليه ليكون متنفسه السنوي الوحيد من حالة الإحباط والتدني التي يعاني منها بقية أيام العام.