في فيلم “To Rome with Love إلى روما مع حبي”، يسرد “وودي ألان” قصةً لرجل إيطالي بسيط ذي مكانة عادية بين من حوله ويعيش حياة “مملة سخيفة”، يستيقظ يومًا من نومه، ليكتشف أن منزله محاصر بعشرات المصوّرين ورجال الصحافة، إذ أصبح بين ليلة وضحاها مادة لاهتمام الناس دون أن يفعل شيئًا أو يقدم أمرًا له معنى، في إشارة واضحة لدور الصحافة الحديثة في افتعال القضايا بحثًا عن الإثارة وصنع الأخبار والنجوم من لا شيء.
يصبح هذا المواطن الإيطالي البسيط حديث وسائل الإعلام لأيام طوال، إذ تبقى تلاحقه لتسأله وتعرف عنه وعن حياته تفاصيل كثيرة جدّ سخيفة لا تتعدّى بكونها حياةً روتينية عادية لأي فردٍ في المجتمع، ثم تنسحب عنه كافة الأضواء والكاميرات فجأة بعد أن عثرت على شخص آخر تجعله محورًا لأحاديثها، فيجد الرجل نفسه وقد أدمن الشهرة ويسعى لجذب الانتباه وتذكير الناس من حوله بأنه كان مشهورًا يومًا ما، فما كان منه إلا الخروج متعريًّا بشكلٍ كليّ وسط أحد الشوارع، هادفًا لجذب الانتباه وإخبار الآخرين بوجوده.
أصبحت المعلومة الشخصية تُباع وتُشترى ويتم الترويج لها لعرضها واستهلاكها كالسلعة تمامًا، ومنه تختار الصحافة أخبارها -كالسلع أيضًا- وفقًا للمزاج العام ولاحتمالات انتشار الخبر
فيسبوك وإنستجرام وغيرها من مواقع وتطبيقات السوشيال ميديا، وحدها كفيلة بجعل البعض يشبه ذلك الرجل تمامًا، الأمر يبدأ بمعلومة أو معلومتين عن الحياة الشخصية، يتبعها صورة فصورتين تلقى اهتمامًا واسعًا من المتابعين، أو قد تثير ضجة تزيد من شهرة ذلك الشخص، ويبدأ بعدها بالخوض في تفاصيل حياته واحدة تلو الأخرى ظنًّا منه أنها باتت مستباحة ومهمة تعني متابعيه وجمهوره.
المفكر الفرنسي “جي ديبور” تحدث في ستينات القرن الماضي واصفًا هذا المجتمع بمجتمع الفرجة أو مجتمع العرض أو الاستعراض، وهو الاسم الذي حمله كتابه الذي نُشر عام 1967 وحاول فيه جدلًا تحليل الثقافة الاستهلاكية التي تطغى على مجتمعات العصر الحديث بتحريكٍ من الرأسمالية، والإعلان، والتلفزيون، والأفلام، والمشاهير.
تلك الثقافة الاستهلاكية التي أصبح فيها “تسليع” الأشياء ممتدًا لجميع نواحي الحياة، بدءًا بالسياسة والاقتصاد ومرورًا بالمسرح و الفكر والثقافة وانتهاءً بالعلاقات الشخصية، فأصبحت المعلومة الشخصية تُباع وتُشترى ويتم الترويج لها لعرضها واستهلاكها كالسلعة تمامًا، ومنه تختار الصحافة أخبارها -كالسلع أيضًا- وفقًا للمزاج العام ولاحتمالات انتشار الخبر.
أما في السنوات الأخيرة، أي سنوات مواقع التواصل الاجتماعي، فباتت الأخبار تعتمد على القدرة على تجميع أكبر عدد من الإعجابات، ولو كان ديبور على قيد الحياة حتى يومنا هذا فإنه من شبه المؤكد أن يمتد تحليله وقراءته لمجتمع الاستعراض لتشمل كلّ ما يحدث على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومواقعها مثل فيسبوك وتويتر وإنستجرام وغيرها ممن تعمل على تسليع أفكارنا، وعواطفنا، وآرائنا، وأصدقائنا، وتفاصيل حياتنا اليومية.
لطالما كانت النرجسية والرغبة في إظهار الذات، بشكلٍ أو بآخر، جزءًا من طبيعتنا كبشر، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من مستخدميها يختلقون وسائل لا نهاية لها لتلبية احتياجاتهم الأساسية لجذب انتباه الآخرين
الزواج والحب والأمومة كلها تحوّلت لسلع تسويقية، يسعى أصحابها والمتحدثون حولها لزيادة أعمالهم التجارية والترويج لها -في حال وجدت أصلًا-، عن طريق إعجاب الناس بذوات الأشخاص وليس بما ينتجون، فصورة زوجين شابّين يعملان معًا بنفس المجال يرتديان ثيابًا جميلة وألوانًا براقة، تعمل بالترويج والدعاية ما لا يستطيع أي خبر آخر عمله، وصورة شابٍ يحمل كاميرا مأخوذة بحرفية عالية ومعدّلة بعناية باتت كفيلة بجعله يسمّي نفسه المخرج أو المصوّر أو غيرها مما شئت من الأوصاف.
لطالما كانت النرجسية والرغبة في إظهار الذات، بشكلٍ أو بآخر، جزءًا من طبيعتنا كبشر، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت من مستخدميها يختلقون وسائل لا نهاية لها لتلبية احتياجاتهم الأساسية لجذب انتباه الآخرين، والحصول على إعجابهم وقبولهم، عن طريق صنع منصة شخصية هدفها الأساسيّ هو الترويج للذات وخلق صورة ناجحة منها أمام الآخرين.
في “مجتمع الاستعراض” استُبدل الوجود بالظهور، وبكلمات أخرى، بات الكثيرون يقيسون وجودهم ودورهم في الحياة ونجاحهم في عملهم أو علاقاتهم أو زواجهم أو في تربية أبنائهم بعدد مرات ظهورهم وظهور صورهم أو منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدد الإعجابات التي يحصدونها من متابعيهم، لذلك تراهم يتبعون أي موجةٍ تحدث، فتجد لهم في كلّ “trend” اسمًا ورأيًا ونقاشًا.
لا يتوانى أولئك الأفراد في رسم صورةٍ بالغة الجَمال عن علاقاتهم الاجتماعية ككلّ، فأطفالهم متميزون، وآباؤهم فريدون، وأصدقاؤهم ليس لهم مثيل، وأنّك ستكون محظوظًا جدًا في حال حظيت بمثل هكذا أصدقاء، وهكذا معارف
في “مجتمع الاستعراض” المشهورون هم مواطنون “نموذجيون يكادون يصلون درجة الكمال”، تنقل الكاميرات وصفحات فيسبوك وغيرها أدقّ تفاصيل حياتهم التي نجحوا في تسليعها وسلبها من معانيها الإنسانية، في سبيل الشهرة وإرضاء الأنا العليا، وتحقيق مصالحهم الخفية الفردانية والأنانية، فوفقًا لديبور ففي مجتمع الاستعراض “كل سلعة معينة تحارب لنفسها لا تعترف بالآخرين، وتحاول فرض ذاتها في كل مكان كما لو كانت الوحيدة”.
فحياة أولئك الأفراد، كما يحبون أن يصوّروها لغيرهم أو كما يرغبون هم أنفسهم برؤيتها، شبه مثالية إن لم تكن مثالية تامة، فتراهم يروّجون إلى أنّ زواجهم ناجح تمامًا، وهم أشدّ الناس حظًا باختيار شريك حياتهم “المثاليّ” على أية حال، وأعمالهم هي الأنجح والأكثر تميّزًا وإبهارًا ويكادون يكونون الوحيدين فيها، فتراه يروّج لنفسه على أنه الأوّل من دولة كذا في هذا المجال، أو أنها المسلمة الأولى أو المحجّبة الأولى أو الفتاة الأولى، وغيرها من المسميات.
كما لا يتوانى أولئك الأفراد في رسم صورةٍ بالغة الجَمال عن علاقاتهم الاجتماعية ككلّ، فأطفالهم متميزون، وآباؤهم فريدون، وأصدقاؤهم ليس لهم مثيل، وأنّك ستكون محظوظًا جدًا في حال حظيت بمثل هكذا أصدقاء، وهكذا معارف.
عملت مواقع التواصل الاجتماعي على خلق مجتمعات تفضّل الصورة على الحقيقة، والنسخة على الأصل، والتمثيل على الواقع، والمظهر على الجوهر.
الوهم عند تلك المجتمعات وحده هو المقدّس، وأيّ حقيقةٍ أو محاولة نقدٍ ليست سوى محاولةٍ لتدنيس ذلك المقدّس، لذلك ترى الأفراد مصدّقين لكلّ ما ينشره كلّ تلك الأصنام والشخوص الفارغة التي صنعها فيسبوك وانستجرام، مستميتين في الدفاع عن كلّ ما يمسّهم من خبرٍ أو رأي أو تقرير.