ظهر الممثل المصري محمد سلام، في مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عبر فيديو على منصات التواصل الاجتماعي، ليبدي اعتذاره عن المشاركة في إحدى المسرحيات التي كانت ستعرض ضمن فعاليات “موسم الرياض” في المملكة العربية السعودية.
وضح سلام عدم قبوله أن يؤدي عرضًا مسرحيًا كوميديًا في ظِل الحرب الحاصلة على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. بعدها بعدة أيام، انتشر فيديو عقب عرض المسرحية التي أعتذر عنها سلام، يعبر فيه الممثل المصري بيومي فؤاد عن رفضه موقف زميله محمد سلّام، قائلًا: “من حقك أن تعتذر عن المسرحية، لكن ليس من حقِك أن تخطئ في فنّك”.
فيديو بيومي فؤاد أثار استياء الناس، باعتباره موقفًا يمكن أن يكون سلبيًا ومتخاذلًا تجاه ما يحدث في غزة الآن، لكن الأمر لم يتوقف عند الاستياء الجماهيري، بل نتج عنه سجال بشأن علاقة الفن بالأحداث السياسية والنضالية، هل هو منوط بها أم مستقلٌ عنها وله حضوره المستقل؟
رغم أن الجدل الذي حدث نتيجة للموقف المذكور سلفًا، تاه في مساءلات شعبوية وثنائيات تشترط إدانة أحد الأطراف، فإنّها أنتجت أسئلة مهمة، تجعلنا نفكر في العلاقة بين الفنان ومنتجه، سواء كان كوميديًا أم غير ذلك، وكذلك العلاقة بين الفن والمجتمع، وما يجري به من تغيرات وتحولات في قضايا سياسية، مع ضرورة أن تحيلنا هذه الأسئلة إلى النبش في حوادث مماثلة تاريخيًا، تمكنت تجاربها من خلق سياقات يمكنها الاقتراب من هذه الأسئلة، فضلًا عن محاولة الإجابة عنها عبر اختبار فعلي أثبتته التجربة. من جهةٍ أخرى، تتولد تفريعات من أسئلة أخرى، تدفعنا إلى النظر في طبيعة الفن المحلي وما يهتم به من قضايا يقدمها، وهل لها ارتباط فعلي بالمجتمع أم منفصلة عنه؟
الفن والفضاء السياسي
“يجب أن يكون العمل الفني مكملًا لعملية خلق مأوى لعائلتي أو تحرير بلادي. هذه هي الثقافة” ثامي منيلي – جنوب إفريقيا
في كتاب “الواقعية في السينما العربية” يوضح الناقد سعيد مراد، أن المنتج السينمائي بالضرورة واقعٌ في إطار سياسي، فكل فيلم سياسي على مستوى ما، لأنه منتج مثل كل المنتجات التي تتبنى هم سياسي، على مستوى النقد أو الترويج، وحتى في حالة تجاهل الجانب السياسي أو تعمد إغفاله، فإن ارتباط الحكاية بواقع ما يجعلها سياسية بالضرورة، لدرجة أن المادة البصرية تتجاوز رؤية صانعها، وهذه إحدى جماليات الفن التي تحفظ لجودته الاستمرارية.
الارتباط الأساسي بين الفيلم والمجال الواقعي، يجعل البعد السياسي طرفًا حاضرًا على اختلاف مدى مباشرة وقوة هذا الحضور، لأن الفيلم، مثله مثل أي منتج في عالمنا المعاصر، لا يمكن أن يقدم حكاية ما دون الارتباط بأيديولوجيا، حتى ولو من خلال النقد، بمعنى أنه يرتبط بنمط جماعي من السلوك والمعتقدات والأفكار ونسق شامل للأفكار.
في هذه الحالة، يصبح كل فيلم موضوعًا قابلًا للتناول السياسي، ويمكننا عبر فضاءات العلاقات البشرية وكذلك العلاقة مع المكان في الفيلم، أن نخلق بيانات واستدراكات عن المجتمع داخل الفيلم.
حينما نموضع السينما كفن في إطار عام، يجعل وضع ارتباطات مع الفضاء الاجتماعي والسياسي المحيط، فإننا نواجه أسئلة أكثر تشابكًا من ثنائية استخدام المادة الفيلمية للترويج، رغم أن الأخير تم إقحامه داخل السينما على امتداد تاريخها لغرض سياسي موجّه، لكننا هنا نتعاطى مع الأمر عبر مجال نظر أكثر تركيبًا.
لو نظرنا إلى سياق مماثل للمسألة الفلسطينية حاليًا، فإن مرحلة “الفصل العنصري/الأبرتهايد” في جنوب إفريقيا، شهد الفن فيها حضورًا قويًا ومزدوجًا، بمعنى أن العلاقة بين المنتج الفني ومناهضة الفصل العنصري كانت توظف الفن لصالح غرضٍ تحرري، بل كان هناك ارتباط متعدد، يجعل المنتج الفني مستندًا إلى قضايا مصيرية تثقله، وتجعل له معنى منوط بفكرة تقرير المصير باعتباره دلالة مبدئية للوجود البشري على مستوى إنساني.
ضمن الاحتجاجات الكبيرة التي حدثت في جنوب إفريقيا، خاصة عقب مذبحة شاربفيل في 1960، التي قتل فيها قرابة 300 متظاهر محليّ من شرطة جنوب إفريقيا التابعة للاحتلال البريطاني، ظهرت أغان احتجاجية عديدة، كان أهمها أغنية “ndodemnyama we Verwoerd” للملحن الجنوب إفريقي فايوسيلي ميني.
اعتمدت هذه الأغنية على احتجاج مباشر ضد ممارسات رئيس وزراء جنوب إفريقيا هندريك فيرويرد، الذي كان يطلق عليه “مهندس الفصل العنصري في جنوب إفريقيا”، وتحوّلت هذه الأغنية إلى أكثر الأغنيات شعبية في جنوب إفريقيا، بينما تعرف الآن كدلالة توثيق فنية على هذه المرحلة.
انتقلت حراكات المقاومة ومناهضة الفصل العنصري إلى المسرح، تم تشكيل حركة “المسرح الأسود” في السبعينيات على يد مجموعة طلاب. تمثل حيثيات تكوين هذه الفرقة، كيفية تحول العمل النضالي والمعارضة السياسية والاحتجاجية إلى عمل فني يحمل جمالياته الخاصة، المستمدة بالأساس من الغرض في الحرية.
تكونت مجموعة “المسرح الأسود” عبر النظر إلى اختلاف حياة السود في الحرم الجماعي عن حياة الرجل الأبيض، فحتى على مستوى المسرح، لم يتواجد إلا المسرح الأوروبي المعني بآليات ترويجية لمشكلات مؤطرة في الأوروبيين.
استندت حركة “المسرح الأسود” إلى المسرح كفنٍ يمكنه عكس جانب مجهّل من الواقع، وهو قضاياهم المقموعة، وتم العمل على حِراك مسرحي واسع يعكس حياة الرجل الأسود، طبيعة وعيه تجاه فصله عنصريًا، والتعبير عن أفكاره تجاه حالة عدم المساواة الكاملة التي تشكل حياته.
أثر “المسرح الأسود” في جنوب إفريقيا، على مستوى تشكيل الوعي الذي يحيل إلى الشعور، والتعرف، على آدمية السكّان المحليين، وأنهم ليسوا كائنات مباحة ومهمّشة.
في إطار السينما، ثمّة فيلم يعكس حالة الارتباط الشديد بين الفن والسياسة في إطار مرحلة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. في 1988، صدر فيلم “صرخة الحرية”، تدور أحداثه أواخر السبعينيات. استند الفيلم إلى توجّه سياسي مباشر، عبر تناول قصة حقيقية مقتبسة من كتاب “بيكو” للصحفي دونالد وودز.
يتناول الفيلم السنوات الأخيرة في حياة الناشط والحقوقي الأسود “ستيف بيكو” الذي أسس وقاد الحركة الطلابية “الوعي الأسود”. بدأ الفيلم من معارضة دونالد مجتمع السود ومناهضة نشاط بيكو التحرري، حتى تتم دعوة دونالد لزيارة جنوب إفريقيا ومعايشة مناخها السلطوي الواقع على سكّانها السود، وعبر هذه الزيارة، ينحاز وودز إلى قضية السود، يبحث عن معاناتهم عبر المعايشة، إلى أن تتطور العلاقة بينه وبين بيكو ليصبحا صديقين، وإثر ذلك تحدد إقامة وودز، يعزل في منزله ويمنع من ممارسة عمله كصحفي، يستمر في هذا الحصار خمس سنوات، يؤلف خلالهم كتاب عن بيكو الذي سيتم اغتياله في نهاية المطاف.
شكّلت هذه الممارسات الفنية الجادة ذاكرة بديلة للذاكرة الرسمية المختلقة عن مرحلة الفصل العنصري، هذه الذاكرة لا تتوقف عن كونها توثيقًا نضاليًا، بقدر ما يمكن تناولها في إطار فني ينتج المعنى الجمالي فيه من خلال السعي نحو الحرية، تتلاشى الحدود الاسمية لطبيعة الفن، لا يهم أن يكون ذا تصنيف محدد، لأنه يبادل القضية الأولية تشكيل المعنى، المنتج الفنّي بدوره يتواجد، عبر أصالة البحث عن الحق الإنساني، وقضية التحرر تستند إلى الفن ليكون لها ذاكرة قادرة على البقاء، وجانبٌ وجداني يجعل أصحاب القضايا أكثر وعيًا بإنسانيتهم.
طالما كان الفن مادة بشرية وليدة التطلّب ومرواغة الحقيقة الخبرية الملفقة، فحينما ننظر مثلًا إلى إحدى أهم الموجات السينمائية الواقعية في تاريخ السينما، نجد أن تيار “الواقعية الجديدة” في إيطاليا، نشأ من داعٍ سياسي بالأساس، وخاض تطورات أثقلته عبر صراع قائم على مقاومة طويلة النفس مع تمثيلات السلطة في إيطاليا عقب الحرب العالمية الثانية. جاءت ضرورة الواقعية الجديدة من همٍ أولي، وهو التعبير عن آثار حربٍ دفع الشعب الإيطالي فيها تحت وطأة النازية، ولم ينالهم من الحرب إلا هدم بنى المدينة التحتية وفقر شديد، وحتى خلال العمل بشكل مستقل ومحدود ماديًا في إنتاج الأفلام، كانت السينما الأمريكية تغزو المجتمع الإيطالي بأفلام الأبطال الخارقين والحكايات المروّجة للتطلع الفردي والأنماط المستهلكة من انتصار الخير على الشر.
تناول كتاب “الواقعية الجديدة والنقد السينمائي” آليات توزيع أفلام هوليود في إيطاليا خلال صعود الجيل الأول من مخرجي الواقعية الجديدة، كان الفيلم الإيطالي الجاد، والمصنوع بصعوبة مادية وفنّية، يقابل بآليات توزيع واسعة من الفيلم الأمريكي، إذ كانت تغزو الأفلام الأمريكية سينمات إيطاليا، وتعمل على منع ظهور الأفلام الإيطالية.
على اختلاف تيارات السينما التي نشأت وبلغت ذروتها وتركت تأثيرًا مرجعيًا في أجيال لاحقة، بدءًا من تيارات غرب وشرق أوروبا، مرورًا بسينما شرق آسيا، وحتى موجة الواقعية الجديدة في السينما العربية تحديدًا المصرية، اشتركت جميع هذه الموجات في التسلّح بالسينما كوسيط يحمل خصوصية التعاطي مع الزمان والمكان، وما بهما من قدرة على السيولة ورحابة التأويل ومرونته، بما يساعد على النفاذ إلى قلب القضايا السياسية، لإعادة إنتاجها على نحو يثريها، ويجعلها منطوية على تعددية في الرؤية، لكن هذا شيء ممكن في حالة قابلية المناخ المجتمعي لخلق منتج فنّي قادر على الاشتباك دون اشتراط في طبيعة هذه المشكلات، ولأي درجة يمكنها أن تسبب مشكلات في العلاقة مع الشأن الدولي، إضافة إلى المدى الذي يمكن أن تخلقه هذه الأفلام من وعي شعبي بمسائل أولية وضرورية تتعلق بالحرية وإمكانية المعارضة ومساءلة الأنظمة، فهل تمتلك السينما العربية هذه الأرضية؟
منتجات فنية للنخبة
اعترض بيومي فؤاد خلال الفيديو المذكور في مطلع المقال، على اعتباره، هو وزملاؤه، مجرد أشخاص جاؤوا لإضحاك الجمهور في مهرجان الرياض، لأنهم يقدمون فنًا حقيقيًا، ولم يأتوا فقط لإضحاك الناس، الغرض من الكوميديا كنوع سينمائي أو مسرحي، هو أن يضحك الجمهور بالأساس، لكن “الجودة” في هذه الكوميديا أن تكون ذات تعددٍ في طبيعة الحكي، إذ يمكن للجملة التي تبهج المتفرج أن تخلق لديه انطباع، أو تصوّر عن مسألة أساسية وجادة، ولدينا في ذلك مرجع سينمائي مركزي، تشارلي شابلن في أفلامه، مثل “الأزمنة الحديثة” و”الديكتاتور العظيم”.
من جهةٍ أخرى، فإن العروض الأدائية في المسرح، وكذلك الأفلام السينمائية ذات الطابع الخفيف، ليست موادًا يجب وصمها لأنها سهلة التجاوز، ولا تبقى كثيرًا في ذاكرة المجتمعات، لأن هذه النوعية لديها حضور في كل سينمات العالم، هذا نوع موجود ولديه جمهوره، الاتفاق والاختلاف الذوقي معه يدور في إطار بعيد عن الرؤية القيمية. لا يمنع هذا الحياد من ضرورةٍ أخرى، وهي أن الحديث عن “الفن” المؤثر مجتمعيًا، والمتتبع لقضاياه، لديه حيثياته المستقلة في التشكل أيضًا، لعل أهمها أن يتجاوز قواعد السهولة والانفصال الحاضرة بشكلٍ كبير في السينما العربية والمصرية حاليًا.
في تقرير نشرته مؤسسة أريج عن السينما والدراما في مصر، تبين أن السنوات بين 2008 و2023، شهدت تراجعًا في عدد الأفلام الصادرة، من 48 فيلمًا إلى 17 فيلمًا، مع متوسط تسعير للتذكرة حاليًا في مصر يبدأ من مئة جنيه، وهو ما يعادل الحد الأدنى لأجر يوم عمل كامل في مصر. هناك تراجعٌ كبير في علاقة السينما مع “الجمهور” في صورته العامة، إذ بدأ انتشار السينمات في إطار رفاهي، نجده في المولات التجارية والأحياء الانتقائية.
المساحة التي ينفصل الجمهور فيها، عن طبيعة الرفاه في موضوعات الأفلام المقدمة، وكذلك عن الإمكانية في الاشتباك كجمهور مع الفيلم عبر صالة السينما، وقتها يكون السؤال عن مدى ارتباط الفن بالمجتمع سابقٌ على علاقته بالمجال السياسي، والذي يلزم مساحة من التراكم في الجودة والاشتباك مع القضايا المحلّية.
بعيدًا عن السجالات التنظيرية التي حدثت، كرد فعل موقف بيومي فؤاد، يمكننا النظر إلى ما حدث في سياق متجاوز للنقد الشخصي والتجريح في شخص أحدهم، سواء اختار الاعتذار عن العمل في مسرحية كوميدية خلال حربٍ حاصلة على غزّة، أم اختار غير ذلك، الأكثر أهمية هو محاولة تجاوز “شخصنة” مثل هذه المواقف، وتجنب الاقتيات على أضواء الاختلاف والأحاديث العمومية عن قيمة الفن، ومعناه، وجدواه في هذه الأوقات، لأننا بالأساس لا نملك حتى الآن، على مستوى العالم العربي، قدر كاف من تمثيلات “فعلية” لما تعانيه المجتمعات العربية من خلال السينما أو الدراما.