يعتبر الانتقال للعيش في دولة أجنبية منعطفًا وتحديًا كبيرًا في حياة الكثيرين، خاصة عند وجود أسباب قهرية، وذلك اعتبارًا لحاجز اللغة والبعد الثقافي والتنوع الاجتماعي، إضافة إلى اختلاف قوانين الدولة المستضيفة، ويتطلب الاندماج في هذا البلد الجديد، تعاونًا مشتركًا بين الوافدين والمجتمع والحكومة لإعداد برامج تهدف إلى تزويد الأجانب الجدد بالمعرفة اللازمة للعيش والتعايش في المجتمع الجديد.
وفيما يخص الجاليات العربية في تركيا، والتي ازدادت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، لا يعتبر الوجود العربي في تركيا ظاهرة جديدة، وذلك لقدم العلاقات العربية التركية على جميع الأصعدة التاريخية والاقتصادية والدينية والسياسية.
ومع هذه القواسم المشتركة بينهما، إلا أن هناك العديد من التحديات والمطالب التي تواجه كلا الجانبين، وخاصة من الجانب الاجتماعي الذي يتطلب أحيانًا أن يتخلى العرب عن بعض خصوصياتهم للاندماج بشكل كامل في تركيا، كما قد يتطلب جهدًا مضاعفًا من الحكومة لخلق أجواء مرحبة ومريحة لكلا الطرفين، لكسر الجمود الاجتماعي والثقافي بينهما.
علمًا أنه رغم أصالة العلاقات التركية العربية، هناك بعض الفئات من المجتمع التركي لا تتقبل الوجود العربي، وذلك يعود لأسباب تقليدية عن الأحداث التاريخية بين العثمانيين والعرب، إضافة إلى الجانب الديني الذي يتحسس منه العلمانيون والمعادون لمظاهر الدين والتدين.
ولا يمكن غض النظر عن بعض الفئات التي تنظر إلى هذه العلاقات على صورة مصالح اقتصادية بحتة، أي أن “البيزنس” هو الحاكم الأول لهذه القرابة، ولهذا هناك شريحة كبيرة من المجتمع التركي ترى العربي على أنه “تاجر” لا أكثر، وهذا بحسب رأي الخبير بالشؤون التركية غزوان المصري.
فهل تعيق هذه الأفكار اندماج العرب بالمجتمع التركي؟ وبالمقابل، هل يبادر العرب للتفاهم والتعايش مع هذا الشعب؟
الجهود التركية لإدماج العرب في المجتمع
أصدرت وزارة التعليم الوطنية قرارًا بدمج بعض الصفوف في المرحلة الأساسية واستكمال دمج البعض الآخر منها في العام المقبل، وذلك بناء على اتفاقية بينها وبين منظمة اليونيسف بإغلاق جميع المدارس السورية بانتهاء عام 2018، وبدء تسجيل الطلاب السوريين في المدارس التركية، وقد يشمل هذا القرار بقية المدارس العربية الموجودة في تركيا والتي تستقبل طلاب من جميع الجنسيات العربية.
ووفقًا لمستشار وزارة التعليم الوطنية أرجان دميرجي، فإن هناك 205 ألف طفل سوري في المدارس التركية و300 ألف يتابعون تعليمهم في المدارس السورية المؤقتة.
وأشار المستشار إلى أن هذه الخطوة تهدف إلى دمج العرب مع أقرانهم الأتراك في المرحلة الدراسية وخلق نوع من التوازي التعليمي والاجتماعي بينهما، خاصة أن هذه المراكز لا تتمتع بالشروط الواجب توافرها في المؤسسات التعليمية، كذلك يذكر أنهم سمحوا بتأسيس المدارس السورية من البداية لأنهم اعتقدوا أن الأزمة السورية ستنتهي في سنوات معدودة وسيعودون إلى بلادهم بعدها.
في خطوة أخرى، وبحكم الوجود السوري الكبير في تركيا، دربت الحكومة التركية الأطباء والممرضين السوريين، على آلية عمل نظام الصحة الخاص بها، ومن المتوقع أن يتولوا مهامهم في 26 مركزًا طبيًا، وباشرت وزارة الصحة بإغلاق المراكز السورية خاصة حتى تكون تحت وصايتها ووصاية النظام.
الجهود العربية للتواصل مع الأتراك
أعلنت مؤسسات مدنية عربية في تركيا بدء فعاليات “مهرجان العرب” داخل البلاد لبناء جسور التواصل بين المجتمعين العربي والتركي واستهدف هذا المهرجان التجمعات العربية كالمدارس والجامعات والمنظمات والقنوات العربية داخل تركيا، وتهدف إلى إيصال رسائل إيجابية معبرة إلى المجتمع التركي، بحسب ما ذكر المنظمين.
إذ قال منظم المهرجان رضا عبد العزيز، إن الهدف من هذه الفعالية خلق تواصل بين الشعب التركي والعربي، لتتكون صورة إيجابية لكلا الشعبين عن بعضهما ويكونوا قوة موحدة في المجالات الفكرية والثقافية وتوحد جهودهم وتعمل على دعم التبادل الحضاري والثقافي.
وفي محاولة عربية أخرى للاندماج، أنشأ “مؤتمر اسطنبول الثاني لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، إضاءات ومعالم”، مجلسًا عالميًا لتعليم العربية للناطقين بغيرها، بالتعاون مع مؤسسة إسطنبول للتعليم والأبحاث (إيثار)، والذي يهدف إلى تأسيس معرفي لتعليم اللغة العربية للأتراك وتطوير لغتهم.
تهدف جمعية “بيت الإعلاميين العرب في تركيا” للربط بين مئات الإعلاميين العرب وعشرات المؤسسات العربية العاملة في تركيا والجهات الرسمية التركية من جهة أخرى، وحل المشاكل التي تواجه كلا الطرفين في التواصل وتفعيل التعاون فيما بينها والالتزام بقانون الدولة التركية في قطاع الإعلام
ومن ناحية أخرى أنشأ عدد من الإعلاميين العرب في تركيا جمعية “بيت الإعلاميين العرب في تركيا” للربط بين مئات الإعلاميين العرب وعشرات المؤسسات العربية العاملة في تركيا والجهات الرسمية التركية من جهة أخرى، وحل المشاكل التي تواجه كلا الطرفين في التواصل وتفعيل التعاون فيما بينها والالتزام بقانون الدولة التركية في قطاع الإعلام، وهذا بحسب قول رئيس الجمعية محمد زاهد غول.
وأضاف غول للعربي الجديد إن هناك خللاً في التواصل بين المؤسسات الإعلامية العربية والجهات الرسمية التركية، وضعف في التواصل فيما بين هذه المؤسسات، ومن هنا تأتي جمعية بيت الإعلاميين العرب في تركيا، لسد الثغرات.
ومن أكثر الفعاليات شيوعًا في هذا الخصوص، معارض إسطنبول الدولية للكتب والتي تشارك فيها أكثر من 300 دار نشر من داخل تركيا وخارجها، ويتخذ العرب منها نحو 100 دار نشر، وتهدف هذه المعارض إلى تعزيز التقارب الفكري والثقافي وفتح المجال أمامهم لفتح أحاديث ونقاشات تهم الجانبين.
إلى جانب المكتبات التي أُنشئت بالمناصفة بين السوريين سامر القادري وزوجته جلنار حاجو، والممولة التركية زينب سيفدا لافتتاح مكتبة “صفحات”، والتي تهدف إلى بيع الكتب العربية والتركية معًا لتعزيز العلاقات بين العرب والأتراك.
حاجز اللغة والتراكمات التاريخية
يواجه الطلاب بشكل عام تحديات أكثر من غيرهم من الوافدين، وذلك لحاجتهم للتعامل مع النظام التعليمي الجديد والتفاهم مع أقرانهم الأتراك والدراسة باللغة التركية الأكاديمية، ولإنجاز هذه الضروريات يتطلب من الطلاب إتقان اللغة التركية بكل أساسياتها، للانخراط بشكل كامل في المرحلة التعليمية.
ويشكل الطلاب الأجانب نسبة كبيرة في الجامعات التركية، حيث يأتي السوريون بالمرتبة الثانية في قائمة طلاب الجامعة الأجانب، ووصل عددهم إلى 9 آلاف و689 طالبًا، وفي المرتبة الرابعة يأتي العراق، فيشكل العراقيون أكبر ثاني جالية عربية بعد السوريين، يصل عدد الطلاب إلى 4 آلاف و414 طالبًا عراقيًا، ويتبعهم في المرتبة التاسعة بين الطلاب الأجانب الليبيون والذي تخطى عددهم ألف و668 طالبًا، هذا بحسب موقع سي إن إن ترك.
وللإجابة عن مدى تقبل العرب والأتراك لبعضهما يقول الطالب المغربي عبد اللطيف مناضل، في حوار له مع قناة الجزيرة: “هناك الكثير من الصعوبات في الاندماج داخل المجتمع التركي، وذلك لتفضيل البعض بالتجمع على شكل تكتلات عربية بعيدًا عن الاختلاط بالطلاب الأتراك الذين أصلاً لديهم أحكام تاريخية مسبقة على الدول العربية”.
بوعزيزي: “هناك تنافر بين الطلبة العرب والأتراك” ويرجح أن السبب يعود ربما إلى حاجز اللغة أو من بسبب عدم وجود مبدأ تقبل الآخر من الطرفين.
كما يعتقد الطالب مناضل أن المشكلة تكمن في الوافدين العرب الذين لا يتخلوا عن موروثاتهم وخلفياتهم الثقافية التي أتوا بها إلى تركيا، ويشير إلى سبب آخر، وهو تفضيل بعض العرب للعيش معًا في نفس المنطقة مثل الفاتح أو بشاكشهير، وهذا ما يمنعهم من الاندماج أو مخالطة المجتمع التركي.
ومن وجهة نظر المراسل الصحفي إبراهيم بوعزيزي، فإنه يرى أن هناك تنافرًا بين الطلبة العرب والأتراك، ويرجح أن السبب يعود ربما إلى حاجز اللغة أو بسبب عدم وجود مبدأ تقبل الآخر من الطرفين.
ويرى ناشط في الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، وهو تركي ناطق بالعربية، عمر الفاروق، أن “العائق الوحيد هو اللغة التركية التي لا يتحدث بها العرب، والتي لم تساعد بحل المشاكل القديمة بين العرب والأتراك ولم تخلق بينهما جسرًا للتفاهم والتواصل”.
وبعيدًا عن الطلاب، يقول حسام أبو خضر، مهندس مدني، يعمل منذ 7 أعوام في تركيا: “المشكلة باختصار هي الأحداث التاريخية المغلوطة والمزورة، التي تم تدرسيها للشعب التركي عن العرب، وهذه الحقيقة كافية لتفسير نظرة التعالي التي ينظرها بعض الأتراك للعرب”.
تزايد اهتمام الأتراك باللغة العربية، إذ تقول إحصائيات المؤسسة إن 800 شخص تعلم اللغة العربية في عام 2011، وتضاعف هذا العدد عام 2013 ليصل إلى 18000 شخص، وفيما بعد وصل عددهم إلى 2750 شخصًا، وحاليًا من المرجح أن تكون هذه الأعداد تضاعفت بشكل كبير.
ويضيف أبو خضر: “تنقلتُ بين أكبر المدن التركية، إزمير وإسطنبول وأنقرة، وفي كل مدينة اختلفت معاملة الأتراك معي ومع أقراني العرب، على سبيل المثال، لم أشعر بالغربة في إزمير رغم أن غالبية سكانها من العلمانيين القوميين، على العكس في مدينة إسطنبول التي يعاملك أهلها بكل برود اجتماعي وعنصرية لمجرد أنك عربي، وهذا ينطبق على العربي السائح أو اللاجئ أو المقيم أو حتى المستثمر”، هذا بحسب تصريحه لنون بوست.
وفي حوار آخر مع إيناس هرهوري، مترجمة تونسية، تقول: “هناك رواسب تاريخية تقف عائقًا بين الشعبين، ولكن مع مجيء حزب العدالة والتنمية تغيرت النظرة النمطية قليلًا وأصبح هناك تقبل للطرف الآخر بشكل أكبر من السابق، وإقبال كبير من الشعب التركي على تعلم اللغة العربية، ولكننا قد نجد الكثير أيضًا من حالات العداء التي ولدت مع بدء أزمة اللاجئين”، هذا وتشير هرهوري إلى ضرورة تعلم اللغة التركية للتواصل مع الأتراك ومخالطتهم والاهتمام بجوانب حياتهم الثقافية أو الرياضية مثلًا، والابتعاد عن التقوقع والانعزال في المجتمع العربي المحلي.
فوفقًا للمؤسسة الدولية “أكاديمي إسطنبول” فإن اهتمام الأتراك باللغة العربية قد تزايد في السنوات الأخيرة، إذ تقول إحصائيات المؤسسة إن 800 شخص تعلم اللغة العربية عام 2011، وتضاعف هذا العدد عام 2013 ليصل إلى 18000 شخص، وفيما بعد وصل عددهم إلى 2750 شخصًا، وحاليًا فمن المرجح أن تكون هذه الأعداد تضاعفت بشكل كبير.
أما الوجه الآخر للعلاقة، يرى البعض أن هناك اندماجًا واضحًا بينهم والأتراك، خاصة فيما يتعلق بأمور المشاركة بينهم وبين جيرانهم من الأتراك أو سكان الحي بشكل عام، إذ يشعرون بالثقة المتبادلة والتقبل بشكل كامل، وأن الجنسية لا تشكل أي فرق في المعاملات الاجتماعية.
ما أسباب عدم اندماج البعض؟
يرى البعض أن سبب الفجوة الاجتماعية بين الجالية العربية في تركيا ومواطنيها يعود إلى فرص تأسيس الأعمال ومزايا الاستثمار التي يقدمه القانون التركي، فهذه الحرية في التوسع مكنت العرب من حصر نشاطاتهم وتجمعاتهم في مجتمعات صغيرة محلية، خاصة بهم، وحد ذلك من حاجتهم إلى التفاعل مع المجتمع الخارجي، وبذلك خلقت المزيد من الحواجز والحساسية بين الطرفين.
ومن ناحية أخرى، يرى البعض أن التجمعات العربية في مدن تركية معينة مثل إسطنبول وغازي عنتاب وأورفة وبورصة، قد لا يساعد المقيمين العرب على الاختلاط مع الأتراك ولا يمكنهم من الاستفادة من التنوع الاجتماعي والثقافي، ونفس النقطة تنطبق على الوجود في مناطق معينة في نفس المدينة، فمن المتعارف عليه أن أماكن وجود العرب في إسطنبول تشمل منطقة الفاتح وبشاكشهير وبيليك دوزو، والعمرانية في الطرف الآسيوي.
وكذلك يعتقد البعض أن السبب الأول هو اللغة والتي تعود إلى عدم توفر الوقت لتعلمها، خاصة أن العديد من العرب يأتون إلى تركيا للعمل مباشرة، أو أنهم لا يريدون تعلمها.
أعداد العرب في تزايد
في ظل التوسع الكبير للعرب على الأراضي التركية، يقول الخبراء إن هذا الانتشار قد يقلب التوازن الديمغرافي في عدة محافظات تركية، فوفقًا للمديرية العامة لإدارة الهجرة في وزارة الداخلية، فإن المناطق الحدودية مثل كيليس وهاتاي وماردين وسانليورفا وغازي عنتاب تضاعف عدد سكانها بشكل كبير مع مجيء العرب إليها وخاصة اللاجئين، فبناء على إحصاء عام 1960، أشار التقرير إلى أن الذين أعلنوا أن لغتهم الأم هي العربية كانت نسبتهم 1% من سكان مدينة كيليس، إلا أن هذه النسبة ازدادت بشكل كبير لتصل إلى 49.2%.
كانت بعض المحافظات مثل ماردين وأورفة شكل عدد العرب في الأصل فيها إلى أقل من 1% والآن تصل إلى 18%، وتعتبر هذه نسبة عالية بالمقارنة مع الأغلبية الكردية في هذه المناطق.
ويذكر أن نحو 500 ألف عربي يعيشون في هاطاي وضواحيها في الوقت الحالي، وهذا العدد الكبير من العرب زاد نسبتهم من 34% إلى 47%، هذا وفقًا لتقرير مؤسسة واشنطن.
كذلك يذكر البعض أن انتقال العرب إلى العيش في تركيا، أحدث تغييرات طائفية وعرقية، فمثلاً كانت بعض المحافظات مثل ماردين وأورفة شكل عدد العرب في الأصل فيها أقل من 1% والآن تصل إلى 18%، وتعتبر هذه نسبة عالية بالمقارنة مع الأغلبية الكردية في هذه المناطق.
ورغم المسائل الأمنية والخلافات السياسية التي تعيشها تركيا، فإن الكثير من العرب يعتبرونها المكان الأمثل للمعيشة، والسبب الرئيسي في ذلك فرص العمل وسهولة الاستثمار والروابط التاريخية والدينية التي تقدسها المجتمعات العربية.