بينما يستعد العالم للاحتفال في يوم المرأة الدولي، الذي حددته الأمم المتحدة بشكل خاص لتسليط الضوء على قضايا المرأة، يستمر جيش الاحتلال الإسرائيلي في قتل النساء الفلسطينيات في قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي، ومن تنجو من قصفه وحصاره، تبقى عرضة لمآسٍ إنسانية أخرى، منها التهجير والتجويع والفقد.
وفي ظل هذه الأوضاع المأساوية، وتصاعد حدتها يومًا بعد يوم، خاصةً ضد النساء الفلسطينيات وأطفالهن، لكونهم الضحية الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، ظهرت تساؤلات عن دور الحركة النسوية – عربيًا وعالميًا – في التضامن مع نساء قطاع غزة، وطبيعة تفاعلاتها مع الانتهاكات التي تتعرض لها المرأة الغزية.
المرأة الفلسطينية في قطاع غزة
“أرواح متعبة بأجساد منهكة” هكذا يمكن أن نلخص حال النساء في غزة بعد مرور أشهر على حرب الإبادة الإسرائيلية التي تسببت بقتل نحو 9 آلاف امرأة، وفق آخر إحصائية نشرتها وزارة الصحة في غزة.
تركت الحرب الإسرائيلية النساء بين نيران الموت والنزوح والتجويع والاعتقال والاعتداء الجسدي والجنسي، ما جعل مقررة الأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد المرأة، ريم السالم، تدق ناقوس الخطر بشأن ما تواجهه النساء في غزة وما يتعرضن له من معاملة “غير إنسانية ومهينة”، واصفةً حياتهن بـ “الجحيم”، في إشارة إلى آلاف النساء اللاتي تأثرن بالحرب، إذ تقتل كل ساعة أمّان.
تعيش كذلك أكثر من 60 ألف امرأة حامل وطفل واحد يولد كل عشر دقائق وسط غياب الرعاية الصحية في “جحيم غزة” الذي يتناوب جنود الاحتلال على قصفه، أما الولادات فتكون إما داخل الخيام التي لا تقي من برد الشتاء أو على أرضية مدارس الأونروا المكتظة بالنازحين، أما الحبل السري فيُقطع غالبًا بسكين المطبخ، والأوفر حظًا من تلد في مستشفى، لكنها غالبًا ما تصدم لاحقًا بغياب الرعاية الصحية وندرة أدوية التخدير ومعاناة الجنين من سوء التغذية بسبب ما تعانيه من جوع وجفاف.
الأوضاع الكارثية في القطاع المنكوب جعل من الولادة الآمنة لنساء غزة رفاهية لا تحصل عليها أي امرأة حامل على وشك أن تضع مولودها، خاصة في وقت تحولت فيه عربة الدواب إلى سيارة إسعاف بعدما دمر الاحتلال جلها.
الحرب التي تبث الرعب في نساء الحوامل تجعلهن أيضًا عرضة للإجهاض أو الولادة المبكرة بحسب الدكتور أحمد الشاعر، أخصائي طب الأطفال في مستشفى الهلال الإماراتي للولادة في رفح، الذي ذكر أن “القصف المتواصل والفرار بحثًا عن الأمان والشعور بالخوف أثر كبير على الكثيرات، ما أدى إلى الولادة المبكرة، وهي حالات تمثل تحديًا حتى في الأيام العادية – فما بالكم الآن”، وأضاف قائلًا: “إن الوضع مأساوي”.
حذرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أيضًا من صعوبة وصول الفتيات إلى المياه ومرافق الصرف الصحي الآمنة لتحقيق النظافة الصحية أثناء الدورة الشهرية، ما يجعلهن عرضة لعدد من الأمراض المعدية، منها الالتهاب الكبدي والتهاب المهبل الفطري، علمًا أن هناك أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في عمر الحيض غالبيتهم يضطرون إلى الوقوف ساعات طويلة في طابور لاستخدام دورات المياه، بينما لا يستطيعون تغيير ملابسهم الداخلية باستمرار.
عدا عن الجوانب الصحية والجسدية، ستترك هذه الحرب آثارًا نفسية على المدى البعيد وستغير حياة البعض إلى الأبد، إذ وجدت 2780 امرأة في غزة أنفسهن بلا معيل بعد فقدان أزواجهن، وفق منظمة الأمم المتحدة للمرأة في الدول العربية، وسيتوجب عليهن المحافحة من أجل البقاء ورعاية الأطفال وسط ندرة المياه والغذاء والدواء وصعوبة الوصول إلى منظمات إنسانية.
التضامن النسوي مع الفلسطينيات
كان طوفان الأقصى طوفانًا فكريًا وأخلاقيًا على أصعدة مختلفة، أهمها رفع وعي الشعوب الغربية حول ما يعيشه الفلسطينيون من انتهاكات خلال الـ 75 عامًا الماضية، ما انعكس على الساحات على شكل مظاهرات حاشدة هي الأولى من نوعها، تدعم وتنادي بالتحرر لفلسطين من الاحتلال الإسرائيلي.
شمل المشهد جميع الحركات المناضلة والمدافعة عن حقوق الإنسان، ومنها الحركات النسوية التي كرست جزءًا من فعالياتها ونقاشاتها العامة، من أجل الضغط على الفاعلين في دوائر الحكم المحلية والدولية، لوقف الانتهاكات الإسرائيلية ضد النساء الفلسطينيات في قطاع غزة، ومراعاة احتياجاتهن وظروفهن في تلك الإبادة الوحشية.
المحامية في مجال حقوق الإنسان والناشطة النسوية هالة عاهد، توضح في حديثها لـ “نون بوست” أنه يصعب الحديث عن موقف موحد للنسويات حول العالم، وتعلل ذلك بأن “الحركات النسوية العالمية ليست كتلة واحدة، وبالتالي موقفها مما يجري من غزة ليس واحدًا كذلك، وتستدرك قائلة إنه “سنرى مواقف فردية لنسويات أو تجمعات صغيرة أظهرت تضامنًا مع ما يجري في غزة”.
أما عن الدعم الذي قدمته بعض النسويات في العالم العربي، تقول عاهد: “منذ اليوم الأول، تصدت النسويات للرواية الصهيونية التي زعمت أن عناصر من المقاومة اغتصبوا نساء إسرائيليات، ورفضن المساواة بين ما تعيشه النساء الفلسطينيات والمستوطنات الإسرائيليات، بالإضافة إلى انخراطهن في التظاهرات الاحتجاجية التي تطالب بوقف إطلاق النار وجمع المساعدات الإنسانية أو حتى بالتحركات القانونية الرامية لمقاضاة الاحتلال على جرائم الحرب”.
وربما يرى البعض أن صوت الحركات النسوية كان خافتًا خلال حرب الإبادة، وأحيانًا معدومًا، لكن عند المرور على “الشبكة المتوسطية للإعلام النسوي“، فيمكن أن نلحظ تغطية لرسائل نساء غزيات يشرحن ما يعانينه جراء الحرب الطاحنة، كما تعطي الشبكة أهمية للمظاهرات المناصرة للفلسطينيين، في صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، كنوع من التشجيع على التضامن.
إضافة إلى ذلك، دعت الشبكة النساء في جميع أنحاء دول البحر المتوسط إلى التظاهر في يوم المرأة العالمي وتنظيم إضرابات والانضمام إلى الفعاليات التي تنظمها بهدف دعم المرأة الفلسطينية.
في حين بادر “تجمع النسويات الفلسطينيات”، ومقره في الولايات المتحدة، لتنظيم احتجاجات ضد الإبادة الجماعية في غزة بالتعاون مع منظمات أخرى، إذ دعت يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول إلى الخروج دعمًا للفلسطينيين تحت عنوان “النصر لنا”، وحرص التجمع على المشاركة في غالبية الفعاليات والاحتجاجات والأيام العالمية للتضامن مع فلسطين التي تنادي بوقف إطلاق النار في غزة، عدا عن تنظيمها جلسات لمناقشة التطورات في الحرب أو الاستماع إلى شهادات الأسرى المفرج عنهم والناجين من الحرب.
وبخلاف المنظمات الأخرى، استغل “التجمع النسوي الفلسطيني” اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة في 25 نوفمبر/تشرين الثاني لتسليط الضوء على معاناة نساء غزة، إذ أطلق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لمناهضة النسوية الاستعمارية، مستخدمة وسمي “أوقفوا النسوية الاستعمارية” و”النسويات يقولون لا للإبادة الجماعية”.
في أمثلة أخرى يحضر التضامن النسوي مع النساء في غزة، لكن مع تتالي الأيام، شهدت بعض المنصات النسوية تراجعًا في تغطيتها، رغم أن المأساة تزداد كارثية يومًا بعد يوم، كمنصة “جيم” التي علقت نشر موادها بعد أيام من بدء طوفان الأقصى بهدف تحضير محتوى يتناسب مع المشهد، لكنها قدمت لاحقًا أداءً إعلاميًا خجولًا مقارنة بحجم التحديات والمعاناة التي تواجه الفلسطينيات في غزة.
انطلاقًا مما سبق تعتبر عاهد أن التحركات العربية النسوية اقتصرت على الدعم داخل الحدود التي سمحت به الحكومات، ورغم ذلك تعرضت بعض هذه الجهات للتهديد بقطع التمويل.
النسويات في الغرب والإبادة في غزة
انقسمت النسويات في الغرب بين متضامنات مع غزة وآخريات داعمات للإبادة الجماعية، على سبيل المثال وضعت منصة “feminist” الرقمية التي يتابعها أكثر من 6 ملايين مستخدم على الإنستغرام تأثير الحرب على نساء غزة ضمن دائرة اهتماماتها، فخصصت منشوارت تشرح جزءًا من معاناتهن.
كما أصدر “تحالف النساء من أجل التغيير الاجتماعي” الذي يضم نسويات من شتى الجنسيات في العالم ويهدفن إلى مواجهة العنف ضد النساء، بيانًا مهمًا يدين فيه قبل كل شيء الاحتلال غير القانوني المستمر منذ 75 عامًا للأراضي الفلسطينية والحصار المفروض على غزة منذ 16 عامًا.
مؤسسة “ماما كاش” التي تقدّم الدعم للناشطات والمبادرات النسوية، أيضًا كانت من الجهات التي لم تتردد في إظهار الدعم لفلسطين، فهي الأخرى نشرت بيانًا يؤكد على حقوق الفلسطينيين بالتحرر من الاحتلال ويدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية.
جدير بالذكر أيضًا، موقف الفيلسوفة النسوية الأمريكية ومستشارة حركة “يهود من أجل السلام”، جوديث بتلر، التي رفضت وصف العدوان على غزة بكونه “صراعاً” بين طرفين، مؤكدة أنه شكل من أشكال السلب العنيف الذي يعود تاريخه إلى عام 1948، وأن 7 أكتوبر ليست نكبة جديدة بل استمرارًا لنكبة لم تتوقف أبدًا بالنسبة لملايين البشر.
على النقيض تمامًا، ذهبت نسويات غربيات أخريات كانوا قد أظهروا مواقف مناهضة للعنف ضد المرأة ونشطوا في عدد من القضايا المعنية بحقوق المرأة، إلى تبني السردية الإسرائيلية، مثل الكاتبة النسوية الشهيرة ميغان ميرفي، التي حرصت على تبييض صفحة “إسرائيل” من خلال مقابلة أجرتها مع صحفية منحازة للرواية الإسرائيلية، كما أنها سبق واعتبرت المتظاهرون تضامنًا مع غزة “عصابات تابعة لحركة حماس”.
أحد الأمثلة أيضًا التي يتجلى فيها نفاق وتناقض بعض النسويات في الغرب، موقف الصحفية والكاتبة النسوية، جولي بايندل التي اختصرت موقفها المخزي بمنشور كتبت فيه “حان الوقت للوقوف إلى جانب الحضارة” وأرفقت بجانبه علم الاحتلال.
تمثل المواقف المتناقضة كما في الأمثلة السابقة النسوية الإمبرالية أو البيضاء كما تسميها الناشطة الحقوقية هالة عاهد، التي ترى بهذه الفئة من النسويات أنهن لا يعيرن أهمية لمشاكل النساء في العالم العربي ولا يتعاطفن مع قضايا المرأة العربية بل ويتعاملن مع الأمر من منطلق العقلية الاستعمارية.
صدى الأصوات النسوية لا يصل
لا يبدو أن التحركات النسوية في إطار التضامن مع نساء غزة تصدرت المشهد كما في الحراكات السابقة، وتُرجع عاهد سبب ذلك إلى أنه في القضايا الأخرى دائمًا ما كانت مواقف النسويات تتشابه مع مواقف الدول الغربية التي لديها أجندة نسوية أو جندرية تدعم من خلالها قضايا المرأة، لكن هذه الدول انحازوا إلى جانب الاحتلال ودعموا الإبادة الجماعية ما جعل الأصوات النسوية المناهضة للاحتلال أقل وصولًا.
كما تتخوف بعض النسويات من الاصطدام بانتقادات الأنظمة التي تدعم الحرب الإسرائيلية على غزة صراحةً، ما يدفعهن إلى تفضيل الصمت عن الإبادة، بدلًا من مواجهة الأنظمة السياسية، وهو ما يتناقض مع جوهر الحركة النسوية ودورها، وفق عاهد.
على الضفة الأخرى كان هناك نوعًا من التحفظ على تناول معاناة نساء غزة، دونًا عن غيرهن في ظل الجرائم والمجازر الإسرائيلية التي لم تكف شرها لا عن امرأة ولا رجل ولا طفل، وانطلاقًا من ذلك رأى البعض أنه من المهم التركيز على هدف يشمل كل ذلك، وهو وقف إطلاق النار.
ختامًا، ترى عاهد أن بعض النسويات لم يردن الانخراط في دعم نساء غزة، تماهيًا مع المنظومة الإمبريالية أو خوفًا من فقدان دعم هذه الأنظمة، فيما انخرطت أخريات في فعاليات أكثر شمولًا، مثل وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، وهذا التباين في الآراء والمواقف جعل الوصول إلى موقف نسوي صلب وموحد صعب المنال أو غير واضح الرسائل.