لم ينظر البارزاني مليًا لمآلات ما بعد الاستفتاء على الانفصال، وبدت خطوته الجريئة بإقامة الاستفتاء، غير محسوبة العواقب، الأمر الذي جعل التحولات بالمواقف السياسية للقادة الكرد، تظهر بشكل سريع بعد موجة الرفض العالمي الكبيرة لهذا الاستفتاء، فانتقل الكرد للخطة (ب) بتحويله من استفتاء يقود للانفصال، إلى مجرد ورقة ضغط على حكومة بغداد لنيل المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية، لكن ورقة الضغط هذه ربما ستتحول بعد أيامٍ قلائل من ورقة ضغط على الحكومة، إلى زورق نجاة يتمسك به الساسة الكرد للحفاظ على ما لديهم من مكتسبات خشية فقدانها.
الجميع يتخلى عن البارزاني
وبسبب اعتماد البارزاني على وعود وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “CIA”حين وعدته بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستقف خلفه وتسانده في إجراء الاستفتاء، حاول البارزاني أن يوهم الشعب الكردي بأن العالم كله سيقف خلفه ويدعمه في تلك المغامرة غير المحسوبة، ورغم التحذيرات الأمريكية التي جاءت على لسان أكثر من مسؤول أمريكي وبدرجة وضوح عالية، لم يتزحزح قيد أنملة عن قراره، مفسرًا تلك التحذيرات بالمناورات السياسية التي لا بد لأمريكا من اتخاذها لكي لا تظهر بموقف المساند للانفصال.
لقد غرته وعود المخابرات الأمريكية والتي صارح فيها رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان حينما زاره في أربيل ليحاول ثنيه عن محاولته الانفصالية، وأخبره أن لديه ضوءًا أخضر من ال CIA فضاع البارزاني بين وعود المخابرات الأمريكية ورفض الخارجية الأمريكية، ولم يعلم أن الإدارة الأمريكية الحالية قد حيرت بمواقفها المتناقضة دول عالمية كبرى، لم تجد الوسيلة الصحيحة للتعامل مع هذه الإدارة المتلونة، فكيف بالبارزاني الذي يعتبر قزمًا سياسيًا أمام تلك الدول، سيستطيع أن يتعامل معها؟
توالت بعد ذلك تصريحات القادة الأوربيين وقادة الكثير من دول العالم، ناهيك عن مواقف دول الجوار الرافضة بشكل قاطع لهذا الاستفتاء، إلا أن تقييمات البارزاني وحزبه لتلك التصريحات، بأنها زوبعة في فنجان وسرعان ما سيؤيدون الانفصال ويكونون أمام الأمر الواقع، وحتى الكيان الصهيوني الذي عبر عن تأييده للاستفتاء الكردي بشكل صريح قبل موعده، سرعان ما تراجع عن تأييده على لسان رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، بل وأبدى انزعاجه من رفع العلم الإسرائيلي في مدن شمال العراق.
وجدت التيارات السياسية الكردية أنها في ورطة حقيقية أوقعهم بها البارزاني، فبدأت مواقفها تتغير وبسرعة لمحاولة لملمة ما تم التفريط به من مواقف سياسية غير مدروسة
وحتى الأمين العام للأمم المتحدة تخلى عن الساسة الكرد عندما صدر بيان عنه ينفي فيه طرحه لمبادرة حل للأزمة الكردية من قبل الأمم المتحدة، وأعاد تجديد الموقف الأممي الداعم لوحدة العراق، والمعارض لتقسيم البلاد، وهذا الرفض من قبل المنظمة العالمية يدلل على تخلي هذه المنظمة عن الساسة الكرد بسبب رفضهم لمقترحاتها التي سبقت الاستفتاء، وحتى الكرد الفيليين (أكراد شيعة) أعلنوا في مؤتمر عام لهم، تأييدهم لإجراءات العبادي ضد إقليم كردستان على خلفية الاستفتاء الانفصالي.
كل تلك الأمور جعلت البارزاني يجد نفسه وحيدًا ومعزولاً سياسيًا، وهو الذي كان وحتى وقت قريب يتم استقباله من قبل بعض قادة دول العالم بالسجاد الأحمر تقديرًا لحكمته السياسية وتعقله في مواقفه المختلفة، وبنفس الوقت بدأ نجم حيدر العبادي يعلو ويحظى بالدعم العالمي والإقليمي رغم أنه سياسي خرج من نفس المنبع الذي خرج منه نوري المالكي المنبوذ إقليميًا ودوليًا.
الساسة الأكراد يتراجعون عن مواقفهم السابقة
وجدت التيارات السياسية الكردية أنها في ورطة حقيقية أوقعهم بها البارزاني، فبدأت مواقفها تتغير وبسرعة لمحاولة لملمة ما تم التفريط به من مواقف سياسية غير مدروسة، فشهدت الساحة السياسية الكردية تراجعات عن المواقف المؤيدة للاستفتاء بعد أيام قليلة من فرض بغداد لعقوباتها على الإقليم.
وبدأ الساسة الكرد يطرحون حلولًا للتسوية مع بغداد للخروج من هذا المأزق، من قبيل رجوع البرلمانيين الكرد لمجلس النواب، وطرح مبادرات جديدة لحل الأزمة، وإعادة النظر بالمبادرات الدولية التي سبقت الاستفتاء، وليس أخيرًا محاولتهم لطرح حل الاتحاد الكونفدرالي مع العراق، في صورة يمكن وصفها بأنها الخطة (ب) للقيادة الكردية في حالة فشل الاستفتاء بالوصول إلى غاياته الانفصالية.
ذلك لأن البارزاني ومن يتبعه من السياسيين الكرد، ما زالوا يمنّون أنفسهم بالاستفادة من هذا الاستفتاء، كورقة ضغط على أقل تقدير ضد حكومة بغداد عندما تبدأ مفاوضات مشتركة بينهم، وذلك من خلال التلويح بالانفصال إذا لم تستجب بغداد لمطالبهم، لكن كل تلك المحاولات الكردية تلقى رفضًا صارمًا وموقفًا ثابتًا من العبادي الذي يعتمد على تأييد دولي قوي، ودعم إقليمي أقوى.
من غير المتوقع أن تقبل بغداد من البارزاني بأقل من إلغاء الاستفتاء ونتائجه وكل ما ترتب عليه من إجراءات
الأمر الذي جعل البارزاني يقبل بالحوار مع بغداد دون شروط مسبقة، حسب ما جاء على لسان المستشار السياسي في ديوان رئاسة الإقليم هيمن هورامي، في تغريدةً له إن بارزاني أبلغ الجبوري أن الإقليم مستعد للحوار مع الحكومة المركزية في بغداد من دون أي شروط مسبقة.
البارزاني يوافق على تجميد الاستفتاء وليس إلغاؤه
والبارزاني لحد الآن يحاول إمساك العصا من الوسط لحفظ ماء وجهه، من خلال الموافقة على تجميد الاستفتاء لكن دون إلغائه مقابل رفع العقوبات التي فرضتها بغداد على الإقليم، لكن السبب الحقيقي لهذا التجميد مقابل رفع العقوبات، الخشيته من غضبة شعبية ينتظر وقوعها في الإقليم الكردي، بسبب نتائج الحصار الاقتصادي الذي فرضته حكومة بغداد بمساعدة الدولتين الجارتين للإقليم تركيا وإيران.
ذلك لأن الاستفتاء الكردي على الانفصال عن العراق، في حقيقة أمره كان من بنات أفكار البارزاني وأحلامه، وكان عازمًا على إبرامه مهما كانت الظروف، في حال كانت علاقته ببغداد جيدة أو سيئة، بينما الشعب الكردي يجد نفسه في حلّ من هذه المغامرة الطائشة، ومن الطبيعي ألا يصبر على معاناة حصار خانق بدأت آثاره بالظهور ولا يعلم ماذا ستترتب عليه من معاناة كبيرة للمواطنين في الأيام القادمة.
ومع كل هذه الخطوات التراجعية للساسة الكرد، فمن غير المتوقع أن تقبل بغداد من البارزاني بأقل من إلغاء الاستفتاء ونتائجه وكل ما ترتب عليه من إجراءات.
الاستفتاء الكردي ورقة ضغط لصالح البارزاني أم ضده؟
ويريد البارزاني الآن استخدام الاستفتاء كورقة ضغط ضد الحكومة، لكن حكومة بغداد بدورها ستستخدم ذات الورقة ضد الساسة الكرد في مفاوضاتها المرتقبة معهم، وستجعل حادثة الاستفتاء من موقف الكرد ضعيفًا بالمفاوضات، فقد ضيَّع البارزاني فرصة ثمينة للتفاوض من موقع القوة مع بغداد، عندما طلب الجميع منه التفاوض مع بغداد حتى آخر يوم قبل انطلاق الاستفتاء، فكان من الممكن أن يكسب دعم المجتمع الدولي في مفاوضاته، وكانت الحكومة العراقية ستضطر للتعامل بمرونة مع مطالبه.
أما الآن فهو يريد التفاوض مع بغداد دون شروط مسبقة، فقط لكي ترفع العقوبات عنه، واضطر لتجميد نتائج الاستفتاء، ويصرح بأن الاستفتاء غير ملزم ويريد التفاوض مع بغداد بمعزل عن هذا الاستفتاء ونتائجه، فالسؤال هنا، لماذا إذًا كان ذلك الإصرار على الاستفتاء رغم علمه لكل تداعيات تلك الخطوة المتهورة؟
ستكون المفاوضات على المناطق المتنازع عليها عسيرة على الكرد، ولن يستطيعوا الحصول على ما يصبون له
وماذا سيكون تصرف ساسة بغداد الذين تغلي صدورهم من الغل على الكرد، فمن الطبيعي أنهم سيستغلون الفرصة لتجريد الكرد من كل الامتيازات التي كانت لديهم خشية منهم لتكرار المطالبة بالانفصال، وفرصة ثمينة لإرجاع الكرد لبيت الطاعة الإيراني، مثال ذلك أن تقوم الحكومة بفرض وجود القوات الفدرالية داخل الإقليم كونها المسؤولة عن حماية العراق بشكل عام واقتصار قوات البيشمركة والأسايش على حفظ أمن الإقليم الداخلي فحسب.
وسيطرة الحكومة على المعابر الحكومية والمطارات الدولية في كردستان، كما أن قرارات الحكومة بنقل شركات الاتصال والهواتف النقالة إلى خارج الإقليم (إلى بغداد) أصبح أمرًا مفروغًا منه بعد أن هدد وزير الاتصالات الكردي بقطع خدمة الإنترنت عن باقي مدن العراق، وإصرار الحكومة على ملاحقة موظفي الإقليم الذين نفذوا إجراءات الاستفتاء، وحتى الأنبوب النفطي المار بكردستان إلى تركيا سوف يفقد أهميته بعد أن باشرت الحكومة بتأهيل أنبوب نفطي قديم يمر بالموصل إلى تركيا دون سيطرة الكرد عليه، وهذا يعني إصابة إيرادات الإقليم بالعجز خلال فترة وجيزة لا تتجاوز أشهر.
ومن الممكن أن تقوم الحكومة بالسيطرة الكاملة على كركوك وطرد كل وجود كردي مسلح بالمدينة، بالإضافة إلى سيطرتها على سهل نينوى وطوزخورماتو، وستكون المفاوضات على المناطق المتنازع عليها عسيرة على الكرد، ولن يستطيعوا الحصول على ما يصبون له، في ذلك الشأن اعتبر النائب جاسم محمد جعفر أن إصرار أربيل في سيطرتها على كركوك يمثّل خطًا أحمر وخطيرًا بالنسبة لبغداد ويجعلنا أمام خيارات كثيرة سيكون الكشف عنها في وقتها، وهو تهديد واضح باستخدام القوة إذا لزم الأمر ضد الأكراد، وهذا ما جعل الأكراد يحذرون من أن الحكومة توشك على القيام بهجوم عسكري واسع النطاق للسيطرة على كركوك.
كل هذا سيجعل الأكراد غير قادرين على الاستفادة من ورقة الاستفتاء بالضغط على الحكومة، بل إن ما سيحدث هو العكس تمامًا لا سيما أن الإجراءات الحكومية تستند على دعم قوي من تركيا وإيران في إجراءاتها تلك، وسيشهد الإقليم تقليلًا من صلاحياته إلى حد كبير.