قسم سيغموند فرويد النفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام فيما عرف بالنظرية البنيوية: “الهو” و”الأنا” و”الأنا العليا”، فالأنا كما وصفها فرويد هي شخصية الإنسان في أكثر حالاته اعتدالاً بين الهو والأنا العليا، حيث تقبل بعض التصرفات لكنها في نفس الوقت تربطها بقيم المجتمع ومبادئه، والأنا العليا هي شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظًا وعقلانية حيث لا تتحكم في تصرفاته سوى القيم الأخلاقية والمبادئ والمثل المجتمعية بعيدًا عن جميع الأفعال الشهوانية والغرائزية، وهي مثالية غير واقعية، مثل الصوفيين والرهبان عندما يعتزلون العالم إلى الخلوات والأديرة، ويعاشرون الوحش في القفار، ويقنعون بقليل الزاد وخشن الملبس، والهو وهو الجانب الغرائزي والشهواني في الإنسان الذي لا يراعي المنطق ولا الأخلاق ولا الواقع، تملكي استحواذي بيولوجي، وهو الجزء الذي يمكننا من إدراج العصبيات القبلية والعرقية فيه دون تحفظ.
قد يتساءل المرء في هذا العالم المشبوب بالأعراق والأجناس التي ازدهرت على مدى المواسم التاريخية التي تقلب فيها تاريخ البشرية: كيف تكون الحياة وسط مجتمع قبلي حقيقي؟ بعد العراق وليبيا وسوريا، تبدو الصورة قاتمة، صورة لعقل جمعي بعيد عن النضج وتتحكم فيه الغرائز الأشد بدائية. كيف تصبح سحنة شخص ما أو سماع لكنته المختلفة أو معرفة بلدته القادم منها، دلالة كافية على أنه من أعدى أعدائك؟ كيف يعيش المرء بسلام لسنين طويلة مع أخوة له في الوطن، ثم يجد نفسه فجأة غارقًا إلى شحمة أذنيه في عملية قتل جماعي وتطهير عرقي لأناس يشبهونه في كل شيء، ويقاسمونه نفس الهموم، ويجالسونه على نفس المقهى، ويؤمنون بذات الإله الواحد الذي يُؤْمِن به، ولكن تلك التفاصيل الدقيقة جدًا في الثيولوجيا تقول إن عليه قتلهم قبل أن يقتلونه؟
لكن عالمنا العربي لا يختلف كثيرًا عن بقية العالم كما قد يظن البعض، في البلقان لم تغن تلك الحقبة الشيوعية الطويلة عن ارتكاب فظاعات عرقية وإثنية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بين الصرب والألبان في كوسوفو، بعد أن تخندق المواطنون في فريقين متعاديين تغذيهما العنصرية والإثنية، تكرر الأمر في ديمقراطيات ناجحة مثل أيرلندا الشمالية ودول واعدة في إفريقيا مثل كينيا في فجر استقلالها.
تعيش دول الاتحاد الأوروبي تحت وطأة كيانات عرقية تهدد سيادة بلدانها بل وتهدد حياة الاتحاد نفسه
العصبية للقبيلة حولت بيروت زهرة لبنان و”ستّ الدنيا”، إلى كومة من الآجر المحطم والجدران المثقوبة برصاص الكلاشينكوف في سبعينيات القرن الماضي، وتسببت مليشيات مينغيتسو بإثيوبيا في مذابح عرقية وصراعات قبلية بعد الإطاحة بالأمبراطور هايلي سيلاسي عام 1974 أدت إلى انفصال إريتريا عن إثيوبيا.
الولاء للقبيلة أحال رئيسة ميانمار أونغ سان سو كي الحائزة على جائزة نوبل للسلام، إلى وحش عنصري يواري خلف قناع الأنوثة الرقيق روحًا همجية تقود حملة للتطهير العرقي دون أن يرف لها جفن.
والقبلية كانت سببًا رئيسًا في احتلال الأوروبيين للبلدان الإفريقية عندما لجأ الأفارقة إلى الأوروبيين لحل خلافاتهم القبلية، فانتهت باحتلال الأمم المسيحية الأوروبية لبلدانهم مستغلة تلك الخلافات بين القبائل في القرن السابع عشر وهي الفترة التي عرفت بالتدافع المسعور نحو إفريقيا أفضت إلى احتلال 90% من أراضي القارة السمراء.
وهي نفس الاستراتيجية التي تنهجها روسيا اليوم لتفكيك دول الاتحاد الأوروبي إلى دويلات عرقية، فرغم ديمقراطياتها المتقدمة، تعاني أوروبا اليوم من انقسامات قبلية حادة بين شعوبها، فمن القومية الكاتالانية في إسبانيا إلى السكوتلاندية في المملكة المتحدة، إلى اللومبارديين في إيطاليا والفلامينكيين في بلجيكا، إلى دعوات الكرسيكيين بالانفصال عن فرنسا والبافاريين في ألمانيا، تعيش دول الاتحاد الأوروبي تحت وطأة كيانات عرقية تهدد سيادة بلدانها بل وتهدد حياة الاتحاد نفسه، فقد تصاغر ولاء كثير من الأوروبيين إلى الاتحاد ومبادئه الديموقراطية، وأخذ مكانه ولاء إلى القبيلة والعرق واللغة القومية.
في الولايات المتحدة يصبح الحزب الفائز ولو بفارق ضئيل هادمًا لسياسات الذي قبله، وفارضًا لأديولوجيته الأكثر تطرفًا وإقصاءً، وتشعر نصف الساكنة وكأنها تحت حصار شيخ القبيلة المنتصر
أما الولايات المتحدة فتمر بحقبة تشبه حقبة الحرب القبلية بين ولايات الشمال وولايات الجنوب في القرن الـ18، فبعد عقود من الخلافات المعقدة والمتنامية (أديولوجية وجغرافية وحزبية وعرقية)، واستقطاب سياسي حاد، أشرفت الولايات المتحدة اليوم على حافة الجرف بعد انتخاب دونالد ترامب، لتأخذ كل تلك العوامل شكلاً صداميًا بين الفرقاء تتصدر فيه المشهد قبيلتان: ديمقراطية متعددة الأعراق، وجمهورية بيضاوية العرق، تحملان الاختلاف في الرأي السياسي والأديولوجي بل وحتى الأفكار والمثل على محمل الكراهية الدامية، وتعتبران الرأي المخالف تهديدًا وجوديًا، إنهم لا يعتقدون أن المخالف لهم مخطئ فحسب، بل يكرهونه لأنه اختلف معهم، إن لم يتمنوا موته بالفعل.
فأمريكا لا تملك ثقافة حزبية تعددية على عكس كثير من الدول التي لا يتصور فيها حكم حزب واحد دون اضطراره إلى تشكيل تحالف يضم حتى أحزاب الأقليات الدينية والعرقية، مثل هولاندا التي يحكم فيها ممثلو الثقافة واللغة الفرنسية إلى جانب الفلاميين بثقافتهم ولغتهم، أو ألمانيا التي تضطر فيها ميركل إلى التحالف مع حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي، وفِي أيرلندا الشمالية بعد اتفاق الجمعة العظيم عام 1998 تم التوافق على أنه لا يحق لحكومة جهوية في الإقليم أن تحكم دون دعم من حزبين على الأقل أحدهما يمثل الأكثرية البروتوستانتية والآخر يمثل الأقلية الكاثوليكية. أما في الولايات المتحدة فالأمر مختلف، يصبح الحزب الفائز ولو بفارق ضئيل هادمًا لسياسات الذي قبله، وفارضًا لأديولوجيته الأكثر تطرفًا وإقصاءً، وتشعر نصف الساكنة كأنها تحت حصار شيخ القبيلة المنتصر.
وبين عشية وضحاها، تتغير القناعات الداخلية والسياسات الخارجية بشكل راديكالي، وتصبح الاستعراضات العنصرية المدانة سابقًا لأنصار الجناح اليميني العنصري من البانونيين bannonists بقيادة الشعبوي المتطرف ستيف بانون، ومنظري تفوق العرق الأبيض مقبولة ومسموحة، ويضحي المسيحيون البيض المتدينون – الذين كانوا يعادون رئيسًا أسود يعد من أحسن رؤساء البيت الأبيض خلقًا وتدينًا وإخلاصًا لزوجته ورعاية لأسرته ويشككون في ديانته – من أشد أنصار رئيس وثني أرعن سيئ الأخلاق، متهم بالخيانة الزوجية ولم يخف احتقاره للمرأة في حواره الشهير الذي أذيع على القنوات وهو يسامر صديقًا له معلقا على بعض الفتيات اللواتي شاركن في برنامج من برامجه التليفزيونية، بأنه يتخيل نفسه يمسكهن من “مناطق حساسة”، والتباهي أمام ملايين الأمريكيين بعضوه التناسلي في خطب تليفزيونية مشهورة، وقمع زوجته مرارًا على مرأى من العالم بإشارات محتقرة ومهينة، الأمر الذي دفع الممثلة الأمريكية بروك شيلد مؤخرًا إلى ارتداء قميص مكتوب عليه “حرروا ميلانيا”، ناهيك عن تغزله الفاضح والمقزز بجسد ابنته إيفانكا.
عرف العرب قديمًا ظاهرة الشعراء الصعاليك، وهم الذين خرجوا عن أعراف القبيلة وقوانينها، هؤلاء كانت تنفيهم القبيلة إلى الصحراء وترفع عنهم حمايتها ليصبحوا عرضة للقتل والتنكيل من القبائل الأخرى
في 2012 كان ميت رامني مرشح الجمهوريين يعتبر روسيا العدو الجيوسياسي الأول للولايات المتحدة، بين 2014 و2017 وفِي الفترة التي أرسل فيها بوتين قواته للاجتياح أوكرانيا واحتلال القرم، ارتفعت نسبة الجمهوريين المؤيدين لسياسة الكرملين من 10% إلى 32% .
في الدول الليبرالية السليمة تأخذ هذه المسائل سنوات طويلة لنقاشها وتقليب النظر فيها، في الدولة القبلية لا يتطلب الأمر أكثر من خطبة لشيخ القبيلة ليتبعه القطيع المنتمي دون اعتراض، الأعضاء جميعهم، من المناضل العادي في الحزب، إلى أساتذة الجامعات ومراكز البحوث وخلايا التفكير ووسائل إعلام القبيلة ورجالات الأعمال والفكر وحتى نجوم السينما.
كل ذلك يسهل قبوله عندما يصبح الولاء إلى القبيلة هو العامل الذي يحكم علاقات أفراد المجتمع بالدولة الوطنية، فالولاء للقبيلة يخلق اللامبلاة بالقيم والمبادئ التي يُؤْمِن بها الإنسان، وأبرز معالمه أنه يترك الإنسان عاجزًا عن التمييز ومناقشة الأفكار، مغلبًا العاطفة على المنطق، ويضع القبيلة فوق قيم الشر والخير معًا، لتكون الغاية التي يعمل لأجلها العضو، مصلحة الحزب والقبيلة وتقدمها على حساب تقدم الوطن ووحدة المجتمع. وتساعده شعبوية الزعيم وعاطفة الانتماء الجياشة على تخطي مرحلة تحليل الخطاب القبلي وعدم التفكير في عواقب الأعمال في خضم حَمِيّة أفراد القبيلة وعُرامهم، فكل ما على الحزبي والقبلي الاهتمام به في أي واقعة كانت، التموقع في الجانب الذي توجد فيه قبيلته، تذوب في انغلاقها شخصيته السمحة المنفتحة، وتنهزم مبادئه الديموقراطية إلى شعاراتها مهما كانت غوغائية وفاشية.
فِي مصر قامت ثورة 25 يناير بتوحيد القبائل المختلفة إسلامية وليبرالية ويسارية وأقباط، لكن سرعان ما عادت قبيلة العسكر لتفل من عضد تلك الوحدة التي دامت شهورًا معدودة بما صادفت في تلك القبائل وشيوخها من ضعف ومراهقة سياسية وتنافس على الزعامة
عرف العرب قديمًا ظاهرة الشعراء الصعاليك، وهم الذين خرجوا عن أعراف القبيلة وقوانينها، هؤلاء كانت تنفيهم القبيلة إلى الصحراء وترفع عنهم حمايتها ليصبحوا عرضة للقتل والتنكيل من القبائل الأخرى، مثلهم اليوم مثل كتاب القبيلة المنصفون الذين يوجهون نقدًا ذاتيًا وموضوعيًا لأحزابهم، يتم نبذهم وتشويه سمعتهم في إعلام القبيلة، ورميهم بالخيانة والعمالة للعدو، إنهم المرتدون عن مبادئ الجماعة وتوجهاتها.
لقد كان القبليون في الماضي يَعتبرون أنفسهم بشرًا كاملين، بينما يَرَوْن في الأغيار كائنات دونية وينعتونهم بآكلي لحوم البشر، لأن هذا الاعتقاد سوف يبرر لهم ما يقترفونه من أعمال نهب وإبادة في حق الذين لا ينتمون إلى القبيلة، تمامًا مثلما فعل هتلر عندما أقنع الألمان بأن اليهود والغجر والمعاقين والمعارضين الشيوعيين، كائنات دون الآدمية، ليوفر لهم المبررات النفسية لترحيلهم فيما بعد إلى معسكرات الإبادة النازية.
وفِي مصر قامت ثورة 25 يناير بتوحيد القبائل المختلفة إسلامية وليبرالية ويسارية وأقباط، لكن سرعان ما عادت قبيلة العسكر لتفل من عضد تلك الوحدة التي دامت شهورًا معدودة بما صادفت في تلك القبائل وشيوخها من ضعف ومراهقة سياسية وتنافس على الزعامة. وتمكنت بما تمتلكه من وسائل القوة المادية والإعلامية والأمنية، وتاريخ طويل في ممارسة الحكم والقدرة على إخافة الناس وقمعهم، من السيطرة على تلك القبائل واحتكار السلطة من جديد، وحاولت على امتداد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي تشويه كل تلك القوى بمختلف التهم كالإرهاب والإلحاد والعمالة للأجنبي عن طريق تلقي تمويلات خارجية، لتبرز قبيلة العسكر كالقبيلة الوطنية الوحيدة القادرة على تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء في البلد.
في الدول الديمقراطية الحديثة ومجتمعاتها تولد وتنمو وتموت باستمرار ألوان من القبليات الإيجابية أو على الأقل المسالمة، كقبيلة الهيب هوب والراب والتكنو في مواجهة قبائل موسيقى الجاز ومحبي الموسيقى الكلاسيكية والغناء الأوبرالي، قبائل الفيسبوك وقبائل تويتر، قبائل محبي ليدي غاغا ومحبي بيونسيه، قبليات فرق كرة القدم، قبائل الكتاب الإلكتروني مقابل قبائل الكتاب الورقي، قبيلة النباتيين وقبيلة آكلي اللحوم، فهذه قبليات ليس منها ضرر.
لكن الضرر يكمن في القبلية التي تهدد النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية، عندما تعظم الروابط العرقية والطائفية الصغرى وتطغى على الشعور الوطني العام، وتشهر العداء في وجه الشركاء في الوطن، عندها يسهل على دولة لها ميول توسعية مثل روسيا، أن تخترق أشد الكيانات حصانة وأكثرها وعيًا وحداثة مثل الاتحاد الأوروبي، وتستغل أقوى ما يتميز به من ميكانيزمات القوة وهي الديمقراطية، لتجعلها نقطة الضعف التي تنقض بها عرى الاتحاد .