ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الأشهر القليلة الماضية، تابع الناس في جميع أنحاء العالم عن كثب وحشية الحرب المستمرة في غزة. صور الفلسطينيين الذين يفرون جنوبًا ويبحثون عن أقاربهم تحت الأنقاض، ومقاطع فيديو لأطفال يبحثون عن الطعام والماء – هذه وغيرها يتم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي وشبكات الأخبار يوميًا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. لكن هذه الصور لا يمكن العثور عليها عمليا في وسائل الإعلام الإسرائيلية. ونادرًا ما تقوم معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية بتحديث عدد الضحايا الفلسطينيين – الذي تجاوز 30 ألفًا – ولا تبلّغ مشاهديها أن حوالي 70 بالمئة من ضحايا الهجوم الإسرائيلي هم من النساء والأطفال.
إن السرد الشامل الذي قدّمته وسائل الإعلام الإسرائيلية يُعرّف هجوم حماس على جنوب “إسرائيل” بأنه أصل الأزمة الجيوسياسية الحالية وجوهرها. وكل يوم هناك زاوية جديدة لأحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر: لقطات جديدة لغارات حماس على الكيبوتسات، شهادات جنود شاركوا في المعارك أو مقابلات مع الناجين. علاوة على ذلك، يقوم الصحفيون الإسرائيليون بتغطية الأحداث الجارية في غزة بشكل شبه كامل من خلال عدسة وحيدة لأحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وآثارها المتتابعة.
هذا قرار واعي من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية. وفي مقابلة مع مجلة “نيويوركر”، أوضحت إيلانا ديان، وهي واحدة من أكثر الصحفيين الإسرائيليين احترامًا، “إننا نجري مقابلات مع الناس حول السابع من تشرين الأول/ أكتوبر – ونحن عالقون في السابع من تشرين الأول /أكتوبر”. وقال أورين بيرسيكو، كاتب في مجلة ” ذا سيفنث آي” الاستقصائية المستقلة التي تركز على حرية التعبير في “إسرائيل”، لمجلة +972، إن “هناك دورة تمتنع فيها وسائل الإعلام عن مواجهة الجمهور بالحقيقة غير المريحة، ونتيجة لذلك، لا يطلب الجمهور ذلك”.
هذه الدورة مفهومة إلى حد ما. ربما كان هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أعظم كارثة في تاريخ “إسرائيل“. في اليوم الأكثر دمويّةً بالنسبة للشعب اليهودي منذ سنة 1945، قُتل أكثر من 1200 إسرائيلي، وأخِذ 243 كرهائن إلى غزة، معظمهم من المدنيين. ولأول مرة في تاريخ الدولة، احتل العدو مؤقتًا الأراضي التي تسيطر عليها |إسرائيل”. ويواصل اليهود الإسرائيليون معالجة هذه الصدمة الوطنية، ونتيجة لذلك لم يستعيدوا بعد شعورهم بالأمان. وبالتالي، فإن وسائل الإعلام لا تُغذّي الجمهور بسرد معين فحسب بل تعكس أيضًا المشاعر العامة بشكل موضوعي.
لكن في الأشهر الخمسة الماضية، فعلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أكثر بكثير من مجرد عكس صورة المجتمع الإسرائيلي. اتخذت وسائل الإعلام والأخبار التلفزيونية على وجه الخصوص خطوات نشطة لوضع نفسها على أنها تجسيد للوطنية الإسرائيلية من خلال تحديد ما هو في المصلحة العامة ورسم حدود الخطاب السياسي المشروع وتقديم حقيقة معيّنة فقط للمواطنين الإسرائيليين. ويخدم هذا الموقف مصالحهم التجارية الخاصة والمصالح الوطنية التي أعلنتها الحكومة والجيش. ومن خلال القيام بذلك، تسير نشرات الأخبار التلفزيونية باستمرار على خط رفيع بين الدعاية والصحافة.
لنفهم لماذا تغطي وسائل الإعلام الإسرائيلية حرب غزة بهذه الطريقة، من الأهمية بمكان أن نفهم الاتجاهات التاريخية في وسائل الإعلام ودورها في تحويل الرأي العام الإسرائيلي نحو اليمين. لقد أصبحت وسائل الإعلام جزءًا لا يُمحى من دورة أصبح فيها الإسرائيليون قوميين وعسكريين على نحو متزايد، الأمر الذي يجعلهم متعطشين للأخبار التي تحتفل بالحرب وتحجب أو حتى تغفل تغطية تكاليفها. ولا يتلقى الجمهور إلا هذه الرواية الاحتفالية وتستمر الدورة.
لتوضيح هذا الواقع، يركّز التحليل التالي في المقام الأول على الأخبار التلفزيونية – وهي الوسيلة السائدة التي يستهلك الإسرائيليون الأخبار من خلالها. لكن النمط نفسه يتجلى في جميع أشكال الوسائط الأخرى مما يجعل الدورة منتشرة.
تحويل المشهد الإعلامي
حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت الأخبار التلفزيونية السائدة تعتبر معقلًا للنخبة الصهيونية الليبرالية العلمانية. وقد سيطرت هذه النخبة على محطات البث العامة التي تمولها الحكومة، والتي كانت تحتكر البث حتى التسعينات، ثم أصبحت بعد ذلك مملوكة للقطاع الخاص على القناة 12 والقناة 13.
استهدفت جميع هذه القنوات بشكل عام الجمهور الوسطي السائد، وبشكل عام نادرًا ما تتحدى الاحتلال الإسرائيلي، أو حركة المستوطنين، أو أخطاء قوات الأمن. وكان لديهم عزيمة أقوى بكثير عند الإبلاغ عن القضايا الليبرالية الأخرى مثل الفساد الحكومي، والمساواة بين الجنسين، وحقوق المثليين في السنوات الأخيرة.
كانت هناك مواقف مماثلة في وسائل الإعلام المكتوبة مع استثناء ملحوظ لصحيفة “هاآرتس” اليسارية، التي تنشر صحافة أكثر صرامة حول القضايا الفلسطينية. لكن تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من السمعة الطيبة التي تتمتع بها صحيفة “هاآرتس” في الخارج، إلا أن جمهورها صغير نسبيًا في “إسرائيل” – حوالي خمسة بالمئة من قراء الصحف المحلية.
في العقدين الماضيين، شهِد المشهد الإخباري في “إسرائيل” تحولات جذرية. لقد تحول من مؤسسة وسطية إلى حد كبير إلى مجال مستقطب: أحد القطبين آلة يمينية بشكل علني، والآخر وسطي بشكل اعتذاري ويخشى أن يُنظر إليه على أنه يساري أكثر من اللازم.
منذ ولاية بنيامين نتنياهو الأولى كرئيس للوزراء في أواخر التسعينات، كان منتقدًا شرسًا لوسائل الإعلام الرئيسية، واصفًا إياها بأنها مصدر معلومات يساري متطرف وغير جدير بالثقة. (هذا الهوس بوسائل الإعلام هو السبب وراء اتهامات الفساد التي يواجهها، والتي تتعلق جميعها بمحاولاته التأثير على وسائل الإعلام الإسرائيلية للحصول على تغطية إعلامية جذّابة). وبعد الإطاحة به للمرة الأولى، في انتخابات سنة 1999، قرر نتنياهو أن إعادة تشكيل وسائل الإعلام الإسرائيلية أمر ضروري في البلاد من أجل عودته إلى السلطة.
لقد حقق هذا الهدف من خلال إنشاء منبر مستقل لنفسه ولآرائه التي تجاوزت وسائل الإعلام الرئيسية. وفي سنة 2007، زُعم أن نتنياهو أقنع شيلدون أديلسون بتأسيس صحيفة يومية مجانية “إسرائيل هايوم”، التي أصبحت تدريجيا الصحيفة الأكثر قراءة على نطاق واسع في “إسرائيل”. وحتى وفاة أديلسون قبل بضع سنوات والتغييرات اللاحقة في طاقم التحرير، كانت الصحيفة متعاطفة بلا كلل مع نتنياهو.
حرص رئيس الوزراء كذلك على إعادة تشكيل النظام البيئي الإخباري التلفزيوني بسبب دوره المهم في التأثير على المشاعر العامة. وتحت سيطرة حزب “الليكود” روّجت وزارة الاتصالات لإجراء تغييرات تنظيمية سمحت للقناة 14 بتحويل نفسها من “قناة تراثية” (مرخصة لبث برامج عن اليهودية) إلى قناة إخبارية كاملة توفر ساعات من التغطية يوميًا، مما يجعلها نسخة إسرائيلية من قناة “فوكس نيوز”. وفي خضم الاستقطاب السياسي حول نتنياهو والإصلاح القضائي نمت شعبية القناة 14، خاصة بين أنصار نتنياهو، مما جعلها في المرتبة الثانية بعد القناة 12 من حيث نسبة المشاهدة.
تزامنت هذه التغييرات الهيكلية مع تغير في تركيبة الصحفيين في إسرائيل. بينما أصبح المجتمع الإسرائيلي أكثر يمينية على امتداد السنوات العشرين الماضية، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ظهر عدد متزايد من الصحفيين الصهاينة المتدينين اليمينيين، والعديد منهم من المستوطنين.
من جانبه، قال بيرسيكو، من مجلة “ذا سيفنث آي”، إن هذه التغييرات “تخلق عالمين متوازيين لهما افتراضات أساسية متوازية، منقسمين بين أنصار نتنياهو ومعارضيه. ولكن حتى على القنوات الرئيسية، يمكن سماع التصريحات التحريضية التي كانت تُسمع في السابق فقط في المنشورات الأسبوعية للمعابد اليهودية الدينية، الآن من قبل المحررين والصحفيين البارزين”. فعلى سبيل المثال، في القناة 12، فقط بعض المراسلين والضيوف يدعون إلى إعادة بناء المستوطنات في غزة، بينما في القناة 14، يفعلون ذلك بشكل أكثر وضوحًا وعلى نطاق أوسع.
احتضان الدعاية
بعد حرب غزة سنة 2014 – التي قُتل فيها 68 إسرائيليًا وأكثر من 2200 فلسطيني – أعربت دانا فايس، وهي مراسلة بارزة للقناة 12، عن أسفها لأن أحد الدروس المستفادة من تغطية الحرب هو أن وسائل الإعلام الإسرائيلية يجب أن تفعل المزيد لتسليط الضوء على أصوات الفلسطينيين في القطاع. وحذّرت من أن “ميل الإسرائيليين للاستماع إلى الأسئلة الصعبة يتلاشى”.
ولكن في ظل المناخ القومي الذي نشأ في أعقاب أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لا يمكن العثور على أي تغطية للدمار الذي تطلقه “إسرائيل” في غزة. حتى أن بعض الصحفيين شككوا في ما إذا كان ينبغي لوسائل الإعلام أن تنشر قصصًا قد تضر بالروح المعنوية الوطنية.
منذ بداية الحرب، قادت القنوات الإخبارية التلفزيونية جهود الهاسبارا في “إسرائيل”. وتستخدم كلمة “هاسبارا” – والتي تعني “الشرح” باللغة العبرية – لوصف الدعوة المؤيدة لـ “إسرائيل” لكنّها في الأساس لغة مزدوجة للدعاية. وتظهر عناصر الهاسبارا في كل قناة إخبارية تلفزيونية. على سبيل المثال، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، تم تعديل شعار كل قناة ليشمل الآن العلم الإسرائيلي وشعار الحكومة “ياحاد نيناتزيتش” (“معا سننتصر”). وكجزء من هذه الضجة، تصور كل شبكات الأخبار الرئيسية “إسرائيل” باعتبارها الضحية النهائية، وتصور هجمات حماس على أنها أظهرت وحشية لا مثيل لها.
إن حالة الضحية هذه هي وضع حصري. فهي لا تترك مجالًا يذكر لمعاناة الفلسطينيين في غزة، ولا لمستوى الأزمة الإنسانية التي يعيشونها، ونادرًا ما تعرض الأخبار التلفزيونية الإسرائيلية الرئيسية أي توثيق للأنقاض في غزة أو حجم التهجير والدمار هناك، وعندما يحدث ذلك فإن مسؤولية هذه الخسائر تقع على عاتق حماس.
يتم استهداف أي شخص يتحدى هذه الرواية. فعلى سبيل المثال، عندما أدان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش صراحة هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بقول إنه “لم يحدث من فراغ” ــ في إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي دام 56 عاما باعتباره سياقا بالغ الأهمية ــ انقضت عليه وسائل الإعلام الإسرائيلية.
بدلاً من تقديم تفسير صادق لموقفه السائد على المستوى الدولي، تنافس الصحفيون الإسرائيليون مع بعضهم البعض لانتقاد غوتيريش بشدة. ادعى ألموج بوكر، أحد أكثر المراسلين شعبية في القناة 13، أن الأمين العام للأمم المتحدة “يبرر فظائع حماس”، وجاء في عنوان رئيسي في موقع واي نت: “لماذا يكره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إسرائيل إلى هذا الحد؟”، وحتى القناة 12 وصفت تصريحاته بأنها “مشينة“.
الجيش هو المصدر
من غير المستغرب أن يؤدي التفاعل الوثيق بين وسائل الإعلام الإسرائيلية والجيش إلى خلق العديد من النقاط العمياء الحاسمة في تغطية الواقع في غزة. وقد كان تواجد وسائل الإعلام الدولية شبه معدوم خلال الأسابيع الأولى من الحرب، وغادر معظم الصحفيين الدوليين غزة حفاظاً على سلامتهم، وأدى القصف الإسرائيلي، والانقطاع المتكرر للكهرباء والاتصالات، إلى إعاقة قدرة الصحفيين الفلسطينيين المحليين على تقديم التقارير.
مع تقدم الغزو البري، سمح الجيش الإسرائيلي لبعض الصحفيين – الإسرائيليين والدوليين على حد سواء – بدخول غزة، ولكن فقط بشرط أن يكونوا برفقة الجيش. وعادة ما يتم توجيه مثل هذه الجولات من قبل وحدة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، مما يعني أن الصحفيين غير قادرين على إجراء مقابلات مباشرة مع الفلسطينيين أو الوصول بشكل مستقل إلى المواقع المدمرة، بل يمكنهم فقط رؤية ما يتم تقديمه لهم.
إن تأثير الجيش يتجاوز بكثير السيطرة على الوصول إلى المعلومات، فخلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، أجرى رئيس وحدة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانييل هاغاري، مؤتمرات صحفية يومية تم بثها على الهواء مباشرة على كل قناة خلال أوقات الذروة. وتضمنت هذه المؤتمرات الصحفية تحديثات عن حالة الحرب، ولكنها احتوت فقط بشكل متقطع على تعليمات للجمهور أو معلومات تستحق النشر حقًا. وعلى الرغم من أن الجمهور الإسرائيلي كان ينظر إلى هاغاري على نطاق واسع باعتباره مصدرًا موثوقًا للمعلومات، خاصة فيما يتعلق بانعدام ثقة الجمهور في الحكومة، إلا أن وجوده غير الضروري ولكن المستمر أعطى الجيش السيطرة على السرد في الأخبار.
إن المراسلين العسكريين، الذين يعتمدون إلى حد كبير على الجيش الإسرائيلي كمصدر رئيسي لهم، يشيدون باستمرار بالجيش، وهذا ليس اتجاها جديدا، فحتى قبل الحرب، كان المراسلون العسكريون ينشرون في كثير من الأحيان تصريحات جيش الدفاع الإسرائيلي حرفيًا، دون الإشارة إلى أن الجيش هو المصدر الوحيد للمعلومات. كما أنها تُضخم بشدة النجاحات المفترضة التي حققتها القوات الإسرائيلية في غزة وتحرض على مواصلة العملية.
ينطبق الشيء نفسه على العديد من الصحفيين الآخرين والمؤسسة الإعلامية ككل، وهذه تعد جزئيًا نتيجة ثانوية لتلقي تعليمهم الصحفي من خلال الجيش الإسرائيلي نفسه. فالتدريب المعياري للعديد من الصحفيين في إسرائيل يتم في إذاعة الجيش الإسرائيلي، وليس في الجامعات أو الصحف المحلية. وبالفعل، تختار إذاعة الجيش الإسرائيلي العشرات من الجنود الإسرائيليين المجندين حديثًا للعمل في المحطة كجزء من خدمتهم الإلزامية، ويتلقى هؤلاء الجنود تدريبًا وخبرة لا مثيل لها وذات قيمة عالية، مما يجعلهم جذابين بشكل خاص للتجنيد المهني لاحقًا عندما ينهون خدمتهم.
وأكد بيرسيكو على أهمية هذه الخلفية، معتبراً أن “أجيالاً من الصحفيين الإسرائيليين نشأوا [احترافياً] تحت هذا الإشراف العسكري، مما درّبهم على الاعتقاد بأن هناك أشياء لا يمكنهم نشرها”. ونتيجة لذلك، أدى هذا التعليم مع مرور الوقت إلى تحطيم المفهوم الأساسي لاستقلالية الصحافة في إسرائيل.
نشر روايات كاذبة وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم
بالإضافة إلى إغفال التغطية الحاسمة لحياة الفلسطينيين، تلعب وسائل الإعلام الإسرائيلية أيضًا دورًا نشطًا في خلق تصورات خاطئة تمامًا عن الحرب والرأي العام الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، يتمثل الفارق الرئيسي بين التغطية الدولية والإسرائيلية للحرب في مسألة شرعية حماس بين الفلسطينيين، التي أصبحت بمثابة هاجس متكرر في وسائل الإعلام الرئيسية في “إسرائيل”. ومن المؤكد أن هناك انتقادات لحماس بين سكان غزة لفشلها في ضمان الأمن أو تقديم المساعدات الإنسانية خلال الحرب، لكن وسائل الإعلام الإسرائيلية تصور حماس وكأنها على وشك فقدان كل مكانتها بين الفلسطينيين.
وفي القناة 12، أفاد أوهاد هيمو وإيهود ياري، مراسلا الشؤون العربية والفلسطينية البارزين في “إسرائيل”، بأن التوترات تتصاعد بين المدنيين في غزة وحماس. ووفقا لهم، بدلًا من أن يقول سكان غزة “مرحبا” لبعضهم البعض، فإن العبارة الأكثر شيوعا في الشارع بين الناس هي “الله ينتقم من حماس”.
قبل أسابيع قليلة، تداولت قنوات تلفزيونية إسرائيلية مقطع فيديو لآلاف الفلسطينيين الفارين من خان يونس عبر ممر إنساني وهم يهتفون: “الشعب يريد إسقاط حماس”، ولم يذكر أي منهم. كما كشف موقع +972، أنهم أجبروا على ذلك من قبل جنود إسرائيليين من أجل السماح لهم بالعبور. وحتى لو لم تكن وسائل الإعلام على علم بذلك، كان ينبغي لأي صحفي محترم أن يشكك في أهمية الهتافات كمؤشر على شرعية حماس، خاصة أن مقاطع الفيديو التقطها جنود وأن الفلسطينيين كانوا تحت رحمة الجيش الإسرائيلي.
تعززت رواية الانهيار الوشيك المفترض لحماس من خلال لقطات أخرى، مثل مقاطع الفيديو التي تظهر الفلسطينيين في شمال غزة وهم يسلّمون أسلحتهم إلى “إسرائيل”. في البداية، سارعت القنوات الإخبارية إلى تضخيم حقيقة أن “المئات من مقاتلي حماس يستسلمون في شمال غزة”، ولكن بعد بضعة أيام قدر مسؤولو الأمن القومي أنه من بين هؤلاء المئات، كان 10 إلى 15 بالمائة فقط من مقاتلي حماس، أما الباقون فكانوا من المدنيين العاديين الذين لم يهربوا إلى الجنوب كما أمرهم الجيش بذلك.
مثال آخر هو فكرة أن الجيش الإسرائيلي يضيق الخناق على يحيى السنوار، رئيس حماس في غزة وأحد العقول المدبرة لهجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. نُشر هذا النوع من المقاطع منذ أشهر. ففي كانون الأول/ديسمبر، في مقطع فيديو أثار الكثير من السخرية، بثت الصحفية في القناة 12 أدفا دادون قصة بعنوان “في منزل السنوار” توثق غارة إسرائيلية على ما قيل إنه أحد منازله، حتى أنها رفعت زوجًا من الأحذية من تحت الأنقاض وادعت أنه يخص السنوار – وهو تصريح تم فضحه بسرعة.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الأخبار التلفزيونية الإسرائيلية تلعب دورًا نشطًا في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم. وقد روجت القناة 14 باستمرار لوجهات نظر بغيضة – مثل الدعوة إلى إبادة غزة ووصف جميع سكان غزة بالإرهابيين والأهداف المشروعة – التي يرددها كبار المذيعين والمراسلين. وبسبب هذه التصريحات المتكررة، تم الاستشهاد بالقناة 14 عدة مرات في شكوى جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية التي تتهم “إسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة. وهذا النوع من التصريحات ليس استثناءً بل ظهر في الواقع في نشرات الأخبار التلفزيونية الرئيسية أيضًا.
ترفض وسائل الإعلام الرئيسية الإبلاغ عن عدد الضحايا الفلسطينيين زاعمة أن أرقام وزارة الصحة “التي تديرها حماس” لا يمكن الوثوق بها على الرغم من أنها كانت دقيقة تاريخيا والجيش الإسرائيلي نفسه يعتمد عليها. واستخدمت القناة 14 الأرقام التي نشرتها وزارة الصحة، لكنها وصفت جميع آلاف الفلسطينيين الذين قتلوا بأنهم “إرهابيون”.
نقاط الحوار الحكومية
تظهر التيارات التي نراها في التغطية الإعلامية الإسرائيلية للحرب إلى حد ما على وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا، وهي طريقة مركزية لاستهلاك الأخبار، خاصة بين الشباب، وقد صُممت الخوارزميات على وسائل التواصل الاجتماعي لإنشاء غرفة صدى في عالم موازٍ، وتؤدي طبيعتها الشخصية إلى تفاقم عزلة الإسرائيليين عن بعضهم البعض وعن بقية العالم. فعلى سبيل المثال، حتى عندما يتعرض الإسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي لتغطية غير إسرائيلية للحرب، فمن المرجح أن يكون ذلك من خلال وكلاء وساطة مؤيدين لـ”إسرائيل” يشرحون أن هذه مجرد دعاية للعدو.
تعمل وسائل الإعلام الإسرائيلية الرئيسية على إنشاء غرفة صدى أخرى للإسرائيليين تعمل على تضخيم نقاط الحوار الحكومية وتختلف إلى حد كبير عن المشهد المعلوماتي في بقية العالم. وعلى عكس الأخبار الإسرائيلية، تركز وسائل الإعلام الدولية حاليًا بشكل أكبر على حجم الدمار في غزة وارتباطه بالقمع طويل الأمد للفلسطينيين، وفي الوقت نفسه هناك الكثير من الشكوك على مستوى العالم فيما إذا كانت أهداف الحرب الإسرائيلية قابلة للتحقيق، لكن هذا الشك نادراً ما يتم بثه في “إسرائيل”.
وفي حين أن القنوات التلفزيونية الإسرائيلية لم تضطر إلى تعزيز الخط الفكري للحكومة، فإن القيام بذلك خدم بالتأكيد مصالحها الخاصة في الحفاظ على معدلات مشاهدة عالية. وقد نجحت هذه الاستراتيجية: وجد استطلاع للرأي أجرته الجامعة العبرية أنه منذ بداية الحرب تضاعف استهلاك الأخبار في وسائل الإعلام الرئيسية. كما زاد التعرض لجميع شبكات الأخبار الرئيسية، وارتفعت شعبية القناة 12 بين السكان اليهود بشكل كبير، خاصة بين المشاهدين المنتمين إلى الكتلة المناهضة لنتنياهو.
ليست هذه التحولات انحرافًا عن القاعدة بل تمثل ذروة التحولات التاريخية التي غيرت بشكل جذري وسائل الإعلام الإسرائيلية وأخبار التلفزيون، إلى جانب القرار المرتجل الذي اتخذته وسائل الإعلام بإظهار وإثبات وطنيتها. من المؤسف أنه إذا كانت تغطية حرب غزة تشكل أي مؤشر فمن المرجح أن تستمر هذه الاتجاهات، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الدورة المستمرة التي تدفع وسائل الإعلام الإسرائيلية والجمهور الإسرائيلي إلى أن يصبحوا أكثر يمينية وامتثالاً وعسكرية وقومية.
المصدر: +972