ما كان لهم أن يطرقوا جدران الخزان فلم يكن خزانًا معدنيًا، بل كانوا على ذات ألواح ودسر، ركبوا البحر خوفًا وطمعًا، فإذا الموت رفيق لم يدفع كلفة السفر، لن يحظوا بغسان كنفاني آخر يكتب روايته عن رجال في الشمس، لقد كانوا رجالاً في اليم وماتوا غرقى، واختصم الناس فيهم بين متعاطف راث وشامت يقول ما ضرهم لو بقوا بين أهاليهم المفجوعين الملتاعين؟ وقال آخرون لو بقوا يسندون جدران البيوت أن تقع ولكن البيوت وقعت، منذ صارت كل الأسرة تفكر في خلاصها في مغامرة لعل الابن الضال أن يعود برزق يكفي لسعر الخضر.
الهجرة السرية علامة أزمة اقتصادية خانقة
الهجرة من الضفة الشرقية منذ بدأت في الخمسينيات بشكل قانوني كشف تفاوتًا اقتصاديًا رهيبًا بين ضفتي المتوسط، وكانت أسبابه واضحة للعيان، الفائض الاستعماري المنهوب من المستعمرات المفقرة جعل شعوب إفريقيا السوداء والرمادية تهاجر طلبًا لرزق في أوروبا. أثمر ذلك تحسنًا في ظروف عيش المهاجرين مؤقتًا، ثم أغلقت أوروبا أبوابها وصارت تفرز الكفاءات على هواها، والبلدان الفقيرة تصدر خيرة نخبتها إليها فتزيدها قوة وتزداد هي فقرًا وبؤسًا حتى وصلنا منذ نهاية الثمانينيات إلى أشكال من الهجرة السرية خارج القانون وخارج الوسائل المتعارف عليها للتنقل بين الضفتين، وتفاقم الأمر في السنوات العشرة الأخيرة فحولت بلدان أوروبا بلدان الضفة الشرقية إلى حراس حدود يمنعون عنها الهجرة بمقابل، وقد تمعش نظام بن علي ونظام القذافي ونظام مبارك من ذلك رشى سياسية وأموالاً تحت الطاولة.
التفاوت بل الفجوة الاقتصادية بين الضفتين لا تزال تتسع رغم ما يقال عن أزمة البلدان الغربية الاقتصادية، ولكن لو لم يكن هناك فائض عمل ممكن لما سكتت هذه البلدان عن أفواج كثيرة وصلت واستقرت في الظلام تقبض أرباع أجور وفي ظروف عمل مهينة للكرامة الإنسانية.
جيل الشباب المهاجر سريًا ليس مسؤولاً عن هذه الفجوة بل ورثها ويعاني نتائجها، لقد ولد في الأزمة أزمة الدويلات التابعة العاجزة سياسيًا عن التحكم في ثرواتها بفعل الفساد السياسي الداخلي لأنظمتها والمحفز أوروبيًا. ولا نرى في هذا الخطاب تنصلاً من مسؤوليات، بل إن الأنظمة الفاشلة كانت تحظى بالدعم السياسي الغربي لتظل في وضع الفشل وتصدر العمالة الرخيصة وتستهلك المنتجات الغربية من الإبرة إلى الطائرة ولا تقوم بشعوبها رغم الثروات الطائلة التي ترقد فوقها هذه الشعوب، وعندما يدرك الشاب هذه المفارقة ويراها في قوتها يشعر بعجزه أمامها فلا يبقى أمامه إلا أن يهاجر بالطرق التي يبتكرها كحلول فردية ليجد ضمن التفاوت الصارخ مصدرًا للرزق.
يبلغ أجر عامل البناء 12 دولارًا في أفضل الحالات بينما ينزل الأجر الفلاحي تحت ذلك بكثير
لماذا لا يكافح الشباب في بلدانه؟
لقد فعل وتحمل مسؤوليات جسام، فقد أسقط رؤوس الأنظمة الفاسدة، ألا يكفيه ذلك كعلامة نضج ومسؤولية؟ لكن الأنظمة الفاسدة عادت إليه من النوافذ بعد أن طردها من الأبواب.
حادثة غرق التونسيين بالبحر في الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر أطلق ألسنة إعلاميي الأنظمة ليلوموا الشباب على أنه مستسلم للربح السريع والغنيمة الباردة كأنه ذاهب ليجد الجنة على الضفة الأخرى، وهذا كلام فاسد يصدر عن فاسدين يدافعون عن فسدة.
يشتكي البعض من أصحاب الأعمال في تونس بأنهم لا يجدون عمالاً في سوق الشغل ويلهثون وراء العامل فلا يظفرون به، وهذا ليس سليمًا كليًا، فالأعمال الصغيرة والمتقطعة في حضائر البناء ورعي المواشي والعمل الزراعي عامة تدنت أجورها مقارنة بأسعار المواد المعيشية، فلم تعد الأجور (رغم زيادات حصلت) تكفي حاجيات شاب في مقتبل العمر يسعى للاستقلال بمصدر رزقه وبناء بيت مستقر.
يبلغ أجر عامل البناء 12 دولارًا في أفضل الحالات بينما ينزل الأجر الفلاحي تحت ذلك بكثير، وبشكل متقطع وموسمي مثله مثل العمل في الخدمات السياحية الموسمية، ويميل الفلاحون لاستخدام النساء في الزراعة لأنهن يقبلن بأجور أدنى ولا يحتججن على سوء الاستخدام.
إن نسق ارتفاع المواد المعيشية يجعل هذه الأجور غير كافية (للتبغ والقهوة كما يقال)، لذلك تصبح الهجرة حلاً يحتوي على كثير من الوهم ولكنه وهم مغر مقارنة بحقيقة معيشة أشد مرارة.
لقد تدبر آخرون حلولاً بالتهريب والعيش على هامش الدورة الاقتصادية ولكن التهريب مغامرة أشدّ خطرًا وأقل مردودية، فما يدفع رشى لتأمين الطريق يأتي على أغلب أرباح التهريب، خاصة فئة التهريب الصغير (وقود سيارات من ليبيا أو الجزائر أو بعض السلع الاستهلاكية الأخرى ذات القيمة المنخفضة)، تنغلق أبواب الاقتصاد الموازي (التهريب) وتقل الأجور في العمل اليومي، فلا يبقى للشاب إلا أن يجرب الحرقة (وكم هي تسمية دالة).
يزداد الأمر سوءًا بالإجراءات التقشفية المملاة على الحكومة من بنوك الإقراض الدولية التي تحدد لها الانتداب في الوظيفة العمومية، بل تأمرها أمرًا بالتسريح الاقتصادي لتخفيف أعباء الميزانية العامة
أنظمة فاشلة ترمي بالشباب في عمق البحر
إذًا كان لا بد من تحميل مسؤولية ما يحدث للشباب، فيجب أن نسأل الأنظمة الحاكمة، لقد قامت ثورة في البلد وأمل الشباب منها خيرًا ولكن سرعان ما تم الالتفاف عليها، وعاد النظام الفاسد بكل أدواته وعطل مسار التغيير الحقيقي المنتظر.
لقد كان المأمول أن يشرع النظام في فك ارتباطه بالاقتصاد الغربي وأن يعوّل على مصادره الذاتية تدريجيًا للوصول إلى حالة استقلال كاملة ولو بعد سنوات من العمل المثابر، لكن طبقة المال التي تتحكم في رجال السياسة من وراء ستار فرضت شروطها القديمة، فلم تتخلخل أسس النظام بل عاد للعمل طبقًا لهواه، وهو ليس هوى استقلاليًا بالمرة.
في الوقت الذي أكتب فيه هذه الورقة تقوم اعتصامات في منطقة جندوبة (شمال غرب)تطالب برفع منسوب مياه الري بعد تقسيطها نتيجة سنوات جفاف متتالية، فالمناطق الزراعية الداخلية تُفقّر بنسق سريع وتنتج أكبر عدد من المهاجرين إلى مدن الساحل والخارج (عبر الحرقة)، وأحد الأسباب هي سوء التوزيع في الثروة المائية، إذ تضمن الدولة ما يكفي القطاع السياحي (الخدماتي) أولاً ثم تتعطف على المزارعين بتقسيط الماء والنتيجة أولاً عطالة كبيرة في شباب المنطقة ثم شح في الإنتاج يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار لا تشعر به الفئات الغنية، لكنه ينعكس مباشرة على ذوي الدخل المحدود، أما العاطلون عن العمل وهم كثر فإن الأزمة تتحول إلى رحى مدمرة ولا يبقى أمامها إلا الهجرة
ويزداد الأمر سوءًا بالإجراءات التقشفية المملاة على الحكومة من بنوك الإقراض الدولية التي تحدد لها الانتداب في الوظيفة العمومية، بل تأمرها أمرًا بالتسريح الاقتصادي لتخفيف أعباء الميزانية العامة، بما يزيد في يأس الآملين خيرًا من التوظيف ويحيل العاطلين إلى اليأس المطلق ثم الهجرة.
التونسي الجيد هو التونسي الميت
المسؤولية إذًا على عاتق الحكومات التي رفضت التغيير وأعادت إنتاج الفشل الذي أسقط رؤوس النظام، لكن لا يبدو أن الأنظمة (الحكومات) مشغولة باحتمال إسقاطها بالشارع لذلك تتظاهر بالبكاء على المهاجرين السريين الغرقى بينما تفتح لهم حدود البحر للتخلص منهم ولعلها تقول في قرارة نفسها التونسي الجيد هو التونسي الميت. فالميت صوت لهذه الحكومة ولرئيسها ذات يوم، إذًا أيهما أفضل طالب شغل يعتصم بالشارع أم جثة في البحر تبكي أمها أسبوعًا وتنسى، ثم ينادي ابنها الميت فيصوت يوم الاقتراع من قبره، اقتلوهم يخلو لكم وجه البلد وتكونوا من بعدهم حكامًا صالحين.
والآن وقد غرقوا وسيغرق آخرون في بحور الشتاء الباردة، يمكننا كتابة المراثي الطويلة، فنحن جزء من نخبة مشغولة جدًا بتحرير التقبيل في الشارع نكاية في الإرهاب، وما دمنا نتجادل في حرية التقبيل في الشارع على الشباب العاطل عن العمل ألا يشوش علينا، فنسيئ الظن بالحكومات الطيبة، وقد ابتسمت الحكومة في وجوهنا وقدمت لنا نصائح عن التقشف في الاستهلاك.
سنتدبر غسان كنفاني يكتب عن رجال في اليَمِّ ونسأل معه لماذا لم يطرقوا جدران الخزان، لم يكن هناك جدران تطرق، كان هناك موجًا يغرق وقد غرقوا وأكل الحوت من أكبادهم وهذا خبر يسعد الحكومة.