تتبعنا بحماسة انتخابات تتويج مدير عام جديد لإحدى أهم المنظمات الأممية بل أهمها في مجال الثقافة والتربية والتراث “اليونسكو”، لم يكن مصدر الحماسة في تتبع تلك الانتخابات وجود مرشحين عرب فحسب، وإنما استغلال فترة ذهبية أظهرت تيار قوة داخل اليونسكو ساهم في استصدار قرارات نزيهة وشجاعة عن المجلس التنفيذي الذي تقوده 58 دولة عن قضية المسلمين والعرب المركزية (فلسطين) لكتابة التاريخ باعتلاء شخصية عربية إسلامية كرسي سيادة المنظمة.
لقد بدأت الكرونولوجية بظهور قوة حق ضمن المجلس التنفيذي عملت على الاعتراف بالأحقية الشرعية لقضية فلسطين على المستوى الدولي من الناحية الثقافية، فكان اعتراف المجلس التنفيذي بعضوية فلسطين سنة 2011 بداية لهذه القرارات التي أنصفت قضية القرن.
لليونسكو رمزية تغري بالنزاع حولها وآلية توظيفها في معارك أكبر حتى من اليونسكو نفسها، للاستفراد بمغانم سياسية أو اقتصادية، خاصة إن تعلق الأمر بقائمة التراث العالمي
لكن رغم ثقل القرار السياسي والدبلوماسي، فإن ذاك القرار لم يكن الأهم، بل مقدرة هذا التيار الضام جملة من الدول الإسلامية بدعم من الدول الصديقة أهمها الإفريقية المعروفة بدعم الحق ومجابهة الظلم في إصدار قرار الأحقية الشرعية الحضارية للمسلمين على القدس كتراث إسلامي خالص، منهيًا صراع الشرعية الثقافية الذي يعتبر عمود المعركة الحالية بين المسلمين والكيان الصهيوني، على حسب قول نتنياهو في كتابه “مكان بين الأمم” الذي يحدد فيه طبيعة الصراع.
لقد استمر الكابوس المزعج للكيان الصهيوني بإقرار قرار آخر يلغي السلطة السياسية والعسكرية للكيان الصهيوني على القدس باعتبار وجوده احتلال، فكانت ضربة قاضية لو عرفنا استثمار نقطة بداية نهاية هذا الاحتلال.
اليونسكو نقطة إساءة في وجه الكيان الصهيوني على المستوى الأخلاقي وسقطة حرة على مستوى المعركة الثقافية لو أحسننا حقيقة التسويق للإنجاز الدبلوماسي في الأوساط الثقافية الدولية وحتى دولنا الميتة ثقافيًا.
كلنا بقي ينتظر أن تستغل الفرصة للإبقاء على هذا الرصيد في كفة الحق برؤيته ثورة قرارات جعلت “إسرائيل” تخرج عن الرزانة الدبلوماسية وتجمد عضويتها في منظمة فكت مضاجعها.
ترشيح الكواري أثار غضب مركز سيمون فينزنتال، الذي اشتكى قبل نحو عامين من مواد معادية للسامية ظهرت بشكل بارز في معرض كتاب نُظم تحت رعاية وزارة التعليم القطرية
ظلت الفرصة متاحة لاستثمار الأصدقاء في المجلس التنفيذي الحالي ليكون المدير العام المنتخب عربيًا أو مسلمًا أو على الأقل صديقًا للحق ظهيرًا له لمنع ثورة مضادة تعطل تلك القرارات أو تجهض تفعيلها أو استثمارها مستقبلاً، وكلنا تتبع مستويات تحقق الرؤية عبر المراحل الأربعة لتصدر مرشح قطر حمد الكواري سباق التصويت.
ليكون مرشح قطر المعروفة بدعمها لقضية فلسطين استمرارًا لإساءة وجه العدو الصهيوني وكشف عن وجهه القبيح وأيضًا قطعًا لطريق الكيان الصهيوني الذي لم يكن ليجمد عضويته وبعدها تخرج حليفته الأولى أمريكا في أثناء الانتخابات، بل ظل يخطط لقطع الطريق على العرب من خلال ترشيح يهودية بجنسية مستضيفة المقر الدائم للمنظمة فرنسا كما أكدته صحيفة “the times of isreal” التي جعلت من المرشحة أودريه أزولاي الماشياح المخلص من كابوس العرب، لم ينم الكيان الصهيوني طوال الفترة التي أردفت القرارين، بل عملت على دراسة المنظمة دراسة وثيقة وسبل الخروج من المأزق.
نظرة “إسرائيل” لليونسكو
يجب أن نعرف أن لليونسكو رمزية تغري بالنزاع حولها وآلية توظيفها في معارك أكبر حتى من اليونسكو نفسها، للاستفراد بمغانم سياسية أو اقتصادية، خاصة إن تعلق الأمر بقائمة التراث العالمي، فذلك يفتح مغانم سياحية وصناعية مهمة ولكن هنا النزاع ليس من ذلك القبيل بل نزاع حضاري عن شرعية وجود تسعى “إسرائيل” لاستثماره سياسيًا وحضاريًا لبقاء وجودها.
إن نظرة “إسرائيل” للمنظمة بعد قرار لجنة التراث العالمي في اليونسكو وقرار مجلسها التنفيذي في دورته العادية في 18 من أكتوبر 2016 بما يسمى قرار “فلسطين المحتلة” عن عدم أحقية الكيان الصهيوني بتغيير معالم المسجد الأقصى لكونه تراثًا إسلاميًا خالصًا. لقد كانت تلك نقطة التحول التي جعلت الكيان يرى اليونسكو منظمة تصدر قرارات معادية لـ”إسرائيل”، بل جعل نتنياهو يتهمها بتصريحه “اليونسكو تعيد كتابة التاريخ وتشوهه مؤكدة انحطاطًا لاقعر له في إصدار تراهات”.
تبخر المشروع المصري كانت نقطة التحول التي كشفت معدن بعض الدول التي اختارت الوقوف مع مشروع العدو ضد الأخ القريب
اتهم جملة من أصدقاء “إسرائيل” من المنظمات، خاصة فرنسا بالتواطؤ لاستصدار هذه القرارات المنحازة ضد “إسرائيل”، مما جعل فرنسا تعمل لتصحيح صورتها بترشيح وزيرة الثقافة الفرنسية ذات الأصول اليهودية لرئاسة المنظمة كقربان تكفير ذنب.
لم تكن “إسرائيل” وحدها، بل إن أمريكا أعلنت يوم 10 من أكتوبر 2017 انسحابها من منظمة تعتبرها منحازة ضد “إسرائيل” ويعتبر الانسحاب ورقة ضغط لكون أمريكا تدفع خُمس ميزانية اليونسكو سنويًا.
هاجس “إسرائيل” من ترؤس العرب لليونسكو
لم يكن العرب ليستثمروا هذا الترهل الصهيوني مع اليونسكو للاتفاق على مرشح ينال رضى وقبول ومباركة فصيل واسع، بل انطلقوا من القطيعة والتفكك، فترشح 3 عرب من قطر ومصر ولبنان، وانسحب اللبناني وبقي القطري والمصرية.
يبرر الكيان الصهيوني خوفه على حسب الكاتب اليهودي رفائيل هرين في مقال في “تايم أو إسرائيل بالعربية” بعنوان “إسرائيل تخشى من استلام ثلاثي إسلامي لقيادة اليونسكو”، بأن ترؤس عربي للمنظمة سيسعى بالدفع لأجندة أكثر عدائية في المنظمة الثقافية للأمم المتحدة.
كانت الفرنسية تمثل مشروع الكيان الصهيوني لسيادة منظمة تراها معادية لمصالحها فكان ترؤسها بهدف توجيه أجندتها واستغلال رمزيتها بما يحمي مصالحها قضية وجود
ركز الكاتب على القطري حمد الكواري بكونه الأوفر حظًا والأشد خطرًا، إذا أكد أن ترشيح الكواري أثار غضب مركز سيمون فينزنتال، الذي اشتكى قبل نحو عامين من مواد معادية للسامية ظهرت بشكل بارز في معرض كتاب نُظم تحت رعاية وزارة التعليم القطرية.
وفي نفس الوقت لم يبد أي هاجس من ترشح منافسة عربية أخرى هي وزيرة شؤون الأسرة والسكان المصرية السابقة مشيرة خطاب، إذ ركز على إشارتها إلى معاهدة السلام مع “إسرائيل” عام 1979 على أنها أمر يؤهلها على نحو فريد لهذا المنصب.
استشهد بخطاب في مقابلة أجرتها معها وكالة “أسوشيتد برس”: “لا تنسوا أننا كنا نحن من بدأ السلام مع إسرائيل”.
انتخابات اليونسكو.. العبرة بالنهايات
بقي القطري حمد الكواري متصدرًا للنتائج طول المراحل الأربعة من الخمس التي تحدد هوية المدير العام الجديد، لقد كانت نتيجة المرحلة الرابعة تقدم القطري حمد الكواري بـ22 صوتًا مقابل 18 صوتًا لكل من الفرنسية أودرية أزولاي والمصرية مشيرة خطاب.
صعد القطري مباشرة للمرحلة الخامسة وأُعيد التصويت بين الفرنسية والمصرية فكانت الغلبة لأزولاي بـ30 صوتًا مقابل 25 مع ورقتين بيضاء.
الحقد الغبي
لقد كانت الفرنسية تمثل مشروع الكيان الصهيوني لسيادة منظمة تراها معادية لمصالحها، فكان ترؤسها بهدف توجيه أجندتها واستغلال رمزيتها بما يحمي مصالحها قضية وجود. وعلى النقيض من ذلك، بعد تبخر المشروع المصري كانت نقطة التحول التي كشفت معدن بعض الدول التي اختارت الوقوف مع مشروع العدو ضد الأخ القريب.
لقد كان تصويت دول الحصار لفرنسا ضد قطر حقدًا ساذجًا غبيًا مكن للكيان الصهيوني الغلبة في معركة دبلوماسية بقينا الفائزين فيها حتى نطق الغبي بسفاهة كلفتنا وستكلفنا الكثير، إن هذا الغباء المنقطع النظير الناجم عن حقد دفين أظهر قانونًا اجتماعيًا وسياسيًا مناطه أن الكيان الصهيوني يتقوت ويعيش بغباء العرب وحقدهم للناجح منهم. كما أظهر ميلاد حقبة تاريخية جديدة بدا فيها التنسيق واضحًا بين الكيان الصهيوني ودول التطبيع الجديدة التي تعمل على مشروع صفقة القرن للتخلص من قضية فلسطين، فكانت النتيجة تحويل منظمة من نقطة قوة إلى ثغر تضرب منه الأمة الإسلامية.