تيمة الرحلة، البحث هي تيمة مركزية في أغلب أعمال المخرج الإيراني الراحل الكبير عباس كيارستمي (1940- 2016)، شخوص أفلامه دائمًا ممسوسون بحتمية القيام برحلة إلى مكان آخر بغرض تحقيق غاية ما، ورغم أنهم غالبًا ما يفشلون في الوصول إلى تلك الغاية، أو على الأقل ينهي كيارستمي فيلمه قبل أن نراهم وقد حققوا تلك الغاية، فإن الرحلة في حد ذاتها قد تكون وسيلة لإكسابهم معارف جديدة بخصوص الحياة والعالم من خلال ما يلقوه ويصادفونه على طريق رحلتهم.
فيلم “أين منزل صديقي؟” 1987، وهو الفيلم الذي وضع كيارستمي على خريطة السينما العالمية، يعتبر الفيلم الأول من ثلاثية ستعرف باسم “ثلاثية كوكر” نسبة إلى اسم المنطقة التي تدور بها الأحداث، الفيلم يروي رحلة صبي صغير من قريته إلى قرية مجاورة للبحث عن منزل صديق له بالصف كان قد نسى معه دفتره المدرسي ويحاول أن يعثر على منزله كي يعطيه الدفتر حتى يعمل الواجب المدرسي ولا يتعرض هذا الصديق للطرد من المدرسة حسب وعيد المدرس له.
هكذا يبدأ الصبي أحمد رحلته منطلقًا في يوم شتوي بارد باحثًا عن منزل صديقه الذي لا يعرف عنوانه، والذي لا يبدو أن أحدًا يعرفه، منتقلًا من بيت إلى بيت، ومن مكان إلى مكان، في بحث غير مجد، هو لا يجد عند الكبار الذي يسألهم سوى قلة الاكتراث واللامبالاة بل وسوء الظن في بعض الأحيان كما حدث من جده الهرم الذي يظنه يهمل واجباته المدرسية والمنزلية وأنه خارج من المنزل كي يلهو.
هنا يختبر الصبي قسوة العزلة، وتتحول القرية أمامه إلى ما يشبه المتاهة خاصة قد حل ظلام الشتاء المبكر وبدأت الريح الباردة بالهبوب ولم ينجح بعد في العثور على منزل صديقه، ويعود الصبي أحمد إلى قريته يائسًا، وفي البيت يقرر أن يسهر الليل كاملًا كي يكتب الواجب المدرسي له ولصديقه، وبهذه الطريقة ينجح في إنقاذ صديقه من أن يطرد من المدرسة. في رحلة الصبي أحمد من قريته إلى قرية صديقه نشاهده وهو يمر عبر رحلته المتكررة بشجرة منعزلة فوق تلة صغيرة يصعد إليها من خلال طريق متعرج، يقول كيارستمي: “لسنوات قبل أن أحقق هذا الفيلم، كنت أحمل في ذهني هذه الصورة – الشجرة فوق قمة التلة والطريق المتعرج الصاعد إلى أعلى التل – والتي قد تجدها في لوحاتي وصوري الفوتوغرافية المنتمية إلى تلك الفترة، كما لو كنت منجذبًا لاشعوريًا إلى ذلك التل وتلك الشجرة المنعزلة”.
إن بحث الصبي الصغير ومغامرته المضنية لا بد أن ترى كرحلة حقيقية، ليس فقط ماديًا كمجرد رحلة قصيرة إلى قرية مجاورة، بل تصبح رحلة روحية لاكتشاف الذات واكتشاف عالم آخر مجهول، رحلة معرفة أخلاقية ومعنوية، الرحلة بمعناها الدقيق كما في التقليد الشعري والفلسفي الفارسي، أو كما يقول كيارستمي “الرحلة تشكل جزءًا من ثقافتنا، وهي مرتبطة بالصوفية. بالنسبة لنا، ما هو مهم حقًا، ليس الهدف الذي نرغب في الوصول إليه وتحقيقه، لكن الطريق الذي يجب أن نسلكه للوصول إلى هناك، لدينا دين ذو بعدين: أحدهما يوجد وراء نطاق الأزمان حيث لا يوجد بحث، والآخر – الأكثر تطورًا – يوجد فيه البحث حقًا، الشعر الإيراني الصوفي يحتكم بدقة إلى فكرة رحلة المعرفة كطريق للتعلم، الثقافة الإيرانية بكل ثرائها تشتمل على هذه الفكرة، وليس الثقافة الدينية وحدها”.
تتكرر تيمة البحث في الفيلم الثاني من ثلاثية كوكر، وهو فيلم “وتستمر الحياة” 1992، حيث ضرب زلزال هائل ومدمر مناطق في شمال إيران في شهر يونيو من العام 1990 فقتل عشرات الآلاف من الناس، وتسبب في حدوث أضرار جسيمة. قرر كيارستمي نفسه أن يشق طريقه إلى القرية المجاورة لقرية كوكر والتي حدث فيها الزلزال والتي كان قد صور فيها فيلمه “أين منزل صديقي؟” قبلها بأربع سنوات، كان همه الاطمئنان على مصير الصبيين الصغيرين اللذين مثلا في الفيلم ليعرف ما حل بهما بعد الزلزال، بعد شهور يقرر كيارستمي أن يصور تلك الرحلة وما قابله فيها على الطريق، بحثًا عن الصبيين ليحقق فيلمه الثاني من الثلاثية.
تيمات الحياة والموت، ومفاهيم التغير والاستمرارية تلعب دورًا بارزًا ومهمًا في بناء أعمال كيارستمي، هنا، رغم الحضور المهيمن للموت بسبب كارثة الزلزال ونتائجه، فإن الفيلم يرصد مظاهر الاحتفاء بالحياة، ويظهر طاقة الحياة المتجددة باستمرار أمام الدمار والموت. الناس يتنقلون عبر المنازل المهدمة حاملين أدواتهم وأغراضهم وما تبقى لهم، البعض لا يزال يريد مشاهدة مباريات كأس العالم المقامة في ذلك الوقت، النساء يغسلن الثياب ويؤدين وظائفهن اليومية كما كان الحال قبل الزلزال، بل وهناك من تزوج من الشباب بعد الزلزال بأيام قليلة.
الفيلم يؤكد على ضرورة أن يجد الإنسان الطريقة الملائمة للاستمرار بالحياة والتمتع بما تقدمه حتى لو كان بسيطًا وعاديًا، وكما نهاية فيلم “أين منزل صديقي؟” وعدم نجاح الصبي في مسعاه بالعثور على منزل صديقه، ينتهي الفيلم الثاني من الثلاثية قبل أن نعرف إذا كان المخرج قد نجح في العثور على الصبيين أم لا، وقبل أن نعرف مصيرهم.
يقول كيارستمي: “كنت بحاجة إلى دافع أقوى للاستمرار في الرحلة، أردت أن أوجه الاهتمام إلى الأب/المخرج والأفراد الذين يلتقي بهم على الطريق أكثر من الانتباه على الصبيين المفقودين الذين لا نعرف شيئًا عن مصيرهما”.
من خلال تحاور المخرج مع الناس الذين يلتقيهم نعرف تفاصيل الأحداث والفيلم يكشف عن طاقة شعرية عالية، الفيلم الأخير من ثلاثية كوكر “عبر أشجار الزيتون” 1994 يروي قصة حب فتى لم يكمل تعليمه ويعمل بناءً يدعى حسين لفتاة متعلمة تدعى طاهرة، ومحاولته إقناعها بالزواج منه خلال حضورهما معًا تصوير فيلم “وتستمر الحياة”. في المشهد الختامي للفيلم والثلاثية نشاهد الفتى يسير وراء الفتاة وهو يعرض عليها حبه المخلص، ونراه عابرًا الطريق المتعرج الصاعد إلى أعلى التل والشجرة المنعزلة ما زالت موجودة على القمة كما شاهدناها في الجزء الأول والصبي أحمد يجتازها إلى قرية صديقه، وكما شاهدناها في الجزء الثاني والمخرج يعبر جوارها بسيارته بحثًا عن الصبيين، لتكون هي الموتيفة البصرية التي تجمع بين الأفلام الثلاث والشاهد الصامت على دراما الشخوص التي تعبر بجوارها في رحلاتهم الحياتية.