فتح رئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، أبواب التساؤلات على مصاريعها، بقوله: “سنفوز بعدد قياسي من الأصوات” في الانتخابات البلديات التركية، المقررة في 31 مارس/آذار الحاليّ، ومع بدء العد التنازلي للانتخابات – الاستحقاق الثالث بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، في مايو/أيار الماضي – تواصل الأحزاب السياسية التركية، وضع اللمسات الأخيرة لبدء الدعاية الانتخابية في 21 مارس/آذار الحاليّ، والتي تستمر حتى موعد الصمت الانتخابي يوم 30 من الشهر نفسه.
تتعدد التساؤلات بالتصريحات التي أطلقها منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة الحالي ومرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض: من أين أتي بكل هذه الثقة في حسم الانتخابات البلدية المحلية المقبلة؟ هل هي ثقة حقيقة أم مجرد إدارة معركة كلامية؟ وهل المعارضة قادرة على تحقيق النتائج التي تتوقعها؟ ما الحال في معسكر المعارضة التركية أصلًا؟ وما معطيات الفوز من عدمه في الانتخابات؟ وما موقف التحالفات خلال التجهيز للمراحل الأخيرة من الماراثون المرتقب؟
تستبق هذه التساؤلات، انتهاء الهيئة العليا للانتخابات في تركيا من أعمال تشكيل اللجان المشرفة على صناديق الاقتراع، فيما كشفت القوائم النهائية للمرشحين عن حدة التنافس بين الأحزاب، ففي إسطنبول يتنافس 49 مرشحًا على منصب رئاسة بلدية المدينة الكبرى، من بينهم 22 مرشحًا حزبيًا، مقابل 27 مرشحًا مستقلًا، وفي بلدية مدينة غازي عنتاب، يتنافس على الرئاسة 29 مرشحًا: 26 حزبيًا و3 مستقلين، وفي ملاطية يتنافس 28 مرشحًا: 23 حزبيًا و5 مستقلين، وعلى رئاسة بلدية مدينة أنقرة يتنافس 24 مرشحًا: 19 حزبيًا و5 مستقلين.
بيانات الهيئة العليا للانتخابات الموضحة للمدن الأكبر من حيث عدد المرشحين، كشفت أيضًا عن تنافس 27 مرشحًا على رئاسة بلدية مدينة إزمير، وفي المقابل، لم يتنافس في بلدية هيلال بمحافظة شرناق، وبلدية أكينجلار بمحافظة أديامان، إلا مرشح واحد من حزب العدالة والتنمية ومرشح واحد من حزب الشعب الجمهوري لعضوية المجلس البلدي لبلدية، غولجلي، بمحافظة آلموس، ولا يوجد مرشحون مستقلون لرئاسة بلديات مدينة أرضروم ومنيسة وشانلي أورفا!
الردع الانتخابي
تتزامن هذه المعطيات الرسمية والتحركات الجارية على الأرض، مع معركة إعلامية تحاول من خلالها الأطراف المتنافسة في السلطة والمعارضة، استمالة الناخبين وقصف معسكر الطرف الآخر، وهو ما يفسر تصريحات رئيس بلدية أنقرة، ردًا على ما قاله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بحق خصومه السياسيين وتعهده بفوز مرشحي تحالف الشعب الحاكم، في الانتخابات البلدية المقبلة بعدد قياسي من الأصوات: “بينما تتخذون مع بلدية العاصمة والبلديات الفرعية الخطوات اللازمة، سنقوم بدورنا في أنقرة.. كل وعد يقدمه مرشحونا، يقف وراء تحقيقه الرئيس والحكومة وتحالف الشعب”.
لم يقف مشاهير أحزاب المعارضة التركية في “مربع الصمت” إزاء هذه اللهجة الرسمية، خاصة الذين يخوضون سباق الانتخابات البلدية، كونها المعركة الانتخابية الأخيرة خلال السنوات الخمسة المقبلة، ومن ثم رد يافاش بكل حدة على أردوغان: “نحن قادمون بتصويت تاريخي.. لا أحد ينظر إلى الأسفلت، والتقاطعات التي تبنيها أنت، ينظرون أولًا إلى العمل الذي يتم تنفيذه.. كسبنا قلوب الناس كثيرًا لدرجة أننا سنحصل اليوم على 60% من الأصوات”.
معارك جانبية
من خلال جولات ميدانية لـ”نون بوست” بهدف إلقاء نظرة على الواقع الانتخابي في مناطق عدة، فإن نسب التغيير في مقاعد الأحزاب الرئيسية – العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري، والحركة القومية، والمساواة وديمقراطية الشعوب – لن تكون كبيرة، سواء في البلديات الرئيسية أم الأقل شهرة، وإن كان المتغير الأهم سيكون من نصيب حزب “الجيد” الذي يواجه أزمة داخلية كبيرة خلال الانتخابات البلدية.
يخوض حزب الجيد معارك جانبية ضد أحزاب أخرى، كحليفه السابق “الشعب الجمهوري” متهمًا إياه بـ”عرقلة أنشطته الدعائية في بلديات عدة، تتصدرها: إسطنبول وأنقرة وإزمير”، فضلًا عن أن الحزب نفسه رفض استمرار التحالف مع حزب “الشعب الجمهوري” رغم فوز أوزغور أوزال برئاسة الحزب، على حساب الرئيس السابق كمال كليجدار أوغلو، الذي لم يكن يحظى بدعم ميرال أكشينار زعيمة حزب الجيد.
يقلل نائب رئيس الحزب، جم كاراكجيلي – الذي استقال احتجاجًا على سياسات ميرال أكشنار – من حجم “التآمر على الحزب”: “أزمتنا داخلية، في الحزب نفسه. لا حاجة للبحث عن جذورها خارجيًا. السياسة، هي فن التوفيق بين النزاعات والمصالح، لا سياسة الحرب والعداء”، ومع تفاقم أزمة الحزب، قال كاراكجيلي قبل مغادرة الحزب: “الوداع صعب. كانت لدينا أهداف واضحة، لكن في النقطة التي وصلنا إليها، جعلتنا نصبح صدى صوت لآخرين، ومصدرًا للضوضاء السياسية. السيدة ميرال أكشنار، رغم تمرسها السياسي، تقع في الأخطاء”.
الاستقالات ليست قاصرة على حزب الجيد، لكنها طرقت باب حزب الشعب الجمهوري، الذي شهد خطوات مماثلة، أهمها استقالة مساعد رئيس الحزب كوزا ياردمجي “احتجاجًا على ما اعتبرته ممارسات غير عادلة تُهمّش كفاءات الحزب في عملية اختيار المرشحين للانتخابات البلدية، بعدما ناضلتُ من أجل أن تكون عملية اختيار المرشحين على أساس الكفاءة ومتوافقة مع القواعد والتعليمات، لكن على الرغم من جميع تحذيراتي، استمرت الممارسات التي تؤذي ضمير أعضاء الحزب وناخبينا”، كما استقال بعض رؤساء البلديات الذين لم يُرشحوا مرة أخرى، خاصة في المناطق التي تعتبر معاقل للحزب.
بحكم مكانته التاريخية، فإن حزب الشعب الجمهوري هو العنوان الأكبر للمعارضة التركية، وخلافاته الداخلية ستنعكس على إدارته للعملية الانتخابية وعلى علاقاته بأطراف المعارضة، بعضهم سينافس الحزب على مقاعد بلدية كإسطنبول، فيما يحاول زعيم الحزب، أوزغور أوزال، الذي تسلم موقعه منذ عدة أشهر، علاج جملة الإشكاليات التي تفاقمت خلال عهد الرئيس السابق كمال كليجدار أوغلو.
الورقة “المفخخة”
يشكل حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” واجهة العمل السياسي الكردي، لكنه يعد في الوقت نفسه أحد أهم أسباب إجهاض التحالفات الانتخابية بين أحزاب المعارضة التركية، على عكس التنسيق الذي ميز الانتخابات البلدية التركية عام 2019، خاصة بين حزب “الشعب الجمهوري” و”الجيد” الذي رفضت زعيمته أكشينار توجهات الحزب الشعب الجمهوري بمد الجسور مع الأكراد، بعدما قام رئيس “الشعب الجمهوري”، أوزغور أوزال، بزيارة الحزب الكردي، في وقت سابق، معلقًا: “لا نفعل شيئًا في السر.. زرناهم، وهم يأتون لزيارتنا.. عليهم – الخصوم – أن يركزوا في الانتخابات والفوز بها إذا استطاعوا”.
وفيما بات ملف التعاون مع حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” بمثابة “تفخيخ” للتحالفات، قبل الانتخابات البلدية التركية، فإن النظرة داخل معسكر المعارضة تكشف أن معظم الأحزاب لم تعد مرحبة بالتحالفات، بسبب تناقض الأفكار والتوجهات، وبالتالي، تأثير ذلك على الكتل التصويتية التقليدية، أو حتى على إقناع فئة الأصوات المترددة التي تراهن عليها جميع الأحزاب السياسية التركية، خاصة مع قرب موعد الانتخابات، وزيادة حدة المنافسات والمعارك السياسية في المشهد العام التركي، ليس فقط في المدن الرئيسية – إسطنبول، أنقرة، أزمير، أضنه، أنطاليا، ومرسين – بل وفي وتشظي أحزاب المعارضة.
في المقابل، يصمد تحالف “الشعب” الحاكم، تاركًا الباب مواربًا لانضمام المزيد من الأحزاب الجديدة، خاصة مع تأكيدات الرئيس، أردوغان بأن “استعادة إسطنبول وأنقرة وغيرهما من البلديات الكبرى، الهدف الأهم لتحالف الشعب بعد الانتخابات العامة، الصيف الماضي” ومن ثم يعمل حزب العدالة والتنمية مع حزب “الحركة القومية” خلال التجهيز للانتخابات البلدية التعاون المشترك في معظم الولايات الـ81.
لم تستغل المعارضة التركية الأجواء الضاغطة خلال الانتخابات العامة – الرئاسية والتشريعية – الصيف الماضي، في خوض معركة ناجحة مع حزب العدالة والتنمية، الذي يقود تحالف “الشعب الحاكم” ونجح في تعزيز مكانته بالأغلبية البرلمانية في الجمعية الوطنية الكبرى، فضلًا عن فوز أردوغان بالرئاسة، ورغم أن التحالف لم يحسم بشكل نهائي معركة تعويم الاقتصاد، فقد سارع بإعادة ترتيب أوراقه وملفاته، رغم أنه لم يحافظ على جزء من تحالفاته الحزبية كـ”الرفاه من جديد” الذي قدم مرشحيه في جميع المدن، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة.
وفيما يحافظ تحالف الشعب الحاكم على قواعده التصويتية في المناطق الريفية والمحافظات الداخلية والوسطى، يعمل على تعزيز نفسه في المناطق المحسوبة على القواعد التصويتية للمعارضة، من خلال طرح شخصيات قادرة على المنافسة على رئاسة البلديات، لا سيما إسطنبول وأنقرة وإزمير في جنوب شرق الأناضول وشرق الأناضول كديار بكر وأضنه وميرسين وأنطاليا، وفي المدن والمناطق الساحلية عامة على بحري إيجه والمتوسط.
ويظل الملعب مفتوحًا لجميع الأحزاب التي تخوض الانتخابات البلدية التركية خلال أقل من 22 يومًا، فيما تواصل المعارضة، وبالتحديد، حزبها الأكبر “الشعب الجمهوري” مواصلة لغة التحدي وتوجيه الاتهامات لمرشحي تحالف الشعب الحاكم، على غرار ما قاله مرشح الحزب، منصور يافاش: “الحكومة لا تفهم قيمة البلدية، فالخرسانة والمواد البلاستيكية التي يقدمونها لها عمر افتراضي يصل إلى شهرين، إذا قمت ببناء نفق فالجميع ينسى ذلك بعد 3 أشهر.. البلدية، هي المؤسسة التي تتعامل مع جميع احتياجات السكان الذين يعيشون في المدينة منذ الولادة وحتى الوفاة، وهذا يشمل التعليم، والصحة، والتجارة، وعالم الأعمال، والموظفين والعاطلين عن العمل”.