أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن عن إنشاء ميناء مؤقت على شواطئ غزة، بزعم إدخال المساعدات للغزيين المحاصرين منذ أكتوبر الماضي، الكثير من الجدل لدى الشارع العربي الذي انقسم حول الدوافع الحقيقية وراء تلك الخطوة التي تتناقض وعقيدة الأمريكان الراسخة بشأن دعم الإسرائيليين عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا في حرب الإبادة التي يشنوها ضد أطفال ونساء غزة.
أسفرت الإبادة الإسرائيلية عن ارتقاء أكثر من 30 ألف فلسطيني وإصابة ما يقرب من 100 ألف، فيما يتعرض ما يزيد على مليون ونصف منهم لحرب تجويع ممنهجة، كانت إدارة بايدن هي المزود الرئيسي لجيش الاحتلال بالأسلحة الفتاكة المستخدمة في استهداف الفلسطينيين العزل، هذا بخلاف عرقلتها لكل الجهود المبذولة أمميًا لوقف الحرب وإدخال المساعدات للمحاصرين منذ أكثر من 150 يومًا.
تغطية صحفية| البنتاجون يقول إن 1000 جندي أميركي سيشاركون في بناء ميناء غزة المؤقت، وأن أميركا تعمل مع الاحـ تلال والشركاء في المنطقة فيما يخص الجوانب الأمنية الخاصة بتوزيع المساعدات في غزة pic.twitter.com/gwmss9DV8A
— شبكة رصد (@RassdNewsN) March 8, 2024
وكان الرئيس الأمريكي خلال خطابه لـ”حالة الاتحاد” الخميس 3 مارس/آذار 2024 قال إنه وجّه الجيش الأمريكي لقيادة “مهمة طارئة” بهدف إنشاء ميناء بحري مؤقت على ساحل غزة، من أجل استقبال سفن المساعدات الإنسانية الكبيرة التي ستصل عبر ممر بحري من قبرص، لافتًا إلى أن الهدف من هذا الأمر تقديم مليوني وجبة لمواطني غزة يوميًا.
التناقض الفج بين تلك التصريحات التي يبدو من ظاهرها الإنسانية، والإجراءات الفعلية التي تقوم بها إدارة بايدن لدعم الاحتلال في حربه الوحشية ضد الفلسطينيين عمليًا يثير الكثير من التساؤلات والشكوك عن الدوافع الحقيقية وراء تلك الخطوة، لا سيما أن أمريكا التي تلجأ لإدخال المساعدات عبر البحر والجو، يمكنها – إذا أرادت – إدخالها عبر طريقها السهل المتعارف عليه من خلال معبر رفح.. فماذا يريد بايدن وإدارته من وراء تلك الخطوة؟
60 يومًا وحماية ألف جندي
بحسب المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، فإن بناء الميناء المزعوم سيستغرق ما بين 30 – 60 يومًا، وسيكون تحت حماية قوة أمريكية لا يقل عتادها عن 1000 جندي، منوهًا أن تلك القوة لن تكون على أراضي غزة، وأن هناك دولًا شريكة في الشرق الأوسط – لم يسمها – ستشارك أمريكا في تلك العملية، وفق ما ذكرت صحيفة “نيويورك” الأمريكية.
من المقرر أن يشارك في تدشين هذا الميناء لواء النقل السابع بالجيش الأمريكي، وهو لواء مشاة أمريكي، له خبرات طويلة في عمليات البناء، فيما أوضح بايدن بأن هذا المشروع سوف يتيح زيادة هائلة في كمية المساعدات الإنسانية التي تصل إلى غزة بعدما لم تسد المساعدات المرسلة عبر الإنزالات الجوية احتياجات المحاصرين ولو بالحد الأدنى.
ومن المتوقع أن يستقبل هذا الميناء السفن القادمة عبر الممر البحري من قبرص وأن يبدأ عمله مطلع الأسبوع الحالي، وفق ما ذكرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي قالت – بينما كان الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس بجوارها -: “نحن قريبون جدًا من فتح هذا الممر، ونأمل أن يكون ذلك في يومي السبت أو الأحد المقبلين، وأنا سعيدة جدًا لرؤية إطلاق تجريبي أولي، اليوم”.
📍أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية استعدادها لبناء ميناء مؤقتًا على ساحل قطاع غزة لإيصال المساعدات الإنسانية عن طريق البحر.
📍وبحسب الخطة الأمريكية سيتولى الجيش الأمريكي بناء الرصيف البحري قبالة سواحل غزة والذي سيتصل باليابسة عبر جسر مؤقت.
📍ومن المقرر أن يستغرق بناء الميناء… pic.twitter.com/bsiPL25Fty
— نون بوست (@NoonPost) March 8, 2024
عملية معقدة وغير مجدية
الأمر لم يكن سهلًا بحسب حلفاء الولايات المتحدة، لما ينطوي عليه من تعقيدات ربما تجهضه في مهده، ففي بيان مشترك وقعه الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والإمارات وعدد من الدول الأوروبية قالوا إن: “توصيل المساعدات الإنسانية مباشرة إلى غزة عن طريق البحر سيكون معقدًا، وستواصل دولنا تقييم وتعديل جهودنا للتأكد من تقديم المساعدات بأكبر فعالية ممكنة”.
أما صحيفتا “إيكونومست” و”وول ستريت جورنال” الأمريكيتين، فأبدتا في تقارير منفصلة لهما شكوكهما بشأن جدوى تلك الخطوة وقدرتها على تخفيف الأعباء على الفلسطينيين المحاصرين في غزة، وذلك لبعدين اثنين:
الأول: من حيث التوقيت، فالمشروع يحتاج إلى قرابة شهرين حتى يكون جاهزًا لاستقبال سفن المساعدات، حسب المتحدث باسم البنتاغون، وهي فترة طويلة في ظل ما يعانيه سكان القطاع من حرب تجويع ممنهجة، حيث تقول الأمم المتحدة إن ما لا يقل عن 576 ألف شخص في غزة، أي ربع سكان القطاع، على شفا المجاعة.
الثاني: التعقيدات اللوجستية والإدارية، فحسب ما نشرته “إيكونومست” فإن سفن المساعدات ستخضع للتفتيش من “إسرائيل” مرتين قبل وصولها إلى غزة، المرة الأولى قبل إقلاعها من قبرص، والثانية بعد وصولها إلى الميناء المزعوم، وذلك لضمان عدم إضافة أي شيء في الطريق، هذا بخلاف احتمالية عرقلة الجانب الإسرائيلي لإدخال بعض المساعدات الخاصة بالمستلزمات الطبية والوقود وهو ما يجهض المحاولة من الأساس.
"الإيكونوميست" شككت في في أن يجلب "ميناء #بايدن" الراحة لغزة.. كيف تعاطت الصحف العالمية مع خطة الميناء الأمريكي المؤقت على ساحل #غزة؟#حرب_غزة #فيديو pic.twitter.com/7zG8UZgSJY
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) March 9, 2024
محاولة لستر العورة
يذهب فريق من المحللين إلى أن الهدف الرئيسي من وراء هذا المشروع المزعوم هو محاولة إدارة بايدن ستر عوراتها المفضوحة بسبب الدعم اللامحدود للكيان الإسرائيلي وتورطها كشريك أساسي ورئيسي في جرائم الإبادة المرتكبة بحق الغزيين، في ظل تراجع الدعم العالمي للاحتلال مقارنة بما كان عليه بداية الحرب بعدما انكشف زيف السرديات الإسرائيلية المضللة.
كما أن الصمت الفاضح للإدارة الأمريكية على حرب التجويع التي يتعرض لها أكثر من مليوني مواطن في القطاع المحاصر وضعت سمعة أمريكا الدولية على المحك وعرضتها للتشويه وباتت في مرمى الانتقادات الحادة، حتى من النشطاء في الداخل الأمريكي.
وعلى مدار الأيام الماضية حاولت واشنطن إنقاذ سمعتها المتدهورة من خلال تقديم المساعدات عبر الإنزالات الجوية كما فعلت الأردن ومصر والإمارات وقطر وفرنسا، لكنها المحاولات التي يراها الكثيرون غير مجدية، خاصة أنها ترافق جسور مستمرة من المساعدات العسكرية التي تقدمها لجيش الاحتلال لممارسة جرائمه ضد أطفال غزة ونسائها، في مقارنة فجة أسقطت الكثير من الأقنعة المزيفة، حسبما جاء على لسان بعض البرلمانيين الأمريكيين.
“لو كان جادًا في وقف المجاعة لسمح بإدخال آلاف الشاحنات يوميًا من معبر رفح، ومن ثم توصيلها للشمال”، هكذا علق المحلل الفلسطيني ياسر الزعاترة على هذا المشروع، لافتًا إلى أنه وإن لم يكن مؤامرة بالمعنى التداول “لكنه محاولة مكشوفة وتافهة لإظهار إنسانية تفضحها القنابل التي تحصد الأبرياء من نساء وأطفال وكبار وصغار على مدار الساعة”.
عن الرصيف الأمريكي العائم في بحر غزة.
تناولت الأمر عرَضا في التعليق على خطاب "حالة الاتحاد" لبايدن، لكن تساؤلات كثيرة فرضت هذه السطور.
أمريكا تقتل شعبنا في وضح النهار، ولا تحتاج لمؤامرات سريّة، كما فسّر البعض القصة.
هو طبعا رصيف عائم وليس ميناء.. هذا من حيث المبدأ، وبحسب…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) March 9, 2024
ويواجه بايدن حملة كبيرة من الجالية العربية والمسلمة في الولايات المتحدة، ودعوات لعدم التصويت له في الانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، بسبب دعمه للاحتلال في حرب غزة، وهي الدعوات التي ربما تقلص من فرص فوزه في تلك الانتخابات، خاصة أن انتخابات الحزب الديمقراطي في ولاية ميتشغان ذات الأكثرية العربية تضمنت رسائل تحذير ضمنية، أقلقت بايدن وحزبه الذي يحاول مغازلة الصوت العربي بمثل تلك المبادرات والتصريحات التي يحاول تبرئة ساحته وغسل يديه من الجرائم المرتكبة في قطاع غزة.
شكوك بشأن الدوافع الأمريكية
فكرة أن يكون هناك ميناء مرحب به إسرائيليًا – ولو كان عائمًا – تحت حماية ألف مجند أمريكي، قابلين للزيادة، على شواطئ غزة، ويحيطه الكثير من الغموض بشأن الجهات المخولة لتأمينه، مسألة في حد ذاتها مثيرة للشكوك والريبة، فالولايات المتحدة إذا كانت جادة بالفعل في إدخال المساعدات لأدخلتها عن طريق معبر رفح كما أشار الزعاترة وغيره من المحللين، وهو ما يثير 6 شكوك أساسية وراء اللجوء إلى هذا الخيار البحري:
الأول: شيطنة الدور المصري والتأكيد على أن مصر هي من تغلق معبر رفح وترفض إدخال المساعدات، لذا اضطرت أمريكا للبحث عن منفذ آخر لإنقاذ الجوعى في القطاع، وهو ما يضع النظام المصري في حرج كبير أمام الشارع المصري والعربي ويبرئ ساحة الاحتلال ويحسن صورته أمام المجتمع الدولي، كما ذهب الكاتب والبرلماني المقرب من النظام المصري مصطفى بكري.
محاولات حثيثه لشيطنة الدور المصري . الميناء البحري المؤقت الذي قرر بايدين إقامته لتوصيل المساعدات إلي غزه ، هي رساله تريد الإساءة لمصر والزعم أنها هي المسئوله عن عدم دخول المساعدات إلي غزه وليس إسرائيل ، ألم يقل بايدن هذا الكلام قبل ذلك ؟
مصر قدمت المساعدات بنسبة ٨٠٪ للأهل في…— مصطفى بكري (@BakryMP) March 8, 2024
الثاني: يرى آخرون أن الهدف من تدشين هذا الميناء الذي من المفترض أن يستقبل سفن قادمة من قبرص، ربما يكون نافذة جيدة لتهجير سكان غزة بالتزامن مع تكثيف القصف وتشديد الخناق عليهم، خاصة بعد إصرار الجانب المصري على رفض التهجير لسيناء وغلق معبر رفح بشكل كامل، مع تقديم الأمريكان التسهيلات اللازمة التي تغري الفلسطينيين بمغادرة القطاع والسفر إلى قبرص ومنها إلى أي دولة أخرى.
الثالث: وضع قدم للأمريكان في مياه البحر المتوسط والاقتراب من مناطق الثراء النفطي، حيث حقول الغاز في شرق المتوسط، في ظل ما تعاني منه أمريكا وغالبية دول العالم من أزمة طاقة خلال السنوات الماضية، وهو الشك الذي قلل البعض منه بدعوى أنه لا تنقيب عن الغاز في ظل صراع محتدم، غير أن الأمر قد يكون مقبولًا إذا استمر هذا الميناء بعد انتهاء الحرب.
الرابع: التسلل إلى غزة ودعم المخطط الإسرائيلي في تنفيذ أجندته الاستعمارية الرامية إلى السيطرة الكاملة على القطاع، وهو ما ذهب إليه وزير خارجية تونس الأسبق، رفيق عبد السلام، الذي يرى أن الأمريكان يريدون منح “إسرائيل” من خلال هذا الميناء ما عجزت عن تحقيقه عبر أكثر من 5 أشهر من الحرب، تحت عنوان تقديم الإغاثة للغزيين بعد إعطاء غطاء لتقتيلهم وتجويعهم.
الأمريكان يريدون التسلل الى غزة تحت غطاء إقامة ميناء للمساعدات الغذائية. يقولون الآن بأنهم يحتاجون الى نشر ألف جندي على الارض والبحر لتهيئة الميناء وحمايته، أي ما عجز الإسرائيلي عن تحقيقة بعد قتال دام خمسة أشهر يريد أن ينتزعه الأمريكي تحت عنوان تقديم الإغاثة للغزيين بعد إعطاء… pic.twitter.com/0BESZc58Rz
— Dr Rafik Abdessalem. د. رفيق عبد السلام (@RafikAbdessalem) March 8, 2024
الخامس: خنق قطاع غزة وتشديد الحصار عليه وغلق كل المنافذ أمام احتمالية أن يشكل تهديدًا لأمن “إسرائيل” في المستقبل، حيث تتماهى الولايات المتحدة مع الأجندة الإسرائيلية التي تهدف إلى حل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” واستبدالها بميناء يقدم المساعدات لسكان القطاع، وهو الحلم الذي سعت إليه تل أبيب على مدار سنوات طويلة مضت، حيث كانت ترى في الأونروا الداعم الأكبر للاجئين الفلسطينيين وقضية العودة.
السادس: لا شك أن وجود مئات الجنود الأمريكيين المدعومين بالتأكيد بأحدث الأسلحة العسكرية والاستخباراتية سيشكل تهديدًا كبيرًا للمقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس، هذا بخلاف المخاوف بشأن استعانة الأمريكان ببعض الغزيين بدعوى حماية المساعدات الداخلة للقطاع، ومع مرور الوقت تُحولهم إلى ميليشيات ضد المقاومة، وخلايا جاسوسية لمراقبة نشاطها وتحركاتها في غزة، هذا بجانب ما ينطوي عليه المشروع من نية إطالة أمد الحرب وعدم اعتراض واشنطن على ذلك، عكس ما تروج له إعلاميًا.
أيًا كانت الدوافع والشكوك بشأن هذا الميناء، فإن الأمريكان أبعد ما يكونون عن الانتصار للإنسانية والتعاطف مع أهل غزة في مواجهة موجات القتل التي يتعرضون لها ساعة تلو الأخرى، إما قصفًا وإما جوعًا، بفضل الأسلحة التي ترسلها واشنطن إلى تل أبيب منذ بداية الحرب، فاليد الملوثة بالصواريخ والرصاص والقنابل لا يمكن غسلها بوجبات غذائية، لا تُبقي على الحياة قدر ما تؤجل فقط موعد الموت.