بدأت معركة الرقة بين “قوات سوريا الديمقراطية” وتنظيم “داعش” تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد إحراز انتصارات متواصلة لقوات “قسد” منذ مطلع الشهر الحالي، ويدور القتال الآن على آخر معاقل التنظيم في وسط المدينة التي تتضمن أحياء الأكراد والقطار والبريد والسخاني والبدو والأندلس والمطحنة، وأشار المتحدث باسم القوات الكردية أمس السبت أن “داعش” على وشك الانتهاء، وربما تحرير المدينة بشكل عام يكون اليوم أو غدًا.
وما يؤكد هذه الأنباء أكثر غياب ملحوظ لإعلام تنظيم “داعش” خلال الأيام الماضية وعدم ذكر تطورات المعارك في الرقة، بينما تركزت بياناته على المجريات الميدانية في محافظة دير الزور، حيث المعارك هناك على أشدها بينه وبين التحالف الدولي والنظام السوري الذي تسانده روسيا وإيران.
ماذا جرى في الساعات الأخيرة؟
الساعات الأخيرة التي تجري في الرقة حاسمة فيما إذا كان هناك اتفاق يقضي بخروج مقاتلي التنظيم إلى محافظة أخرى وإعلان السيطرة على المدينة، أم أنهم مرابطون في مواقعهم رافضون الخروج، من جهته نفى الناطق الرسمي باسم “قوات سوريا الديمقراطية” العميد طلال سلو، مغادرة أي مقاتل من التنظيم لمدينة الرقة حسب تصريحاته لصحيفة عنب بلدي المعارضة.
وذكر التحالف الدولي أمس السبت أن مقاتلي تنظيم “داعش” الأجانب ممنوعون من الخروج من مدينة الرقة، عقب تأكيدات على لسان المتحدث باسمه رايان ديلون، بقوله إن نحو 100 مقاتل من التنظيم استسلموا في الرقة خلال الساعات الماضية وخرجوا منها، كما أشارت أنباء أخرى صباح اليوم في السياق نفسه أن مجموعة من مقاتلي التنظيم غادروا مدينة الرقة خلال الليل مصطحبين معهم مدنيين لاستخدامهم كدروع بشرية.
سيبقى التاريخ يذكر أن سكان الرقة دفعوا ثمنًا باهظًا مرتين الأولى بسبب سيطرة “داعش” على المحافظة والثانية بحجة محاربة “الإرهاب” من قبل التحالف الدولي.
وقدر المتحدث باسم “قوات سوريا الديمقراطية” طلال سلو أن القوات الكردية باتت تسيطر على 90% من الرقة والقتال لا يزال مستمرًا حتى الآن، وبشأن خروج المقاتلين الأجانب من المدينة أشار سلو “كان هناك إرهابيين رفضوا الاستسلام من ضمنهم الأجانب الذين أصروا على قتالنا، استسلم بعضهم لنا”، وأفادت مصادر إعلامية أن عملية إجلاء مقاتلي تنظيم “داعش” من المدينة يتم التحضير لها، لكنها لم تبدأ بشكل فعلي حتى صباح اليوم الأحد، مرجعة ذلك إلى وجود تعقيدات في كيفية إخراج مقاتلي التنظيم وإيصالهم إلى ريف دير الزور، فضلًا عن وجود مدنيين محتجزين لدى عناصر التنظيم.
حملة “الرقة تذبح بصمت” وتضم مجموعة من الناشطين السوريين الذين يوثقون أعداد الضحايا من المدنيين والأضرار الناجمة عن سيطرة “داعش” للرقة، أفادت بأن حافلات دخلت إلى الرقة من أجل إجلاء عناصر تنظيم “داعش” من المدينة إلى ريف دير الزور، وذلك بعد التوصل إلى اتفاق بين التنظيم ومليشيات “قسد”، فيما نقلت وكالة “رويترز” عن مصادر كردية أنه تم إجلاء قسم من مقاتلي تنظيم “داعش” من الجنسية السورية، بينما بقي القسم الآخر في المدينة، وهم من الجنسيات الأجنبية.
قوات سوريا الديمقراطية في الرقة
وحسب التأكيدات الصادرة من عدة جهات رسمية على الأرض فإنه تمت وساطة من قبل شيوخ ووجهاء العشائر وبالتنسيق مع المجلس المدني للرقة لإجلاء المدنيين العالقين داخل المدينة، ولم يغادر جميع مقاتلي التنظيم الأجانب للمدينة في إطار اتفاق الانسحاب الذي تم التوصل إليه مع فصائل مدعومة من الولايات المتحدة.
تضارب الأنباء بشأن سيطرة القوات الكردية على كامل الرقة بعد التوصل لاتفاق يقضي بانسحاب “داعش” من المناطق التي ما زالت تحت سيطرته بشكل كامل، جعل “قوات سوريا الديمقراطية” تصدر بيانًا لتوضيح ما حدث، وجاء في البيان “إننا في قوات سوريا الديمقراطية نعلن للرأي العام أن قواتنا بدأت بمعركة الشهيد عدنان أبو أمجد، التي تستهدف إنهاء وجود مرتزقة التنظيم الإرهابي داخل المدينة، بعد أن نجحت جهود مجلس الرقة المدني ووجهاء وشيوخ محافظة الرقة في إجلاء المدنيين المتبقيين من المدينة، وضمان استسلام 275 المرتزقة المحليين مع عائلاتهم”.
وأضاف البيان “معركة الشهيد عدنان أبو أمجد الحاسمة ستستمر حتى تطهير كامل المدينة من الإرهابيين الذين رفضوا الاستسلام، ومن بينهم الإرهابيون الأجانب الذين أصروا على الاستمرار في قتالهم اليائس ضد قواتنا”.
الرقة بعد “داعش”
كانت “قوات سوريا الديمقراطية” قد بدأت في 6 يونيو/حزيران الماضي عملية اقتحام مدينة الرقة بدعم من قوات التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، وأسفرت العمليات العسكرية هناك عن تدمير كبير في البنية التحتية ومقتل وتشريد آلاف المدنيين من السكان الذين لم يتمكنوا من الخروج من المحافظة.
وقبل الأشهر الـ4 التي مرت على أهالي الرقة، كانت هناك تجربة صعبة ومريرة لسكان الرقة تتعلق بالعيش في كنف التنظيم في ظل سياساته التي فرضها على السكان دامت 3 سنوات من الاضطهاد والتضييق مارسها عناصر “داعش” منذ سيطرتهم على كافة أحيائها وطرد فصائل الجيش الحر منها عقب معارك عنيفة مع النظام السوري هناك.
الأكراد واثقون من استمرار دعم الأمريكان لهم خلال السنوات القادمة، فأمريكا لا تريد التخلي عن المنطقة لمصلحة إيران وروسيا، أضف أن واشنطن مهتمة بعدم ظهور “داعش” مجددًا.
حيث عايش السكان جهاز “الحسبة” والذي يوازي سلطة المخابرات في الأنظمة التقليدية حيث تقوم مهامه على حظر الانشطة التجارية خلال أوقات الصلاة والاستجابة للبلاغات المتعلقة باستخدام المخدرات والمواد الكحولية وحظر الممنوعات من الآلات الموسيقية والسجائر، ومن بين الأمور التي فرضها على نساء المحافظة منع المرأة من المشي في الشارع من دون أن يكون معها محرم.
وكوسيلة لبث الرعب في قلوب السكان اعتمد التنظيم سياسة الإعدام الميداني والعلني أمام مرأى الجميع لزجرهم عن ارتكاب المخالفات ولتخويفهم من سلطته، وكان في كل مدينة ساحة معينة مخصصة لهذا الأمر، ففي الرقة كانت ساحة “النعيم” تحتضن بعد كل صلاة جمعة حالات إعدام، كما تم التضييق على الناشطين وتجريم التعامل مع المنظمات والمؤسسات الإنسانية، واتُهم الإعلاميون بالعمالة لقوات التحالف التي تحاربه، ومن أبرز الحملات المدنية التي واجهت قمعًا من تنظيم “داعش” حملة “الرقة تذبح بصمت” التي أخذت على عاتقها كشف انتهاكات التنظيم بحق المدنيين.
ومنع التنظيم أيضًا الإنترنت وأجهزة التلفاز والستلايت، وجُعلت المعلومة محصورة عبر خطب الجمعة والنشرات الدورية من مجلات مطبوعة وجداريات، وأخيرًا منع “داعش” المدنيين من مغادرة مناطق سيطرته التي وصفها بـ”أرض السلام”، ومنع كل من أراد الخروج منها محذرًا من السفر لبلاد “الكفر” كما أسماها.
ومع اقتراب تحرير المدينة من سلطة “داعش” يعود السؤال ليطرح من جديد وهو من سيحكم المدينة؟ حيث كانت بعض التقارير أشارت أن المدينة ستُسلم إلى مجلس حليف للحكومة السورية وهو ما نفته بشدة “قوات سوريا الديمقراطية”، وقالت إنها تهدف إلى ضمها إلى الفيدالية الكردية التي أطلقتها في الشمال السوري، وإنشاء مؤسسات تستبعد الفروع الأمنية للنظام من المدينة التي يعتبرها البعض بمثابة “كركوك” سوريا.
حملة “الرقة تذبح بصمت” أفادت بأن حافلات دخلت إلى الرقة من أجل إجلاء عناصر تنظيم “داعش” من المدينة إلى ريف دير الزور.
مجلة فورين بوليسي الأمريكية أشارت في تقرير سابق لها أن الرقة قد تصبح جزءًا من المنطقة الاتحادية (الفيدرالية) في المستقبل، أو تبقى مرتبطة بها بطريقة أو بأخرى، وتعمل على إنشاء مؤسسات محلية كتلك التي أنشأتها بالفعل “قوات سوريا الديمقراطية” في مناطق سيطرت عليها، يُشار أن الأكراد أنشأوا فيدرالية لا مركزية في مناطق سيطرتهم في الشمال السوري، وشُكل مجلس الرقة المدني الذي يرأسه عرب وأكراد ويقع في عين عيسى، ومن المقرر أن ينتقل إلى داخل الرقة بمجرد تحرير المدينة.
ومع اعتماد الأكراد في الشمال السوري على الولايات المتحدة تبرز تحديات واقعية أمامهم، تتلخص في مصيرهم في حال توقف الدعم الأمريكي المقدم لهم، إذ من الممكن أن تصبح مناطق سيطرتهم هشة وتتعرض لهجمات من النظام السوري وتركيا، على أن الأكراد واثقين من استمرار دعم الأمريكان لهم خلال السنوات القادمة، فأمريكا لا تريد التخلي عن المنطقة لمصلحة إيران وروسيا، أضف أن واشنطن مهتمة بعدم ظهور “داعش” مجددًا، وهذا ما يجعل من الأكراد الشريك الأفضل لواشنطن في السنوات القادمة.
أخيرًا فإن سيطرة القوات الكردية على الرقة ستنهي 3 سنوات من سيطرة تنظيم “داعش” عليها وستظهر المدينة كأكبر شاهد على جرائم التنظيم من قتل وتدمير وانتهاك للحقوق، وسيبقى التاريخ يذكر أن سكان الرقة دفعوا ثمنًا باهظًا مرتين الأولى بسبب سيطرة “داعش” على المحافظة والثانية بحجة محاربة “الإرهاب” من قبل التحالف الدولي.