عقب مرور 13 عامًا على الثورة السورية، وما رافقها وتبعها من انتصارات مؤقتة وانتكاسات مريرة، تسيطر اليوم حالة من الجمود السياسي والعسكري على الملف السوري الذي أصبح رهينًا للمصالح الإقليمية والدولية، وسط محاولات بعض القوى إعادة تعويم نظام الأسد على الساحة الدولية، وطيّ صفحة الثورة السورية وما خلّفته من تداعيات سياسية وإنسانية واقتصادية.
في المقابل، تشهد الساحة السورية الداخلية مؤخرًا حراكًا شعبيًّا متصاعدًا، واحتجاجات متجددة ضد النظام في السويداء من جهة، وأخرى ضد سلطات الأمر الواقع أي هيئة تحرير الشام في الشمال السوري، وتزداد حدتها واتساعها يومًا بعد يوم.
أمام هذا المشهد المتناقض سياسيًّا وشعبيًّا، وتزامنًا مع مرور الذكرى الـ 13 لانطلاق الشرارة الأولى للثورة السورية، نحاور الأكاديمي والسياسي السوري الدكتور برهان غليون، للحديث عن آخر تطورات الملف السوري وأهم الأدوات المتاحة بأيدي السوريين لإمساك زمام الأمور والخروج من حالة السكون السياسي، والنهوض مجددًا بمبادئ الثورة السورية.
الدكتور برهان هو أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس، وأول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، ومن أبرز مؤلفاته كتاب “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل”، الذي مثّل شهادة شخصية للدكتور برهان على أهم أحداث الثورة السورية ومجرياتها وتطوراتها، والفاعلين المحليين والدوليين فيها، وأحدث جدلًا واسعًا بين السوريين.
1. بداية، ما تقييمك لمسار الثورة السورية سياسيًّا وعسكريًّا وإنسانيًّا بعد مرور 13 عامًا على انطلاقها؟
الثورة ليست غاية بحدّ ذاتها، لكنها منهج عمل لتحقيق قضية هي الأساس. وهذه القضية التي خاطر من أجلها السوريون أو أغلبيتهم، وضحّوا بدماء أبنائهم، هي ببساطة التحرر من نظام طغيان همجي قلَّ مثيله، سخّر المجتمع والدولة والموارد الطبيعية والبشرية جميعًا لخدمة طغمة لا قضية لها ولا غاية إلا البقاء في الحكم، ومصّ دماء العباد والتنكيل بهم وتحقيرهم، لابتزازهم وإكراههم على الخضوع والطاعة والولاء.
والثورة لا تتفجّر كأسلوب أقصى في الصراع إلا عندما تعجز الوسائل الأخرى عن رفع الظلم والاضطهاد، فيضطرّ شعب بأكمله إلى رمي نفسه في مخاطرة كلية من دون حساب للتضحيات أو المآلات، أملًا بأن يمكّنه خروجه الجماعي واستعداده للموت من كسر الحصار المفروض عليه، واستدراك التأخر التاريخي والانخراط من جديد في حركة التاريخ العالمي.
وحالَ تضافر عوامل داخلية وخارجية عديدة دون تحقيق هذا الهدف المنشود لثورة السوريين، وهذا ما ينطبق على ثورات الربيع العربي جميعها تقريبًا ولو بدرجات مختلفة، إذ بلغ حجم التدخلات الأجنبية الإقليمية والدولية درجة جعلت النتائج معكوسة، بحيث زاد ارتهان الشعب للقوى الخارجية ولسلطات الأمر الواقع الميليشياوية، وتفكّكت الدولة وتحولت مؤسساتها إلى شرك للإيقاع بالمجتمع وتسخيره في خدمة الطغم الحاكمة، التي تحولت بشكل أوضح إلى مافيات محلية تعمل بالتنسيق مع المافيات الدولية، لنهب ما تبقى من موارد الشعب والبلاد.
لكن ما لم يتحقق بالشكل الإيجابي المنتظر، أي بولادة نظام حكم جديد يعبّر عن إرادة الناس، ويردّ على تطلعاتهم ويكرّس حرياتهم الفردية والجماعية في إطار القانون، تحقق بشكل كارثي أدّى إلى خسارة الأطراف رهاناتها، وهذا لا نزال نعيش آثاره إلى اليوم.
وأدّى تفكُّك النظام إلى انتشار الفوضى وحكم الميليشيات وأمراء الحرب الصغار هنا وهناك، بمثل ما ساهم في تحرير العديد من الأفراد والجماعات من سلطة النظام، سواء ما خرج منها خارج البلاد أم ما بقيَ فيها تحت حكم سلطات الأمر الواقع الجديدة.
وأطلق انكشاف حقيقة النظام الوعي لدى النخب الشابة من سطوة الأيديولوجيا القديمة، وفُتح لهم الباب أمام الأخذ من مناهل الفكر العصري والمعاصر، والتحرر من الأوهام التي غذّتها عقود طويلة من حكم الديكتاتورية الفاشية والاستبداد وأكاذيبه.
لذلك رغم الأوضاع المزرية المادية والمعنوية التي يعيشها السوريون، ومستنقع الفوضى السياسية والعسكرية الذي يخوضون فيه، يكاد يحصل إجماع متنامٍ عند السوريين والرأي العام الدولي على حتمية إنهاء النظام، وعلى أنه لم يعد هناك خيار آخر إلا التحرر ممّا بقيَ من آثاره، والخروج منه نحو نظام جديد مختلف تمامًا.
2. إذن، ما التحدي الأكبر لنا كسوريين اليوم؟
ما يشكّل التحدي الأكبر لنا كسوريين خارجين من مذبحة النظام الهالك، وما ينبغي أن نضع كل جهدنا في السنوات القادمة لإنجازه، هو الوصل بين هذه العناصر الفكرية والسياسية والاجتماعية والعسكرية التي ولدت من تفكُّك النظام القديم وموته السياسي، والعمل على إعادة تركيبها في نظام اجتماعي جديد، تستمد السلطة فيه شرعيتها من الشعب، وتكون غايتها خدمة المجتمع والارتقاء بشروط حياة الفرد المادية والثقافية، وتحقيق المشاركة المتساوية لجميع الأفراد في القرارات العامة، وضمان السلام والأمن والاستقرار في ظل سلطة القانون.
طالما لم ننجح في العمل على إظهار هذه العناصر وصقلها والجمع بينها على جميع المستويات الفكرية والسياسية والعسكرية، لن نفشل فقط في تحقيق هذه النقلة الكبيرة والأساسية لوضع أُسُس النظام الجديد الذي ضحّى السوريون في سبيل الوصول إليه، ولكن، أكثر من ذلك، سوف نحكم على أنفسنا بالعيش طويلًا في مستنقع الفوضى الذي تستفيد منه مافيات النظام في المنطقة التي لا تزال تسيطر عليها، كما يستفيد منه أمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع والعواصم التي تقف خلفها وتقدم الدعم والحماية لها.
وفي هذا المنعطف التاريخي الصعب تتجلى أهلية العناصر الواعية، المثقفة والسياسية والاجتماعية، وتبرز قدرتها على تحمُّل مسؤولياتها في استكمال إنجاز مهام الثورة التي لا تزال تنتظر منذ 13 عامًا.
3. كيف يبدو الموقف الدولي والإقليمي اليوم من القضية السورية؟
لا أحد يهتم كثيرًا بمن لا يهتم بنفسه، فالعالم مليء بالمشكلات والكوارث والحروب والتحديات، والاهتمام ينتقل بسرعة من مشكلة إلى أخرى.
بمعنى آخر، ليس الموقف الدولي أمرًا بديهيًّا يولد من تلقاء نفسه، لكن علينا نحن أن نصنعه بجهدنا وتنسيق إرادتنا ونشاطاتنا والدفاع عن قضيتنا، فلن يتحرك أحد لنجدة أحد من تلقاء نفسه، إن لم يتحرك أصحاب القضية ويكتشفوا الطريق للوصول إلى تحقيق أهدافهم، وإرشاد الآخرين الذين يتعاطفون مع قضيتهم إلى طريقة الدعم التي يمكن أن يقدموها لهم.
وحتى نرفع من مستوى اهتمام العالم بقضيتنا، والعمل على الموقف الدولي والإقليمي ليكون داعمًا لنا، علينا أن نظهر استعدادنا، نحن أولًا، لتحمل مسؤولياتنا.
وتحمُّل هذه المسؤوليات لا يعني الاستعداد للتضحية ببعض مصالحنا الشخصية لحساب المصلحة العامة فحسب، إنما التغلب على انقساماتها ونزاعاتها الصغيرة من أجل تشكيل موقف سوري قوي، جامع وواضح، ورفع قضيتنا السورية التي هي قضية بناء دولة المواطنة الجديدة التي نسعى إليها، بما تعنيه من كرامة وحرية وعدالة ومساواة وتعاون وتكافل تحت سقف القانون فوق النزاعات والخلافات الجزئية.
4. رغم كل ما أصاب مسار التطبيع العربي مع النظام من انتكاسات، تصرّ بعض الدول العربية على إعادة تعويمه، فما مستقبل هذا المسار؟ وهل يمتلك السوريون أدوات حقيقية لمواجهته؟
لا يبدو أن المحاولات الأخيرة للتطبيع، أو بالأحرى لاستعادة بعض الدول العربية التواصل مع النظام قد حققت نجاحًا يُذكر، رغم اقتناعي بأن هناك رغبة حقيقية لدى أغلب الأنظمة العربية إن لم يكن جميعها في إعادة العلاقات الدبلوماسية، وربما الاستعداد للعب دور ما في المستقبل من أجل التوصُّل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
وهذه أزمة تكاد تكون مستحيلة الحل بعد أن قطع النظام كل علاقة مع الشعب، وأعلن العداء لأي حوار أو تسوية سلمية، وتمترس وراء ميليشيات أجنبية، إيرانية وعراقية ولبنانية وباكستانية وأفغانية، واحتمى بالقواعد العسكرية الأجنبية للبقاء في السلطة مهما كانت الشروط ومهما كان الثمن.
وهو يعتقد عن حق أن ما ارتكبه من جرائم بحقّ سوريا وشعبها، وأدّى إلى تقويض الدولة وتشريد الشعب وتدمير الاقتصاد ووضع البلاد تحت وصايات الدول الاجنبية، يستحيل تمريره أو المرور عليه من دون التعرض إلى المساءلة والمحاسبة، مهما تمتع السوريون بروح التسامح والرغبة في الخروج من الهوة السحيقة التي رُمي فيها المجتمع والبلاد.
وحتى لو نجحت الحكومات العربية في تجاوز خلافاتها مع الأسد على أمل تحقيق بعض المصالح الخاصة، مثل الحد من تجارة المخدرات أو التخفيف من ضغط موجات المهجّرين، فإن نظامه تفكّك ولم يعد قابلًا للإصلاح، وتحول حكمه، كما مرَّ ذكره، إلى غطاء لمشاريع المافيات المختلفة.
ولن يستطيع بمؤسساته المهترئة ورجاله الفاسدين وأصحاب السوابق الذين يحتلون المناصب الرئيسية فيه، ويفتقرون لأي مفهوم للسياسة أو الإدارة أو العمل العام، ولا تحركهم إلا مصالحهم الشخصية ونواياهم الاجرامية، أن يستعيد، مهما فعل، صفته السياسية ويتغلب على طابعه الجنائي.
هناك طريق واحد للخروج من المحنة الراهنة التي لم تعد سورية فحسب، إنما صار لها انعكاسات خطيرة على أمن وسلامة الأقطار العربية الأخرى، هو العمل على تطبيق القرارات الدولية وتحقيق الانتقال السياسي، أي وضع حجر الأساس لنظام جديد يقطع مع سياسة التسلط والعنف الأعمى وثقافة الاستبداد وشرعنة النهب والتمييز الاجتماعي والطائفي، ويرسي قواعد دولة القانون التي كان تدميرها الشرط الأول لاستمرار النظام القائم.
5. ذكرتم في أكثر من مناسبة أن المعارضة السورية انتهت سياسيًّا، وأن الأحزاب السياسية في سوريا أصبحت من الماضي، كيف يمكن للسوريين، خاصة فئة الشباب منهم، تجنُّب أخطاء السياسيين السابقين، وانتزاع زمام المبادرة؟
واضح أن معظم الأحزاب السياسية التي عرفتها البلاد قبل الثورة قد فقدت الكثير من صدقيتها ونفوذها المحدودَين أصلًا، بسبب ما أظهرته من عجز عن مواكبة الانتفاضة وقيادة الثورة كما كان ينتظر منها.
لكن لم تكن هناك حاجة إلى قوى سياسية منظَّمة ومؤهَّلة لحمل المسؤولية وقيادة العمل من أجل اقتلاع نظام السخرة والعبودية وإرهاب الدولة، في أي حقبة سابقة، أكبر ممّا نحتاجه اليوم.
وهذا هو التحدي الموجّه إلى الأجيال الجديدة التي تحررت من قبضة النظام السياسي والفكري، وانفتحت على العالم، وحظيت بهامش واسع من الحريات والتواصل مع الشعوب والثقافات الأخرى لإثراء تجاربها الشخصية والجمعية.
لا يعني ذلك أن العناصر التي شكّلت الأحزاب القديمة لم يعد لها دور، بالعكس سيكون لها الدور الأبرز في بناء القوى السياسية الجديدة بما اختزننه من الخبرة والتجربة الطويلة مع الاستبداد، إذا عرفت كيف تعيد النظر بمنهج عملها السابق وتجدد أفكارها وتربط مع القوى الصاعدة.
وعلينا جميعًا أن ندرك، قدماء ومحدثين، أنه لا يمكن تجنُّب أخطاء الماضي بنسيانها أو التغاضي عنها، إنما فقط بالسعي إلى فهمها والتعرُّف إلى أسبابها.
ومن هنا تنبع قيمة التجربة وفائدتها، وهذا ما يؤمّنه النقد التاريخي الذي من دونه لا يمكن تجاوزها، ولا بناء الرؤية الاجتماعية والسياسية وبرنامج العمل لاستعادة نظام الدولة وإعادة ثقة الناس بها، بعد أن تحولت إلى أداة قهر وإذلال، وتعاونهم معها لتحقيق مصالحهم الخاصة والعامة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا بتطوير منهج النقاش الموضوعي والحوار الهادف، والابتعاد عن أساليب النقد التي سادت في الحقبة السوداء الطويلة الماضية، والتي تعتمد على شخصنة المسائل جميعًا، بما فيها الدولة وسلطتها المركزية، وتعميق روح المنافسة السلبية والتشهير المتبادل، والتركيز على ما يفرّق، وتصيُّد الأخطاء وتضخيمها للالتفاف على المسائل الرئيسية وقطع الطريق على أي حوار جدّي، ومن ثم على تأسيس أي إجماع.
بعبارة أخرى، لن نتقدم على طريق الخروج من المحنة الراهنة، ما لم نجعل غاية الحوار والنقاش البحث في أسباب الخلاف والنزاع الحقيقية أو الموضوعية لتجاوزها نحو فهم مشترك، لا التغطية عليها أو تفجيرها وتسعير العداء للآخر والانتقاص منه بهدف إقصائه أو إزاحته عن الطريق.
مثل هذا الحوار الذي يركز على السمات الشخصية ويتجنّب الخوض في مسائل السياسية الأساسية، بما فيها من مبادئ وخطط وتصورات واستراتيجيات، ولا يرى من الآخرين إلا سلبياتهم، لا يمكن أن يفتح أي أفق جديد، لكنه يدفع المجتمعات إلى الدوران في الحلقة المفرغة وإلى مزيد من التمزق والشقاق، ومن ثم إلى تفاقم الأزمة وتعفّن الأوضاع وهدر الطاقات والإمكانات الكامنة.
6. ماذا بقيَ للسوريين من أمل في تحقيق تغيير حقيقي؟
لا يوجد أمل في الفراغ، ولا يولد الأمل من تلقاء نفسه.
على السوريين المعنيين بإخراج الشعب والبلاد من المحنة الكبرى، التي وضعهم فيها نظام الشخصنة الشاملة للسلطة والدولة، وكل ما له علاقة بالسياسة وقضاياها العامة، الاستراتيجية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، أن يصنعوا هم أنفسهم الأمل.
وصناعة الأمل تبدأ من العمل على تحرير الوعي، وعي الأفراد أولًا والوعي العام ثانيًا، من الأوهام وإرث التجارب الفاشلة التي تبعث اليأس، ومن أشكال التفكير السلبي والتركيز في المقابل على القوى الإيجابية والإمكانات الكامنة والمستقبل المفتوح، وأسباب التضامن والتعاون القائمة والممكنة بين الناس وعند الجماعات المختلفة.
وتتطلب أيضًا العمل على تحرير الإرادة من عوامل الشكّ والإحباط وانعدام الثقة، والتسليم بالأمر الواقع واستمراء الاتكالية، والاعتقاد بالجبرية أو بالخوارق والاستسلام لعلاقات المحسوبية.
ولا ينفصل هذا العمل الأساسي لتحرير الوعي والإرادة عن العمل على بناء الضمير الأخلاقي، المرتبط بتمكين الأفراد جميعًا وتحمل مسؤولياتهم تجاه أنفسهم ومصيرهم وتجاه المجتمع والدولة، والانخراط في الحياة المدنية وعدم ترك المسائل العامة حكرًا لأصحاب المصالح الخاصة الذين سرعان ما ينزعون، في حال تراخي المراقبة الجماعية، سواء كانوا حاكمين أو مسؤولين في أي دائرة حكومية أو اجتماعية، إلى وضع مصالحهم الشخصية قبل المصالح العمومية، ويقدمون حكم الشهوة في سلوكهم على حكمة العقل.
7. كيف يمكن للسوريين الخروج من حالة الركود والمراوحة والاستعصاء، والنهوض بالقضية السورية؟
ينجم الركود عن الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع وانعدام الأمل وضعف الإيمان بالمستقبل وفقدان الثقة بالذات. وبالعكس يحتاج النهوض إلى قلب الطاولة على ثقافة الاستسلام هذه، واستعادة المبادرة من قبل العناصر النشطة والمؤمنة بدورها بمستقبل أفضل، وعدم التسليم بالأمر الواقع كما لو كان قضاءً وقدرًا.
كما يستدعي النظر إلى أبعد من اللحظة الحاضرة وفي ما وراء الواقع السيّئ الراهن، بل البحث في الواقع السيّئ ذاته عن عناصر تغييره والعمل على تفعيلها وتطويرها، من أجل بثّ الحياة في الجسد الساكن وإطلاق ديناميكية جديدة تحرك الأوضاع وتعيد النظر بالبديهيات، وتعمل على خلق روح حية وإرادة متجددة ومن ثم واقع جديد.
هذا هو الدور الذي يقع على عاتق العناصر الفاعلة التي تقوم، مهما كانت قليلة، بتحريك المستنقعات الآسنة وتجديد دورة التاريخ، وذلك بمقدار ما تنجح في مقاومة إغراء اليأس وتتمسّك جذوة الإيمان والثقة بالنفس وقوة الإرادة.
وهكذا تكتشف في الواقع القاتم، مهما اعتراه من فساد وما خيّم في هذه الحقبة أو تلك من ظلام، حتمية التغيير والتجدد، وليس عطالة تاريخية تنفي الحرية وتعفي الإنسان من المسؤولية.
وهذا ما يفسّر استمرار الحياة ويبرر وجودها، ويعطي للفاعلية الإنسانية الروحية والفكرية قيمة ومعنى.