قبل عدة أيام دخلت حركتا حماس وفتح في جولة مصالحة جديدة، وعندما نقول جديدة فبالتأكيد ليست المرة الأولى أو الثانية أو حتى الثالثة، بل المرة الثامنة، حيث كانت الاتفاقيات السابقة تفشل عند عملية التطبيق، ولهذا فإن السؤال المهم: هل هذه المرة كسابقاتها أم هناك شيئًا مختلفًا هذه المرة؟ في البداية فلنلق نظرة على الواقع قبل هذه الجولة من المصالحة.
لقد فازت حركة حماس في الانتخابات عام 2006 وأصرت على رفض الاعتراف بـ”إسرائيل “وهو ما لم تقبله الأطراف الدولية والإقليمية التي كانت أحد أسباب الانقسام الفلسطيني، إضافة إلى الخلاف بين حركتي فتح وحماس، ومنذ العام 2007 تعيش غزة تحت حصار إسرائيلي وإقليمي خانق.
وقد تضاعفت الأزمة في الآونة الأخيرة ووصلت لطريق مسدود بين حماس وعباس، فالحكومة في رام الله والتي استلمت المسؤولية عن غزة مرة أخرى في 2014 بعد تنازل إسماعيل هنية عن منصب رئيس الوزراء في غزة، لم تقم بمسؤولياتها تجاه قطاع غزة وتأمين احتياجاته الأساسية تحت أكثر من حجة، وفي مقابل ذلك شكلت حماس في مارس 2017 لجنة لإدارة شؤون قطاع غزة مما جعل الرئيس عباس يعتبر ذلك مناكفة له ثم شدد بعد ذلك الإجراءات العقابية على غزة، من قبيل تقليص إمدادات الكهرباء وتخفيض رواتب الموظفين وإحالة بعضهم للتقاعد المبكر.
وقد ساءت الأوضاع بدرجة كبيرة لدرجة أن حركة حماس قبلت بالجلوس مع الرجل المفصول من حركة فتح محمد دحلان، حيث عرض دحلان المساهمة في تخفيف الحصار عن غزة بمساعدة دول إقليمية مثل السعودية والإمارات ومصر، وفي مقابل ذلك لوح الرئيس محمود عباس بمزيد من الإجراءات المشددة على غزة.
لا بد من الإشارة إلى عدة نقاط مهمة وهي أن المصالحة حتى الآن لم تتم، رغم أن حماس سلمت الحكومة في رام الله المسؤولية عن غزة بل إن الذي تم هو الاتفاق على المصالحة
عاشت غزة أكثر من 10 أعوام من الحصار و3 حروب كبيرة، ومأساة إنسانية بسبب انقطاع الكهرباء وإغلاق المعابر ومنع دخول المواد الأساسية كالوقود ومواد البناء وتزايد نسبة البطالة وعدم توفر المعاشات حتى لموظفي الحكومة، تخللها انحسار في الأمل بتحسن الوضع الإقليمي بعد تراجع موجات الربيع العربي في مصر وسوريا وخاصة في مصر التي يشكل موقفها عاملاً أساسيًا في واقع القضية الفلسطينية، كما أن حماس حاولت أن تتجنب عداء بعض الدول لها من خلال تأكيدها على أنها لا تتدخل في الشؤون الداخلية، كما أنها طورت وثيقة سياسية لم تشر فيها صراحة إلى العلاقة مع الإخوان المسلمين في الدول العربية الأخرى لكن هذا لم يغير من التعامل العربي مع حماس بشكل جدي.
وبهذا وجدت حماس نفسها لا تستطيع أن تستمر في تحمل المسؤولية بهذه الطريقة التي تنقص من رصيدها لدى أكثر من مليوني شخص في قطاع غزة كما أنها في نفس الوقت تشغلها عن مشروعها الأساسي كحركة مقاومة للاحتلال وتجعل أنصارها في الضفة الغربية تحت وطأة الضغط والتنكيل.
الأوضاع الصعبة التي يعيشها الطرفان أصبحت حافزًا مهمًا نحو المصالحة خاصة، بسبب الضغط الشعبي في قطاع غزة والذي جعل حركة حماس تفضل أن تقدم تنازلات مثل حل اللجنة الإدارية وتسليم المعابر الحدودية والوزارات والمقرات إلى حكومة رام الله
في الوقت نفسه تمر حركة فتح بحالة ضعف كبيرة بسبب تراجع عملية التسوية مع “إسرائيل” واستمرار الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، إضافة إلى أن محمود عباس يعاني من مشكلة في شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني حيث تم انتخابه في العام 2004 . وأيضًا تعاني الحركة من الضعف القيادي داخل الحركة وتنافس أكثر من شخصية على موقع رئاسة السلطة بعد محمود عباس، ومن أبرز هذه الشخصيات محمد دحلان المعروف بارتباطاته الإقليمية وعلاقاته مع دولة الإمارات، والذي بادر أكثر من مرة واستطاع الجلوس مع قيادة حماس في غزة التي بدت مضطرة للجلوس معه، وهذا ما أثار حفيظة رام الله وجعلها تخشى من أن تكون خارج اللعبة، فغيرت اتجاهها عند هذه النقطة وقررت الانخراط في عملية المصالحة لأنها رأت أن التوجه الدولي يريد تسكين جبهة غزة بأي شكل سواء من خلالها أو من خلال التفاهم بين حماس وتيار دحلان.
لقد كانت الأوضاع الصعبة التي يعيشها الطرفان حافزًا مهمًا نحو المصالحة خاصة بسبب الضغط الشعبي في قطاع غزة والذي جعل حركة حماس تفضل أن تقدم تنازلات مثل حل اللجنة الإدارية وتسليم المعابر الحدودية والوزارات والمقرات إلى حكومة رام الله، وقد قال رئيس حماس في غزة والمنتخب حديثًا يحيى السنوار: “لسنا معنيين باستمرار حكم حركة حماس، فهو أتفه من موت طفل واحد في المشفى”، إضافة إلى تزايد تخوفات فتح من المحاولات التي يقوم بها محمد دحلان بعد وضوح الدعم المصري والإماراتي له.
لكن الحافز الأكبر جاء من البُعد الدولي وليس المحلي وتحديدُا بسبب رفع الفيتو الأمريكي والإسرائيلي عن عملية المصالحة وقد قال نائب رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس موسى أبو مرزوق نقلاً عن مسؤول سياسي عربي: “الفيتو الأمريكي الإسرائيلي على المصالحة الوطنية الفلسطينية لم يعد قائمًا حيث تم رفعه”. ويبدو أن إدارة ترامب تحضر لمشروع كبير تظهر أحد مؤشراته في تزايد عمليات التطبيع التي يسمع عنها بين الحين والآخر بين “إسرائيل” وعدد من الدول الخليجية مثل السعودية والبحرين والإمارات، وعلى صعيد “إسرائيل” فسوف تستفيد من تقييد حركة حماس في غزة إذ كانت تتحضر لعملية كبيرة ضد حزب الله في لبنان وسوريا.
مصر تنظر إلى نفسها تاريخيًا على أنها الأحق بترتيب البيت الفلسطيني من دول مثل تركيا وقطر والتي لا تتمتع بعلاقات جيدة معها في هذه الآونة
وقد حاولت أكثر من دولة من بينها تركيا وقطر وروسيا أن تقوم بدور إيجابي في رعاية عملية المصالحة خلال الآونة الأخيرة وعرضت خدماتها وقد توجهت وفود من حركتي فتح وحماس إلى هذه الدول في الشهر الماضي، ولكن يبدو أن الدور المصري ألقى بثقله في هذه العملية، وهيأت له ذلك عدة عوامل منها العامل الجغرافي، فأي مصالحة لا تكون مصر مؤيدة لها سوف تولد ميتة بسبب تحكم مصر بالمعبر الوحيد لقطاع غزة مع الخارج، أما الأمر الثاني فهو العامل الأمني، فمصر تريد تأمين العلاقة مع حماس لحاجتها للأخيرة في تأمين الحدود والمساهمة في العمل ضد تهديد داعش في سيناء
أما الأمر الثالث فإن مصر تنظر إلى نفسها تاريخيًا على أنها الأحق بترتيب البيت الفلسطيني من دول مثل تركيا وقطر والتي لا تتمتع بعلاقات جيدة معها في هذه الآونة، ويكمن الأمر الرابع في رغبة مصر في تكرار دورها في صفقة وفاء الأحرار 2 كمثيلة للأولى التي رعتها في 2011، وخامسًا وهو مهم جدًا والتأخير للأهمية، فمصر تريد أن تظهر نفسها للإدارة الأمريكية أنها حليفة قادرة على ترتيب واحد من أهم ملفات المنطقة وقد أظهرت المخابرات المصرية حرصًا كبيرًا على إنجاح الجولة الحالية من المصالحة وزار رئيس المخابرات المصرية خالد فوزي غزة قبل عدة أيام وقد تم كل ذلك بطبيعة الحال بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي.
كخلاصة لا بد من الإشارة إلى عدة نقاط مهمة وهي أن المصالحة حتى الآن لم تتم، رغم أن حماس سلمت الحكومة في رام الله المسؤولية عن غزة بل إن الذي تم هو الاتفاق على المصالحة، كما يجدر القول إن الظروف والمعطيات هذه المرة بالتأكيد مختلفة وهو ما يميزها عن المرات السابقة، ومن أهم هذه المعطيات المرونة الكبيرة التي أبدتها حركة حماس، فمهارة المناورة السياسية في العمل السياسي والبعد عن التجمد بسبب الأيديلوجيا أصبح أكثر وضوحًا لدى حماس مؤخرًا، ومن أمثلة ذلك تطويرها لوثيقة سياسية جديدة وإن لم تحمل الكثير من التغيير وكذلك مناورتها من خلال تشكيل وحل اللجنة الإردارية والجلوس مع محمد دحلان والذهاب إلى روسيا وتحسين العلاقة من جديد مع إيران مع الحفاظ على العلاقة مع كل من تركيا وقطر.
يمكن القول إن هذه الجولة من المصالحة قد يكون عمرها أطول من سابقاتها خصوصًا إذا ترافقت مع تحسن في حياة أهل غزة ولكنها بمجرد اقترابها من سلاح المقاومة ومن الأمور الجوهرية التي تخص المواجهة مع الاحتلال قد تنهار مرة أخرى
لكن ما زالت هناك عوائق أساسية موجودة قد تعرقل المصالحة وهي أن الثقة بين الطرفين ما زالت ضعيفة ونظرة كل طرف للمشروع الوطني الفلسطيني وهي الأهم ما زالت مختلفة، فالانقسام الفلسطيني لم يكن فقط عمن يدير الحكومة ولكن هذا الانقسام عن غاية وكيفية المواجهة مع الاحتلال.
من أهم الأمور التي يخشى منها كهدف لاحق لهذه المصالحة أنها تهدف لتطويع حماس وسحب سلاحها كما تم الحديث أكثر من مرة، ولكن يبدو أن حماس غير قابلة لمجرد الحديث عن هذا الأمر، ولا تقتصر الخطورة على حماس بل إن قيادة فتح تخشى من مرحلة ما بعد عباس.
ويمكن القول إن هذه الجولة من المصالحة قد يكون عمرها أطول من سابقاتها خصوصًا إذا ترافقت مع تحسن في حياة أهل غزة ولكنها بمجرد اقترابها من سلاح المقاومة ومن الأمور الجوهرية التي تخص المواجهة مع الاحتلال قد تنهار مرة أخرى.
إن الأجواء إيجابية وحماس وفتح أكبر فصيلين وبالتأكيد توافقهما على مشروع تحرر وطني واحد يحتاج لتنازل من الطرفين وهو المسار المثالي لطموحات الشعب الفلسطيني وهو ما يتم العمل على ألا يصطدم بصخرة الواقع المرير قريبًا.