تدخل حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة شهرها السادس تحت عنوان “الأرض المحروقة” في ظل فشل تحقيق أهدافها الـ3 المعلنة، والتي شملت: القضاء على حماس، وتحرير الأسرى، ومحو أي تهديدات مستقبلية من القطاع، وذلك رغم مرور 156 يومًا على تلك المعركة غير المتكافئة وفق أبجديات العسكرية.
عقب 5 أشهر من تلك المواجهات التي خلفت ورائها أكثر من 110 ألف شهيد وجريح ومفقود في صفوف الفلسطينيين، وتدمير قرابة 75% من البنية التحتية لقطاع غزة، وتحويل ما يزيد على 90% من مواطني القطاع لنازحين، لا يزال الاحتلال يبحث عن انتصاره الموهوم في ظل صمود المقاومة وثباتها ميدانيًا حتى كتابة تلك السطور.
نجحت المقاومة عبر أذرعها المتعددة بالشمال والجنوب في تكبيد جيش الاحتلال خسائر فادحة في العتاد والأرواح، فضلًا عما أحدثته من تغيرات جذرية في موازين القوى في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، في ظل خذلان الأشقاء وأبناء العمومة من العرب والمسلمين وصمت وتواطؤ المجتمع الدولي.
يرى العسكريون أن فترة 5 أشهر كافية لتقييم المشهد الميداني، بعيدًا عن البيانات الرسمية الصادرة عن جيش الاحتلال التي يحاول بها حفظ ماء وجهه في ظل حالة الارتباك التي يعاني منها الكنيست، والصدمة التي تخيم على جنرالاته، والاضطرابات النفسية والعصبية التي أصابت جنوده، فضلًا عن الانقسام المجتمعي الداخلي الذي يعتبره البعض المسمار الأقوى في نعش الكيان المحتل.
هل حقق الاحتلال أهدافه؟
بداية هناك بون شاسع بين جيش الاحتلال النظامي الذي يتجاوز عدده نصف مليون مجند، ويمتلك وحدات استخباراتية وعسكرية متطورة، فضلًا عن الدعم الذي يحصل عليه من أقوى جيوش العالم، أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وفصائل المقاومة ذات العتاد البدائي المتواضع والأعداد القليلة. هذا الفارق القادر – نظريًا – على حسم المعركة منذ اليوم الأول، وهو ما كان يؤمل الاحتلال به نفسه بداية الحرب.
لكن وبينما تدخل الحرب شهرها السادس لم تتغير الأمور كثيرًا عن البدايات، فالأهداف الـ3 لم تفارق ثلاجة التجميد، حيث فشل جيش الاحتلال بكل قواته وعتاده في القضاء على حماس التي حتى اليوم ترشق مستوطنات الاحتلال بالصواريخ التي لا تهدأ، وتُبقي أكثر من نصف مليون مستوطن من سكان مناطق الغلاف في جحورهم وداخل ملاجئهم.
"سـ.ـرايا القدس" تنشر مشاهد من حمم الهاون استهدفت بها تحشدات جيش الاحتلال في حي الزيتون pic.twitter.com/HYVHMeBkNA
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 10, 2024
أما الاستخبارات الإسرائيلية، صاحبة الصيت الواسع، بما تمتلكه من قدرات وإمكانيات فنية وتكنولوجية متطورة، ففشلت هي الأخرى في كشف شبكة أنفاق المقاومة، التي تعتمد عليها بشكل محوري في عملياتها التي تستهدف بها جنود المحتل من المسافات صفر، فضلًا عن الفشل في تحديد أماكن تمركز قادة المقاومة، الأمر ذاته مع الأسرى والمحتجزين، فعلى مدار 5 أشهر كاملة فشل الاحتلال في تحرير محتجز واحد لدى المقاومة، وكل من حُرر كان وفق صفقة التبادل المبرمة بين الطرفين نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول الماضيين.
وبعد 156 من الحرب التي زعم فيها الاحتلال أنه سيطر بشكل كامل على مناطق الشمال والوسط في خان يونس، إذ بتلك الادعاءات تتساقط واحدة تلو الأخرى أمام عمليات المقاومة التي لا تزال نشطة في تلك المناطق، وتكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة في صفوف قادته وجنوده وعتاده العسكري.
الفشل سيد الموقف باعتراف الحليف الأمريكي
بعيدًا عن مخادعات وتبريرات الاحتلال بشأن الانتصارات التي يحققها ميدانيًا ويعتمد فيها على أرقام الضحايا من الأطفال والنساء وانتهاج سياسة الأرض المحروقة، فإن الفشل سيد الموقف ميدانيًا بشهادة الحليف الأمريكي ذاته، وهو ما يمكن قياسه على معايير قياس النصر والهزيمة المعتمدة لدى الأكاديمية العسكرية الأمريكية والتي بثتها قناة “الجزيرة”.
من أبرزها شفافية ساحة المعركة، ويقصد بها قدرة الجيوش على جمع معلومات استخباراتية لهندسة المعركة وفقها، كذلك قدرة الجيش على تدمير قدرات الخصم النارية لإبعاد الخطر عن القوات المهاجمة والمتقدمة والتجمعات السكنية البعيدة عن ساحة القتال، هذا بخلاف حاجة الجيوش لمراكز قيادة ميدانية لإدارة العمليات والتنسيق، والإبقاء عليها خارج إطار الاستهداف، باعتماد مراكز قيادة صغيرة يمكن نقلها عند الحاجة.
آلاف الإسرائيليين يتظاهرون أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية وسط تل أبيب للمطالبة بإسقاط حكومة نتنياهو والتوجه نحو انتخابات مبكرة وإبرام صفقة فورية لتبادل الأسرى
| تقرير: فاطمة خمايسي pic.twitter.com/hEkH8imqUp
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 10, 2024
في ضوء تلك المعايير، فإن جيش الاحتلال خلال حربه مع المقاومة على مدار أكثر من 5 أشهر لم يحقق أي من مفردات النصر المتعارف عليها، وهي النتيجة ذاتها التي توصلت إليها ورقة بحثية نُشرت في مجلة “Military Review” التابعة للجيش الأمريكي قبل أيام، وعددت نقاط الفشل التي مُني بها جيش الاحتلال في 5 نقاط رئيسية، 3 منها على المستوى العسكري وهي: انهيار نظرية الحدود الآمنة، وتهاوي صورة الجيش كقوة رادعة، وغياب خطة عسكرية شاملة مفصلة، واثنتان على المستوى السياسي الداخلي وهما: إظهار هشاشة المجتمع الإسرائيلي في تحمل الحروب الطويلة، ووجود قيادات تفتقر للخبرة في إدارة الأزمات.
تعميق الانقسام الداخلي
لم يحيا الكيان المحتل منذ نشأته السرطانية فوق أرض فلسطين حالة تفسخ داخلي وانقسام في جبهته الداخلية كما يحياها الآن، وذلك بفضل طوفان الأقصى الذي مزق الشارع الإسرائيلي وقسمه إلى فُتات متناثر، تتوغل من بين ثناياه عقارب الشكوك وتبادل الاتهامات والانقلاب المجتمعي.
على المستوى السياسي، تعيش نخبة الكيان أسوأ حالاتها على الإطلاق، حيث الشقاق العميق بين اليمين واليسار والوسط، وتأرجح المزاج السياسي بين هذا وذاك، بل وصل الأمر إلى مطالبة كل تيار باستئصال الآخر من المشهد السياسي، محملًا إياه مسؤولية ما وصل إليه الوضع داخليًا من مخاطر لم يعرفها الكيان من قبل.
الموقف ذاته على الجانب المجتمعي، حيث الاحتجاجات التي لا تتوقف، والمظاهرات التي ملأت شوارع تل أبيب وبقية المستوطنات، تنديدًا بإدارة حكومة الحرب لتلك المعركة التي رفع فيها الكابينت سقف التوقعات إلى ما فوق قدراته الميدانية، الأمر الذي تسبب في حالة من الإحباط لدى الشارع الإسرائيلي، خاصة لدى عائلات الأسرى والمحتجزين الذين يتساقط ذويهم واحدًا تلو الآخر على أيدي جيش الاحتلال الذي فشل في تحرير أي منهم حيًا منذ بداية الحرب.
وبلغ التفسخ الذي أحدثه الطوفان حد ضرب العلاقة بين اليهود المتدينين (الحريديم) والحكومة، فبعد سنوات من الوئام والتناغم هاهي الأجواء تتعكر بفعل المقاومة التي أجبرت الاحتلال على تجنيد الجميع بمن فيهم المتدينين المعفيين سابقًا من الخدمة العسكرية بحكم القانون الصادر عام 2015 بدعوى تفرغهم للشؤون الدينية والتعبدية.
وسط بوادر أزمة انقسام سياسي بسبب قانون التجنيد.. كبير حاخامات إسرائيل يهدد بمغادرة البلاد حال إقرار الحكومة إرغام الحريديم المتدينين على الانخراط في صفوف الجيش#حرب_غزة pic.twitter.com/BC5sfXpazj
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 10, 2024
عمقت تلك المسألة الانقسام المجتمعي داخل الكيان المحتل، بين فريق يرى ضرورة تجنيد المتدينين وفقًا لمبدأ المساواة وفي ظل حاجة الجيش لجميع العناصر بعد الخسائر الفادحة التي يتلقاها على أيدي المقاومة، وفريق آخر يرى ضرورة الإبقاء على قانون الإعفاء كما هو، بينما هدد الحاخام الأكبر في الكيان يتسحاق يوسف بأنه إذا أجبرت الحكومة الحريديم على التجنيد فسوف يسافرون جميعًا خارج “إسرائيل”.
ورغم الضغوط التي مارسها – ولا يزال – الاحتلال وحلفاؤه لإخضاع المقاومة لإملاءاته، عبر سلاحي التدمير والتجويع، وما لذلك من تأثير قوي على عمليات المقاومة ونفوذها وشعبيتها الداخلية، فإنها لم ترضخ حتى اليوم، متمسكة بثوابتها التي تستهدف بها إنهاء الحرب بشكل كامل، وعودة النازحين إلى بيوتهم، وإخراج جيش الاحتلال من كل الأراضي التي سيطر عليها عسكريًا بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، رافضة أي هدن مؤقتة لا تتضمن تلك الشروط، معتبرة أن الموافقة على أمر كذلك لا يعدو كونه مجرد تأجيل للموت لما بعد تسلم المحتل لمحتجزيه وأسراه ثم يعاود كرة الإجرام مجددًا كما حدث في الهدنة الأولى.
بحسب مرتكزات العلوم العسكرية، في الحروب غير المباشرة التي تكون بين الجيوش النظامية والفصائل المسلحة، على الجيوش حسم معركة الميدان بشكل كامل لصالحها كون هذا هو معيار النصر الوحيد، بينما يعد صمود الفصائل وعدم استسلامها نصرًا بذاته، وبناء عليه فإن “إسرائيل” تعد خاسرة إن لم تربح، والمقاومة تعد رابحة طالما لم تخسر، وهو ما يوثقه الميدان بعد أكثر من 5 أشهر من القتال.