بدأ حلم توطين اليهود في فلسطين عندما حصل رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا، السير موسى حاييم مونتفيوري، في القرن الـ19، على قطعة أرض صغيرة في القدس، لبناء مستشفى لمرضى الجذام، إلا أنه أقام فوقها مجمعًا سكنيًا واستوطنها مزيج من اليهود الذين أقنعهم مونتفيوري بالهجرة إلى فلسطين، لتتحول هذه البقعة إلى نواة لحي المونتفيوري، أول حي يهودي في فلسطين، يُعرف اليوم باسم “يمين موشيه” أو “مشكنوت شعنانيم”.
هكذا بدأت قصة الاستيطان اليهودي في فلسطين، وبدأت معها فكرة جمع الأموال من كبار الممولين والأثرياء، وحتى من أُسر اليهود وأطفالهم حول العالم، من أجل تمويل المشروع الصهيوني من خلال ما يُعرف بـ”الصناديق الزرقاء”، فما قصة هذه الصناديق؟ وكيف تجمع أموالها؟ كيف أسهمت أنشطتها في تهجير الفلسطينيين وإرساء دعائم المشروع الصهيوني على أرض فلسطين؟ وما حقيقة دورها في مشروع الاستيطان الإسرائيلي اليوم؟
جذور الصندوق الاستيطانية
على مدار 4 عقود قبل الانتداب البريطاني، كانت فلسطين جزءًا من الدولة العثمانية، ورغم الضعف الذي حل بدولة الباب العالي في أواخر أيامها، فإنها ظلت المالك الرئيسي للأراضي في فلسطين، وكانت معظم هذه الأراضي على المشاع تمنحها الدولة للفلاحين للعمل والانتفاع بها دون بيع أو شراء أو سندات للملكية مقابل عائد يدفعه هؤلاء إلى إسطنبول.
استمر الوضع كذلك حتى صدور قانون الأراضي العثماني عام 1859، الذين نص على وجوب تسجيل الأرض باسم مستعملها أو مالكها، وتبع ذلك إصدار العديد من القوانين اللاحقة، فصدر نظام تسجيل الأراضي “الطابو” عام 1861 وملحقاته عام 1867، لتقليص هيمنة الملاك الكبار والعشائر في السيطرة على الأراضي، ثم قانون تملك الأجانب عام 1869 الذي سمح لأول مرة للأجانب سواء كانوا أفرادًا أم مؤسسات أم شركات بشراء الأراضي في فلسطين.
سمحت هذه القوانين لبعض لدول – مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا – بإرسال رعاياها للإقامة في فلسطين وشراء الأراضي وإقامة المستعمرات، كما شجعت الممولين اليهود – أمثال الثري والممول البريطاني مونتفيوري وأحد زعماء الفرع الفرنسي لعائلة روتشيلد المالية اليهودية إدموند روتشيلد، الذي أضفت تبرعاته دعمًا قويًا للحركة الصهيونية خلال سنواتها الأولى – بحيازة قطع أراضٍ بموجب قانون حق الانتفاع العثماني، وتأسست صناديق يهودية حول العالم، خصوصًا لتمويل شراء الأراضي في فلسطين وتسهيل هجرة اليهود إليها.
واحد من أهم هذه الصناديق – التي تعتبر رمزًا أساسيًا للحركة الصهيونية – هو الصندوق القومي اليهودي المعروف بأسماء أخرى “كيرن كييمت”، واختصارًا “كاكال”، وظهرت فكرته إبَّان انعقاد المؤتمر الصهيوني الثاني عام 1898، وطرح وقتها أستاذ الرياضيات الروسي اليهودي هيرمان شابيرا فكرة إنشاء “الصندوق القومي للأراضي”، بهدف جمع الأموال لشراء الأراضي الفلسطينية وإيجاد موطئ قدم لليهود في القدس، لكن الخطوة تأجلت بسبب موت شابير بعد 8 أشهر فقط من إطلاق فكرته.
لم تلق فكرة شابير الاهتمام الكافي إلا بعد 4 سنوات، ففي مؤتمر الحركة الصهيونية 5 ديسمبر/كانون الأول عام 1901، أعلنت المنظمة الصهيونية عن إنشاء “المجلس اليهودي العالمي لشراء الأراضي في فلسطين” لتحقيق هذه الرؤيا الاستعمارية، ودشَّن زعيم الصهيونية الأول الصحفي النمساوي اليهودي تيودور هرتزل التبرع للصندوق اليهودي بمبلغ رمزي، فيما بلغ إجمالي تبرعات يهود العالم خلال هذا المؤتمر 200 ألف جنيه إسترليني.
ذلك الصندوق الصغير رُسمت على جوانبه المصنوعة من الصفيح نجمة اليهود السداسية، وتضمن رسمًا لخريطة فلسطين على أنها “حلم لدولة اليهود تمتد دون انقطاع من وادي الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط”، وصُمم على خلفية زرقاء، ليكون أداة لجمع التبرعات من يهود العالم ومؤيديهم بعدما تنبهت المنظمة الصهيونية مبكرًا لأهمية المال في تطبيق رؤيتها الاستعمارية، وأدركت أنه من دون المال ستظل الخطط مجرد أحلام.
تفرَّع عن هذا “الصندوق الأسود” الآلاف من صناديق التبرعات الزرقاء الصغيرة، والتي عُرفت باسم “الصناديق الزرقاء” – نسبة إلى الخريطة التي تظهر على غلافها باللونين الأزرق والأبيض -، ووُزِّعت في كل مكان تقريبًا، وفي أي مساحة يهودية مجتمعية، بما في ذلك العديد من بيوت اليهود وأنصار “إسرائيل” من أجل جمع التبرعات الشعبية لتمويل “الحلم الصهيوني” المتمثل في تهويد القدس وسرقة الأراضي الفلسطينية وتغيير المعالم، وكان الهدف الأسمى لليهود هو بناء “الهيكل المزعوم” مكان المسجد الأقصى في القدس المحتلة.
تزامن إنشاء الصندوق القومي مع تأسيس حركة الصهيونية لكيان آخر هو “صندوق الاستيطان اليهودي” في عام 1899، ليكون الهيئة المالية الرئيسية للحركة، وتفرعت منه عدة مكاتب وشركات ومصارف حول العالم من ضمنها “مكتب فلسطين” تحت إدارة عالم الاقتصاد والاجتماع اليهودي آرثر روبين الذي كرَّس كل جهوده لتطوير المستوطنات اليهودية، وتولَّى عمليات شراء الأراضي الفلسطينية وزراعتها.
رغم كل هذه الجهود، لم تتجاوز ملكية اليهود للأراضي في فلسطين العثمانية 246 ألف دونم، أي أقل من 1% من مساحة فلسطين الكلية، إثر رفض ملَّاك الأراضي بيعها لليهود، والقيود التي فرضتها الدولة العثمانية بعد أن فطنت للمخططات الصهيونية والمشاريع الاستيطانية.
ذراع “إسرائيل” المالي
ظل الوضع على ما هو عليه حتى عام 1920، عندما جاء الانتداب البريطاني الذي منح المشروع الصهيوني في فلسطين “قُبلة الحياة”، ودفعه بقفزات ضخمة إلى الأمام عندما نقل البريطانيون ملكية الأراضي الفلسطينية عنوة إليهم ثم سهَّلوا منحها لليهود الذين سمحت بريطانيا بقدومهم بأعداد ضخمة لإحداث تغيير ديمغرافي سيخدم مصلحة الصهاينة فيما بعد.
احتضنت حكومة الانتداب المشروع الصهيوني، وأطلقت يد الحركة الصهيونية في فلسطين، وفتحت الباب أمام الصندوق القومي للتوسع في عمليات شراء الأراضي وبناء المستوطنات واستقبال المهاجرين اليهود من أنحاء العالم وتوطين العمالة اليهودية.
أنشأ الاحتلال في الضفة الغربية وحدها 45 محمية طبيعية تشغل 6.2% من مساحتها، لكنها في جوهرها وجه آخر من الاستيطان باللون الأخضر
رغم كل هذا الحشد، ظلت ملكية اليهود لأراضي فلسطين محدودة، فحتى عام 1947، لم يملكوا إلا 434 ألف فدان على مدار 50 عامًا من نشأة الحركة الصهيونية، أي ما يعادل 6.6% من مساحة فلسطين التاريخية، وبلغت حصيلة نشاطات الصندوق امتلاك أراض مساحتها 222 ألف فدان، أي نصف إجمالي ما يملكه اليهود في فلسطين، وهو ما يدحض الأكذوبة التاريخية التي تدَّعي أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود خلال فترة الأربعينيات.
تذكر الباحثة الفلسطينية إلهام شمالي في كتاب “الصندوق القومي اليهودي ودوره في خدمة المشروع الصهيوني” الذي يبحث في أهمية الدور الذي قام به الصندوق كأحد أهم المؤسسات المنبثقة عن المنظمة الصهيونية، أن الصفقات التي عقدها الصندوق قبل عام 1948 أرست دعائم مشروع التوطين اليهودي، إذ لعب الصندوق دورًا مهمًا في نهب أراضي فلسطين قبل النكبة مستندًا إلى سيولة التمويل وتواطؤ القوى الدولية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا.
لكن قرار تقسيم فلسطين “رقم 181” الذي أصدرته الأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 بإيعاز من بريطانيا قلب الأمور رأسًا على عقب بعد أن منح الصهاينة 55% من أراضي فلسطين (3.6 مليون فدان) مجانًا دون بنس واحد، ومُنحت العصابات الصهيونية الضوء الأخضر لتدمير القرى الفلسطينية، وقتل أهاليها أو إجبارهم على الخروج لاجئين إلى الدول العربية المجاورة، ما أدَّى إلى اشتعال الحرب وبداية النكبة.
هذه الخطة كان رأس حربتها يوسف فايتس، الرجل الذي برز اسمه في المراحل الأكثر قتامة من تلك السنوات، فلا يكاد كتاب أو بحث يتحدث عن تهجير العرب في النكبة إلا ويكون له نصيب فيه، فقد كان نشاطه المحموم ينم عن نظرة استعمارية مبكرة تبلورت خلال عمله كمدير إدارة الأراضي والتحريج في الصندوق القومي اليهودي والمسؤول عن شراء الأراضي آنذاك، ما سمح له بوضع خطط تفصيلية للسيطرة على قرى بأكملها قبل حصول التقسيم الفعلي وخروج بريطانيا، تحت مبدأ مفاده: “أرض بور خير من أرض يعمل فيها العرب”.
وكان فايتس مؤثرًا في المؤسسة الصهيونية بأساليبه المبتكرة في طرد العرب، وفعل كل ما يمكن للاستحواذ على ممتلكاتهم خلال الثلاثينيات، ومن أجل ذلك، هندس ما عُرف لاحقًا بـ”لجنة الترنسفير” أو لجنة “التهجير السرية”، وأصبح الأب الروحي لها بعدما كانت تعمل في الظل وبأوامر شفهية من القادة السياسيين والعسكريين، وأثمرت خططه مع نهايتها في نزوح أكثر من 700 ألف فلسطيني واحتلال العصابات الصهيونية لأكثر من ثلثي أرض فلسطين.
تولى الصندوق القومي بعد ذلك مهمة تغطية جرائم الحرب عبر بناء المستوطنات فوق الأنقاض المدمرة، وإعادة تشجير مئات الأفدنة وزراعتها فوق المقابر الجماعية لأصحاب الأرض، وبحلول نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1939، أطلق الصندوق مشروعًا باسم “البرج والسور” بموافقة بريطانية كوسيلة لمواجهة الثورة العربية، بنى من خلاله 10 مدن استيطانية يهودية جديدة في فلسطين.
بعدها جاء دور القوانين والمؤسسات التي شرَّعت سرقة الصهاينة للأرض مثل “قانون تحويل ملكية الأراضي”، الذي “يحظر نقل ملكية أراضي تسيطر عليها الدولة أو سلطة التطوير أو الصندوق القومي اليهودي بالبيع أو بأي طريقة أخرى”، وفي حين يوفر “قانون أراضي إسرائيل” عام 1960، إمكانيات لتفادي الإخلال بهذا الحظر بحيث يمكن لهذه المؤسسات أن تنقل ملكية الأراضي فيما بينها، تُعرض الأراضي للإيجار على اليهود فقط دون المواطنين الفلسطينيين العرب.
خضعت هذه القوانين لإدارة الصندوق القومي، ومُنحت مسؤولية إدارة معظم أراضي فلسطين التاريخية بهدف واحد رئيسي: جلب المزيد من اليهود إلى تلك الأراضي ومنع عودة أصحابها الأصليين ضمن أي اتفاقيات مستقبلية.
استمر هذا المسلسل الدامي حتى بعد هزيمة عام 1967، حينها، ضمت “إسرائيل” شطري القدس إلى بعضهما، مشهرةً المدينة المقدسة عاصمة حصرية لها، ومن ثم أعلنت ممتلكات الفلسطينيين في القدس الشرقية وأجزاء من الضفة الغربية “أملاك غائبين”، لتطلق بذلك أيدي المنظمات الاستيطانية الصهيونية للاستيلاء على هذه الأراضي والممتلكات.
خلال عقد واحد بعد النكسة، صادرت سلطات الاحتلال أكثر من ثلث مساحة القدس الشرقية، وأقامت 30 مستوطنة في الضفة الغربية، واقتطعت ربع مساحتها وحولتها إلى منطقة عسكرية مغلقة لا يُسمح للفلسطينيين بدخولها إلا بتصريح خاص.
استيطان أخضر
بحلول السبعينيات، كان عهد “الصهاينة الأوائل” من مؤسسي الكيان المحتل قد ولَّى، ليصعد حزب الليكود اليميني المتطرف الذي يسيطر على قسم الاستيطان في المنظمة الصهيونية العالمية ودائرة تطوير الأراضي في الصندوق اليهودي، وتبدأ مرحلة جديدة عنوانها الأساسي “الاستيطان”، أُطلقت خلالها يد “كيرن كييمت” في السيطرة على الأراضي بحجة تحويلها إلى محميات طبيعية وحدائق وطنية ثم استغلالها لأغراض استيطانية.
خلال العقود التالية، واصل “كيرن كييمت” دوره في تمويل إقامة المستوطنات عبر تحويل عشرات آلاف الدونمات من الأراضي المحتلة إلى حدائق عامة ومحميات طبيعية وزراعة ملايين الأشجار، وبين الأعوام 1976 و2019، سيطر الصندوق بمليارات الشواكل على أكثر من 65 ألف دونم في الضفة الغربية وفقًا لحركة “السلام الآن”.
يمتلك الصندوق 13% ( أكثر من 2700 كيلومتر مربع) من إجمالي الأراضي في “إسرائيل” داخل الخط الأخضر التي يؤجرها لليهود فقط، ويقع تحت سلطته ما يُقارب 1.5 مليون دونم من الغابات والأحراش، ويزرع أكثر من 100 غابة على أراضي القرى الفلسطينية المدمرة، ويروج لهذه الخديعة تحت شعار “انشر الحب وازرع شجرة” كما لو أنه مؤسسة خيرية هدفها بيئي في المقام الأول.
وفي الوقت الراهن، أنشأ الاحتلال في الضفة الغربية وحدها 45 محمية طبيعية تشغل 6.2% من مساحتها، محميات وأشجار وحياة برية في ظاهرها، لكنها في جوهرها وجه آخر من الاستيطان باللون الأخضر، تمامًا كالعديد من المحميات التي أسسها الصندوق اليهودي في أراضي فلسطين بهدف إخفاء معالم عشرات القرى الفلسطينية التي بُنيت على أنقاضها.
وفي ضوء عمل المنظمة الصهيونية المختصة في تمويل أضخم مشاريع التهويد في جانبي الخط الأخضر، تواصل الصناديق اليهودية في العالم ضخ الموارد المالية إليها، كما تعمل حكومة الاحتلال معها كشريك وذراع منفذ لمخططاتها التوسعية الاستعمارية التي تتخذ من سياسة التشجير أداة استيطانية لطمس معالم البلاد الأصلية.
للمفارقة، لم تُزرع الأشجار، وتُطمس تلك القرى بأموال الكيان المحتل، بل بأموال المساعدات التي يتلقاها الصندوق اليهودي، عبر 22 فرعًا له حول العالم، إضافة إلى أكثر من 50 جمعية خيرية مسجلة في الولايات المتحدة وحدها، تُرسل إلى الصندوق مساعدات سنوية تُقدَّر بـ220 مليون دولار.
هذه الأموال يعتقد أصحابها أنها تذهب لحملات التشجير والمحميات الطبيعية، لكنها في الحقيقة تمول عملية استيطانية واسعة، وتخدم خطة الطرد المنهجي والتطهير العرقي للفلسطينيين، التي يُشرف عليها الصندوق القومي الإسرائيلي.
واليوم، ما تزال صناديق جمع العملات المعدنية التابعة للصندوق القومي اليهودي، والموجودة على طاولات في فصول المدارس العبرية بجميع أنحاء الوجود اليهودي، مزيَّنة بخريطة تصور “إسرائيل” دون الخط الأخضر أو خط الهدنة الفاصل إداريًا بين الأراضي الخاضعة لـ”إسرائيل” والأراضي الخارجة عنها، والذي يميزها، في معظم الخرائط، عن الضفة الغربية المأهولة بالسكان الفلسطينيين التي احتلتها منذ عام 1967.
تمت الإشارة إلى عدم وجود الخط الأخضر على الخريطة – التي تمثل الأماكن التي تقع فيها مشاريع الصندوق القومي اليهودي – في تدوينة بتاريخ 24 ديسمبر/ كانون الأول عام 2013، على موقع “Mondoweiss” المناهض للصهيونية، ويشير غيابه على الخرائط اليهودية الإسرائيلية والأمريكية إلى مطالبة يهودية أوسع بما يسميه الاحتلال “إسرائيل الكبرى”.
وهذه الرسالة السياسية التي يتعرض لها ملايين الأطفال في نظام التعليم الإسرائيلية، لم يترك القائمون عليها أسلوبًا إلا واستخدموه، حتى إنهم ربطوا هذه الممارسات بالتوراة لإجبار اليهود على التبرع للصندوق أينما وجدوا، حيث يعرض الصندوق اليهودي على موقعه الإلكتروني زيارات مدرسية تقودها تميمة “بلو بوكس بوب”، وهو شخصية كرتونية على شكل صندوق أزرق، تظهر على واجهته خريطة تصور “إسرائيل” والضفة الغربية ككيان واحد دون خط أخضر.
الأسوأ لم يأت بعد
كانت المجموعة، التي تجمع 50 مليون دولار سنويًا من خلال ذراعها المالي لجمع التبرعات بالولايات المتحدة، في قلب العديد من الخلافات في السنوات الأخيرة، بسبب نفوذها الواسع، والمساحات الشاسعة الواقعة التي تسيطر عليها، والأموال الضخمة التي تحت تصرفها، خاصة في أعقاب أزمة كورونا وما عانى منه النظام الصحي في “إسرائيل”.
ولفتت أجنداتها وممارساتها الانتباه إلى الجهود التي تبذلها لإجبار القرى البدوية على الخروج من الأراضي المملوكة للصندوق اليهودي، الأمر الذي أدَّى إلى تكرار تجريف البلدات البدوية، كما تعرَّض الصندوق لانتقادات بسبب استمراره في رفض بيع أو تأجير أراضيه لغير اليهود، بما في ذلك المواطنين العرب في “إسرائيل”.
ويواصل الصندوق تأجير الأراضي لليهود فقط، على الرغم من أن قرارات المحاكم الإسرائيلية فرضت صفقة معقدة قام بموجبها الصندوق اليهودي بمقايضة ممتلكاته الحضرية في وسط “إسرائيل” مع دائرة الأراضي الإسرائيلية، مقابل مساحات أكبر من الأراضي غير المطورة في النقب، بما في ذلك عشرات القرى العربية البدوية التي يسكنها نحو 80 ألف فلسطيني، ومع ذلك لا يزال المشترون العرب يواجهون صعوبة في شراء العقارات المنقولة، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة هاآرتس في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وفي حين أن الصندوق معروف بأنشطته التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة مثل زراعة الأشجار، فقد حظي باهتمام أكبر في السنوات الأخيرة بسبب تهجير الفلسطينيين داخل “إسرائيل”، ففي عام 2011، أعلن عضو مجلس إدارة الصندوق سيث موريسون استقالته بعد أن علم أن إحدى الشركات التابعة للصندوق تُهجّر الفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية وتسلمها إلى منظمة استيطانية.
وفي هذه الأثناء، وعلى مدار 14 عامًا، هدمت الحكومة الإسرائيلية قرية العراقيب البدوية في صحراء النقب – التي تشكل 60% من مساحة فلسطين التاريخية – أكثر من مائتي مرة بدعوى أنها بلدة غير معترف بها، وفي محاولة لتطهير الأراضي المملوكة للصندوق من أجل مشروع تشجير يتخفى ورائها، وقد أثار هذا الجهد، الذي يعد جزءًا من مبادرة “مخطط النقب” التابعة للصندوق اليهودي، انتقادات من الناشطين الأمريكيين، وفي بيان لها، أدانت مجموعة الدعوة الحاخامية لحقوق الإنسان “ترواه (T’ruah)” سياسات الصندوق اليهودي.
تعزيزًا للمشاريع الاستيطانية، وضع الصندوق القومي اليهودي الأراضي المصنفة “ج” بالضفة الغربية، التي تسيطر عليها “إسرائيل” أمنيًا وإداريًا، نصب عينيه، في فبراير/شباط 2021، ضمن مشروع تهويدي خطير بميزانية أولية بلغت 1.2 مليار دولار، ما أثار انقسامًا سياسيًا وسط معارضة أحزاب يسار الوسط وممثلي المتبرعين الرئيسيين من اليهود في الخارج.
تماهى المشروع مع نهج الحكومة اليمينية لتوطين المستوطنات القائمة في خطوة هي الأولى منذ تأسيس المؤسسة اليهودية، حيث كانت تتجنب دومًا العمل علنًا، لكن الرئيس الجديد للمؤسسة إبراهام دوفدوفاني، المُنتمي للتيار اليميني الديني، يعمل على تغيير هذه السياسة في الضفة الغربية فوق الطاولة وليس من تحتها.
وبحلول أغسطس/آب من ذلك العام، قاد الصندوق – من خلال شركة “همنوتا” التابعة له – مشروع قيمته 100 مليون شيكل (31 مليون دولار)، ومدته 5 سنوات، لشرعنة أنشطة الصندوق في الأراضي المحتلة، ما يسمح لها بالاستيلاء على أراضٍ فلسطينية خاصة لتوسعة المستوطنات الإسرائيلية وتطويرها، ويستهدف تسجيل 17 ألف مستند لأملاك فلسطين تم الاستيلاء عليها على مدار عقود، من بينها 530 ملف استيلاء على أملاك في الضفة الغربية و2050 ملف استيلاء على أملاك في القدس.
ليست الأراضي المحتلة عام 1967 هدف الصندوق اليهودي، فلأكثر من 120 عامًا، استمر الصندوق في أداء نفس الدور الاستيطاني، وحافظ على جوهر الهدف من إقامته رغم مروره بمراحل تاريخية مختلفة غيّرت من مهامه وأدواره، لكن هدف الاستيلاء على الأراضي في الداخل الفلسطيني وبحكم القانون ظل قائمًا، وأُضيف إليه التمسك بعدم منح الحق بامتلاكها لغير اليهود لتبقى “البلدات العربية” محاصرة وغير قادرة على التوسع مع ازدياد كثافتها السكانية.
وضمن ما يُسمى خطة “إعادة توطين إسرائيل 2040″، يهدف “كيرن كييمت” إلى ترحيل البدو الفلسطينيين من صحراء النقب ومنطقة الجليل في الشمال، وإسكان مليون ونصف مستوطن مكانهما، واستقطاب 150 ألف يهودي في العالم وتوجيههم إلى المنطقتين، اللتين أعلن الصندوق أنه يعمل على جعلهما مركزًا لصناعة وتعليم التكنولوجيا المتطورة، وجعلهما عاصمة “إسرائيل” لصناعة الأسلحة خلال الأعوام الـ20 القادمة.
لكن الهدف النهائي والحقيقي لهذه الخطة هو الاستحواذ والسيطرة والهيمنة على جميع أراضي فلسطين، وإخراج سكانها منها، تحت غطاء مزيف من القرارات والخطط التطويرية والتنموية، وهي في غالبها أذرع وأسلحة إضافية بوجه الفلسطينيين الصامدين في أراضي أجدادهم.