لم تفلح تهديدات قادة الأحزاب الكردية المختلفة ومحافظ مدينة كركوك (المقال) نجم الدين كريم، بتحشيد الشارع في كركوك ضد دخول “الحشد الشعبي” والجيش العراقي إلى المدينة، إذ ادعوا أنهم سيحولون المدينة إلى مقبرة جماعية لمن يدخلها، وحذروا من سرقتها ونهبها كما حصل في مدن الأنبار والموصل وصلاح الدين.
فما هي إلا ساعات على إعلان القوات العراقية بدء العملية العسكرية على محافظة كركوك منتصف ليل الإثنين، حتى بدأت الأخبار تتوارد عن سيطرتها على حقول نفط وغاز في قواعد عسكرية منتشرة في المحافظة ومع حلول منتصف النهار تمت السيطرة على كامل المحافظة بعد السيطرة على مطار كركوك بشكل كامل وقاعدة كي1، وصدر قرار من قبل الحكومة المركزية بتكليف النائب العربي لكركوك راكان سعيد، بإدارة المحافظة بشكل مؤقت.
سرعة السيطرة على المحافظة أثارت تساؤلات عدة، من عدم حصول أي مقاومة للقوات الكردية أو جاء إيعاز أمريكي لأربيل لتسليم المحافظة، وكالة “رويترز” أوردت أن الأكراد وافقوا على تسليم منشآت غاز ونفط الشمال للحكومة الاتحادية وتجنيب تلك المواقع أي قتال بين الطرفين، ونقلت صباحًا إن القوات العراقية انتزعت السيطرة على عدد من المواقع جنوبي كركوك من أيدي القوات الكردية بما في ذلك منشأة غاز الشمال ومصفى بجانب منشأة الغاز وكذلك على الحي الصناعي جنوب المدينة.
انطلقت فجرًا وانتهت عصرًا
تمكنت القوات العراقية مدعومة بقطعات سلاح الجو العراقي وقوات النخبة العراقية و”الحشد الشعبي”، بسط سيطرتها على مناطق عدة في مدينة كركوك وسط إعطاء رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني الضوء الأخضر لـ”البشمركة” بالقتال ضد القوات العراقية، كما طالب محافظ كركوك (المقال) نجم الدين كريم السكان الأكراد بحمل السلاح وقتال الجيش العراقي.
ضباط في الجيش العراقي أفادوا أن الهدف ليس في مركز مدينة كركوك كونها تضم نحو مليون ونص المليون نسمة، فالعملية تستهدف القوات العراقية على أطراف المدينة ومحيطها بالكامل ولاستعادة معسكرات الجيش العراقي السابقة قبل دخول “داعش” في العام 2014 وحقول النفط التي وضع الأكراد يدهم عليها منذ ذلك الوقت.
تهدف حكومة العراق لإيقاف تصدير النفط عبر خطوط النفط المارة بإقليم كردستان العراق، إلى ميناء جيهان التركي، بهدف خنق الإقليم الذي يعتمد على إيرادات النفط بشكل كبير
ترى القوات العراقية أنها ليست بحاجة لإذن من أحد للانتشار في المناطق العراقية وهي تتحرك وفقًا للدستور، وبحسب أحد الضباط فإن التعرض لعمل تلك القوات وعرقلة تقدمهم ستكون له عقوبات قاسية. وكانت الحكومة العراقية اعتبرت أن جلب مقاتلين من حزب “العمال الكردستاني” إلى مدينة كركوك بمثابة “إعلان حرب”. وقالت الحكومة في بيان لها بعد اجتماع ترأسه رئيس الوزراء حيدر العبادي، وحضره كبار القادة العسكريين والأمنيين، إنها ستسعى لبسط سلطتها على كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها.
ويأتي التحرك بعد أيام من التحشيد العسكري على أطراف المدينة، وبدافع من إصرار إقليم كردستان العراق على عدم التراجع عن نتائج الاستفتاء الذي أقر بالانفصال عن العراق، وطلبت الحكومة العراقية من إيران وتركيا بإغلاق المنافذ البرية مع الإقليم إضافة إلى إلغاء الرحلات الجوية إلى مطاري أربيل والسليمانية فضلا عن جملة من العقوبات المالية من بينها حرمان الإقليم من حصته من الميزانية المالية وأمور أخرى.
لم تندلع اشتباكات كبيرة بين القوات العراقية و”البيشمركة” ومع ذلك لم يخل المشهد الدائر هناك من اشتباكات بين الطرفين، فعلى حد زعم التلفزيون الكردي في أربيل فقد أورد أن “البشمركة” قتلت 15 عنصرًا من ميليشيات “الحشد الشعبي” وأحرقت أربع عربات للجيش العراقي في حين أكدت مصادر عسكرية عراقية إيقاع خسائر في صفوف قوات “البشمركة”.
مراقبون أشاروا لدور أمريكي بارز حصل منتصف اليوم لعدم اندلاع اشتباكات بين الطرفين، وهو ما يثير تساؤلات حول ماهية التحول الأمريكي عن دعم الأكراد في هذه المرحلة الحاسمة من عمر دولتهم الوليدة. بينما أشار آخرون إلى دور إيراني مفصلي عبر جماعة جلال الطالباني الموالين لإيران اتهمتها القيادة العامة للبشمركة بـ”الخيانة” عبر إخلاء مواقع هامة في المحافظة وتسليمها إلى الحكومة المركزية بدون قتال. وأكدت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” فجر الإثنين على وحدة العراق ودعت الأطراف العراقية إلى الحوار وتجنب الخطوات التي من شأنها زيادة التصعيد في محافظة كركوك شمالي البلاد.
تنبع أهمية السيطرة على كركوك بسبب الثروة النفطية الموجودة في المحافظة فهي خزان نفطي كبير لا يمكن للحكومة العراقية التخلي عنها بأي حال من الأحوال، والأهم من هذا أن التخلي عن المحافظة لصالح أربيل بمثابة منح شيك على بياض للإقليم يمكنها من الانفصال بشكل مريح.
يما ذكر المحلل السياسي العراقي المعروف هشام الهاشمي، أن هناك صفقة سياسية تمت بين أربيل وبغداد، بحيث تكون كركوك تحت إدارة الحكومة الاتحادية ومركزها تحت إدارة مشتركة بدون أي مواجهات عسكرية وبضوء أخضر من أمريكا.
وأكد المتحدث باسم “البنتاغون”، أدريان رانكين، في تصريح لوكالة “الأناضول”، أن بلاده تعارض استخدام العنف أيًا كان طرفه، وأضاف أن بلاده تحذر من الخطوات التي من شأنها التأثير سلبيًا على الحرب ضد تنظيم “داعش”، أو تؤدي إلى تقويض الاستقرار في العراق. وأشار إلى أن بلاده تؤكد على وحدة الأراضي العراقية، وشدد على أن “الحوار يبقى أفضل خيار لنزع فتيل التوترات القائمة والقضايا العالقة” بين بغداد وأربيل.
كما تسارعت جهود رؤساء البعثات الدبلوماسية العاملة في العراق كالسفارة الأمريكية والألمانية والفرنسية وبعثة الاتحاد الأوروبي لوقف أي تحرك عسكري وشيك من بغداد، إضافة إلى ممارستها ضغوط على أربيل لتقديم تنازلات جديدة داعمة لمبادرة رئيس العراق فؤاد معصوم، التي تتضمن تجميد نتائج الاستفتاء لفترة زمية معينة والبدء بالتفاوض المفتوج بلاد شروط مسبقة وبضمانات دولية بين أربيل وبغداد. إضافة إلى إخضاع كركوك لإدارة مشتركة بين الطرفين المتنازعين وعودة الجيش العراقي إلى مواقعه السابقة قبل دخول “داعش” منتصف يونيو/حزيران 2014 بما فيها منح بغداد السيطرة على حقول النفط وانسحاب البشمركة منها.
إلا أن مبادرة الرئيس لم تُعجب القيادات الكردية التي اجتمعت في السليمانية واتفقوا على موقف سياسي موحد لكل الكتل والأحزاب الكردية، ومنع أي حوار منفرد لأي حزب كردي مع بغداد، وضرورة أن يكون أي وفد تفاوضي مع بغداد يمثل كل القوى الكردية، كما تم الاتفاق على رفض إلغاء نتائج الاستفتاء “باعتبارها تحوّلت إلى حق شعبي لا ملك للقيادة السياسية في الإقليم والعمل على حل سلمي للأزمة مع بغداد من دون أي قيد أو شرط، ورفض الخيار العسكري في حل الأزمة”.
هناك صفقة سياسية تمت بين أربيل وبغداد، بحيث تكون كركوك تحت إدارة الحكومة الاتحادية ومركزها تحت إدارة مشتركة بدون أي مواجهات عسكرية وبضوء أخضر من أمريكا.
ومع حلول منتصف اليوم أصدرت القيادة العامة لقوات “البيشمركة” بيانًا، جاء فيه أن “حكومة العبادي هي المسؤول الأول عن إثارة الحرب ضد شعب كردستان، ويجب أن تدفع ثمنًا باهضًا لهذا الاعتداء”. ووصف البيان ما حدث اليوم بأنه “هجوم من قبل الحكومة العراقية والحشد القوات التابعة لفيلق القدس بالحرس الإيراني، انتقامٌ من شعب كردستان الذي طالب بالحرية، وانتقامٌ من أهالي كركوك الأحرار الذين أبدوا موقفًا شجاعًا. وتابع البيان أنه “للأسف تعاون بعض مسؤولي الاتحاد في هذه المؤامرة ضد شعب كردستان وارتكبوا خيانة تاريخية كبرى ضد كردستان والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل كردستان تحت راية الاتحاد الوطني، هؤلاء المسؤولين أخلوا بعض المواقع الحساسة لقوات الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني بدون مواجهة وتركوا الأخ كوسرت رسول لوحده”.
لماذا كركوك؟
تنبع أهمية السيطرة على كركوك من قبل الحكومة العراقية بسبب الثروة النفطية الموجودة في المحافظة فهي خزان نفطي كبير لا يمكن للحكومة المركزية التخلي عنها بأي حال من الأحوال، والأهم من هذا أن التخلي عن المحافظة لصالح أربيل بمثابة منح شيك على بياض للإقليم حيث سيصبح مصدر قوة يتيح لها الانفصال بشكل مؤكد وبثقة عالية.
يقدر الاحتياطي النفطي الموجود في حقول النفط الوسطى والشمالية والتي تتركز في كركوك بحوالي 13 مليار برميل، أي أنه يشكل حوالي 12% من إجمالي الاحتياطي العراقي من النفط. ويعد حقل كركوك النفطي خامس أكبر حقل في العالم من حيث السعة وهو عبارة عن هضبة يقطعها نهر الزاب الصغير ويبلغ طولها حوالي 96.5 كم في عرض يبلغ حوالي أربعة كم. ويتراوح عمق آبار حقل كركوك بين 450 مترًا إلى 900 متر، ويقدر معدل إنتاج البئر الواحدة 35 ألف برميل يوميًا.
يأتي السيطرة إلى كركوك بسبب إصرار إقليم كردستان العراق على عدم التراجع عن نتائج الاستفتاء الذي أقر بالانفصال عن العراق
بعد سيطرة أربيل على نفط كركوك بعد منتصف العام 2014 بات الإقليم ينتج ما يصل إلى 600 ألف برميل من النفط يوميًا، قرابة الثلثين من حقول كركوك الغنية، وهذه المستويات من شأنها أن تضع الدولة الوليدة في مصاف أعضاء في “أوبك” كالإكوادور وقطر وقد تتخطى نيجيريا من حيث حجم الإحتياطي النفطي، ومن شأنها أيضًا أن تحظى بأهمية استراتيجية بالغة بفضل هذه الثروة والإيرادات وتجذب الشركات الأجنبية للاستثمار بهذا القطاع تفيد بالمحصلة اقتصاد الإقليم.
إضافة إلى ذلك، فإن وزارة النفط العراقية قررت فتح خط أنابيب النفط القديم الذي يصل العراق بتركيا لتصدير النفط عبره إلى موانئ البحر المتوسط من تركيا متجاوزة بذلك الخط الذي تديره حكومة إقليم كردستان العراق. وهذا الأنبوب ينقل النفط من حقول كركوك والحقول النفطية الأخرى في صلاح الدين ونينوى، حيث يبدأ من حقول كركوك ويمر بمنطقة صغيرة قرب قضاء الشرقاط ويسير باتجاه الجانب الغربي لسدة الموصل ونهر دجلة، ثم يصل إلى زمار وفيشخابور ومنها إلى ميناء جيهان في تركيا.
أنبوب النفط الذي يتم إعادة تشغيله بحيث يبدأ من حقول كركوك وينقل النفط إلى ميناء جيهان التركي
وتعد السيطرة على كركوك وإعادة تشغيل الأنبوب إلى تركيا أمر سيادي برأي مراقبين للمشهد العراقي، حيث تهدف حكومة العراق من ورائها لإيقاف تصدير النفط عبر خطوط النفط المارة بإقليم كردستان العراق، إلى ميناء جيهان التركي، وهذا كفيل بخنق الإقليم الذي يعتمد على إيرادات النفط بشكل كبير حيث يصدر قرابة ربع مليون برميل نفط يوميًا من نفط كركوك والحقول الموجودة في الإقليم إلى تركيا. وبسيطرة القوات العراقية على كركوك سيحرم الإقليم من نفط كركوك وإعادته إلى الأنبوب الذي يتم العمل على إصلاحه وهذا من شأنه أن يزيد من مشاكلها المالية والتزاماتها المالية مع الشركات الدولية، وبالنتيجة من عزلتها الدولية في حال أصرت على الانفصال.
وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أكدت فجر الإثنين على وحدة العراق ودعت الأطراف العراقية إلى الحوار وتجنب الخطوات التي من شأنها زيادة التصعيد في محافظة كركوك شمالي البلاد.
كما أن هذا الأمر جاء بدفع من تركيا بدرجة ثانية التي تحتاج لتشغيل هذا الخط وربما أكثر من بغداد نفسها، فمن شأن إغلاق صنبور النفط مع إقليم كردستان، أن يلحق أضرارًا جسيمة لتركيا ولاقتصادها، وإجراء استفتاء انفصال الإقليم عن العراق شكل علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين تركيا والإقليم، فأنقرة ترفض الاستفتاء ونتيجته برمته وتحارب إلى جانب بغداد وإيران لمنع حدوث الانفصال لكي لا تنتقل عدوى الانفصال إلى أكراد تركيا وإيران وبالتالي تهديد أمنهما القومي.
على العموم، لا يبدو من مجريات هذا اليوم أنه كان هناك معركة حقيقية بين القوات العراقية وقوات “البشمركة” وبيدو أن أمريكا لعبت دورًا حاسمًا في هذا السياق، ظهر معالم هذا الدور مع منتصف النهار، ويضاف إلى ذلك الإيعاز الإيراني لقوات جلال الطالباني الكردية الموالية لإيران، وبالنتيجة خسر إقليم كردستان العراق المحافظة الاستراتيجية التي كان يعول عليها كثيرًا وعادت لما كانت عليه قبل منتصف 2014 بيد الحكومة المركزية، والأهم من هذا هو عرقلة قيام الدولة الكردية الوليدة عبر ضرب مكونات الأكراد بعضها ببعض والسيطرة على خزان النفط في كركوك.