ترجمة وتحرير نون بوست
قال جورج أورويل ذات مرة: “في زمن الخداع العالمي، يكون قول الحقيقة عملاً ثوريًا”.
وفقًا لمعظم المقاييس؛ يعتبر الفلسطينيون أقلية صغيرة في العالم العربي، وبالتالي أصغر بشكل لا نهائي في جميع أنحاء العالم، لهذا فمن المثير للدهشة أن نرى الملايين في مختلف أنحاء العالم يخرجون بشكل منتظم للتعبير عن تضامنهم مع النضال الفلسطيني منذ بدء هجوم الأرض المحروقة الذي شنته “إسرائيل” على غزة قبل أكثر من خمسة أشهر، وحتى العالم الغربي، الذي كانت حكوماته تتغاضى بلا حذر وتحرض على مهمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني، لم يكن محصنًاً ضد ظاهرة التضامن الدولي الهائلة هذه، ويبدو أن هناك فجوة خطيرة تتطور بين الشارع الرئيسي والمسؤولين الغربيين حول هذه القضية، ولم يعد من الممكن إنكارها أو تجاهلها بسهولة، وفي الواقع، لم يكن انعكاس هذه الفجوة واضحًا بقدر وضوحها في الولايات المتحدة.
في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2023؛ صوّت مجلس النواب الأمريكي على توجيه اللوم إلى النائبة الديمقراطية رشيدة طليب من ولاية ميشيغان، وهي الأمريكية الفلسطينية الوحيدة في الكونغرس، بسبب خطابها حول القصف الإسرائيلي الوحشي والعشوائي على غزة، وتمت الموافقة على قرار مجلس النواب بأغلبية 234 صوتًا مقابل 188 صوتًا، بدعم معظم الجمهوريين و22 من رفاق طليب الديمقراطيين.
لم يكن التصويت لإدانة طليب مفاجئًا نظرًا لأن عضوة الكونغرس المنتخبة لثلاث فترات كانت منذ فترة طويلة هدفًا للانتقاد بسبب آرائها بشأن انتهاكات “إسرائيل” المدانة بشدة لحقوق الإنسان الفلسطيني ودعوتها إلى “فلسطين حرة”، وبشكل أكثر تحديدًا، فإن ظهورها في تجمع حاشد تحت شعار “من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر” فسره منتقدوها على أنه دعوة واضحة لتدمير دولة “إسرائيل”، وعلى هذا النحو، اعتبرها البعض معادية للسامية.
ومن المفارقات أن إعلان نجل بنيامين نتنياهو – على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي-: “إسرائيل من النهر إلى البحر”، لم يحظ باعتراض يذكر، ولم يتم التنديد بتصريحات نتنياهو الخاصة بأن “إسرائيل” ستبقى مسيطرة على الضفة الغربية وغزة باعتبارها إشارة ينذر بخضوع الشعب الفلسطيني الدائم لـ “إسرائيل”، والواقع أن كلا الإعلانين يتماشيان تمامًا مع ميثاق سنة 1977 الذي أصدره حزب الليكود بزعامة نتنياهو، والذي أعلن أنه “بين البحر ونهر الأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية”.
وعلقت طليب قائلة: “إن فكرة أن انتقاد حكومة إسرائيل هو معاداة للسامية يشكل سابقة خطيرة للغاية، وقد تم استخدامه لإسكات الأصوات المتنوعة التي تتحدث عن حقوق الإنسان في جميع أنحاء أمتنا”، وفي حديثه دفاعًا عنها في قاعة مجلس النواب، قال زميلها عضو الكونجرس الديمقراطي اليهودي، النائب جيمي راسكين: “إن هذا القرار لا يحط من دستورنا فحسب، بل إنه يقلل من معنى الانضباط في هذه الهيئة للأشخاص الذين يرتكبون بالفعل أفعالًا غير مشروعة، مثل الرشوة والاحتيال والاعتداء العنيف وما إلى ذلك”.
وتجدر الإشارة إلى أن التوبيخ يعتبر الخطوة التي تسبق الطرد مباشرة، ويُنظر إليه في الغالب على أنه عقوبة الملاذ الأخير التي تستخدم فقط في حالة سوء السلوك الأكثر خطورة، وأيًا كان الأمر؛ فقد أصبحت طليب ثاني امرأة أمريكية مسلمة في الكونجرس تتعرض للتوبيخ الشديد بسبب انتقاداتها لـ “إسرائيل” هذا العام، وذلك على خطى النائبة إلهان عمر، الديمقراطية عن ولاية مينيسوتا، التي تمت إقالتها في وقت سابق من منصبها بلجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب بسبب تصريحات تم اعتبارها منتقدة لـ “إسرائيل”.
الشعار الذي أوقع رشيدة طليب في المشاكل، هي العبارة التي تدعو إلى الحرية للفلسطينيين “من النهر إلى البحر”، وهو نفس الشعار الذي أدى إلى تسريح مارك لامونت هيل من منصبه كمعلق على شبكة سي إن إن في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، على الرغم من أن الشبكة لم تعترف بذلك صراحةً في ذلك الوقت، وغرد هيل، وهو أستاذ دراسات الإعلام الأميركي من أصل أفريقي في جامعة تيمبل، بعد إقالته: “إن إشارتي إلى “من النهر إلى البحر” لم تكن دعوة لتدمير أي شيء أو أي شخص، لقد كانت دعوة لتحقيق العدالة، سواء في “إسرائيل” أو في الضفة الغربية/غزة، لقد قال الخطاب بوضوح شديد وبشكل محدد هذه الأشياء، وأضاف: “أنا أؤيد الحرية الفلسطينية، أنا أؤيد تقرير المصير الفلسطيني… أنا لا أؤيد معاداة السامية، أو قتل الشعب اليهودي، أو أي من الأشياء الأخرى المنسوبة إلى خطابي، لقد أمضيت حياتي في محاربة هذه الأشياء”.
في الوقت نفسه، وعلى النقيض تمامًا من موقف هيل الأخلاقي والمبدئي بشأن فلسطين، سيسجل التاريخ الموقف المذل لمعظم أعضاء كتلة الكونجرس السود الذين، باستثناء عدد قليل من النفوس الشجاعة ذات الضمير الحي، كانوا مثالًا للانتهازية السياسية المطلقة فيما يتعلق بمسألة الاحتلال العسكري الإسرائيلي والفصل العنصري المستمر منذ عقود، وليس من المستغرب أن يكون هؤلاء الأعضاء الشجعان للغاية في الكونجرس (أي جمال بومان، وسمر لي، وكوري بوش) إلى جانب بقية ما يسمى بالفرقة، بما في ذلك طليب وعمر، هم الذين أصبحوا الآن مستهدفين للهزيمة على يد أيباك في الدورة الانتخابية الحالية.
وبالتفكير في الأمر؛ حيث يمكن أيضًا تحديد الأمور على النقيض من ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: “ما هو البديل المنطقي للدعوة إلى حرية الفلسطينيين من النهر إلى البحر؟” هل هو الوضع السائد الحالي المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي الوحشي، والحصار اللاإنساني، ومذابح المستوطنين، والاستيلاء على الأراضي، والاختطاف والتعذيب، والاغتيالات المستهدفة، وهدم المنازل، وكلها محاطة بحالة دائمة من الفصل العنصري الخانق؟
والواقع أن حكومة الولايات المتحدة ليست راضية عن ذلك فحسب؛ لقد كانت، إلى جانب معظم الدول الغربية، المسهّل والداعم الأساسي لإسرائيل سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، مع تجاهل الظروف اللاإنسانية التي لا تطاق التي يعاني منها الفلسطينيون في ظل الحكم العسكري القمعي الإسرائيلي، بل إن الولايات المتحدة بدت دائمًا أكثر انزعاجًا كلما بذل الفلسطينيون الذين يعيشون في ظل هذه الظروف التي لا تطاق أقل جهد لقلب وضعهم الراهن الساحق، سواء كان ذلك سلميًا أو غير ذلك.
وبالنظر إلى الحقائق المروعة على الأرض في فلسطين، وعدم وجود أي انفراج في الأفق، يتبادر إلى الذهن سؤال افتراضي محير يتعلق بما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي: لو أن السود في جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري شنوا هجومًا عنيفًا على نظام الفصل العنصري الأبيض، على غرار الهجوم الذي شنته حماس، فهل كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون سيحشدوا ويرسلوا على الفور أساطيلهم المكونة من سفن هجومية وحاملات طائرات متعددة، لحماية النظام الأبيض في جنوب أفريقيا بينما يعلن في الوقت نفسه أن مرتكبي الجرائم من السود في جنوب أفريقيا إرهابيون لا يمكن إصلاحهم؟
وعلى الرغم من عدم حاجته إلى إجابة؛ إلا أن هذا السؤال يوفر فرصة للتفكير لأنه يسلط الضوء على العلاقة التكافلية بين الغرب و”إسرائيل”؛ حيث تعمل الأخيرة في الأساس باعتبارها الموقع الاستعماري الغربي الأول في الشرق الأوسط الغني بالنفط وذي الأهمية القصوى.
ومع ذلك، لتوضيح هذه المسألة، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن المؤتمر الوطني الأفريقي لم يخجل من استخدام العنف ضد نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي – الذي حافظ، حتى النهاية، على علاقات وثيقة للغاية مع “إسرائيل” – وهي حقيقة أدت إلى تصنيف حزب المؤتمر الوطني الأفريقي كمجموعة إرهابية بينما حصل نيلسون مانديلا على لقب الإرهابي من قبل الحكومة الأمريكية.
وفي واقع الأمر؛ بعد فترة طويلة من توليه الرئاسة في 10 أيار/ مايو 1994، ظل مانديلا على قائمة الولايات المتحدة لمراقبة الإرهاب حتى أصدر مجلس النواب الأمريكي قرارًا بإزالة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من قائمة الإرهاب في سنة 2008. وبعد إطلاق سراحه من السجن البطولي الذي دام 27 سنة على يد النظام الأبيض في جنوب أفريقيا، أعلن مانديلا بوضوح: “نحن نعلم جيدًا أن حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين”.
ومع ذلك، فإن الحقيقة التي لا مفر منها هي أن “إسرائيل” مُنحت تصريحًا لفترة طويلة لجميع انتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني، وتم اعتبارها دولة فوق القانون على الرغم من إظهارها مرارًا وتكرارًا ازدراءً صريحًا للاتفاقيات الدولية والقوانين الإنسانية، وليس للاتفاقيات الدولية والقوانين الإنسانية. وأذكر تجاهلها الصريح للعديد من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين والحقوق الفلسطينية. وبالإضافة إلى التمتع بالغطاء السياسي الأمريكي والغربي؛ تمكنت “إسرائيل” من حماية نفسها من الانتقادات من خلال التلاعب بلا خجل بذكرى المحرقة؛ حيث زعمت أنها تحظى بدعم اليهود في جميع أنحاء العالم.
ولكن في كلا الادعاءين تواجه “إسرائيل” اليوم وجهًا لوجه عدد لا يحصى من اليهود، وخاصة أولئك الذين كان أفراد أسرهم ضحايا المحرقة، والذين شعروا بالفزع الشديد إزاء لجوء “إسرائيل” إلى المحرقة لتبرير فظائعها ضد الشعب الفلسطيني. وقد أصبح مما لا جدال فيه أن “إسرائيل” لا تمثل جميع اليهود، كما أنها لا تتمتع بدعم وموافقة يهودية شاملة. وإذا كانت هناك حاجة إلى أي دليل على ذلك، فما علينا إلا أن نشهد الاحتجاجات المتواصلة لآلاف اليهود في الولايات المتحدة وأوروبا الذين احتشدوا مؤخرًا من أجل الحرية الفلسطينية وضد المذبحة الإسرائيلية المستمرة في غزة.
علاوة على ذلك؛ في استخدامها للعنف ضد الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، لجأت “إسرائيل” دائمًا إلى التذرع بحاجتها إلى الأمن. ومع ذلك، في هذه الحالة، يبدو من المفارقة إلى حد ما أن الدولة، التي تأسست على الفرضية الصهيونية والوعد بأنها ستكون ملاذًا آمنًا لجميع اليهود، تصادف أنها أخطر مكان يمكن لليهود أن يتواجدوا فيه على الإطلاق. وفي الواقع؛ منذ تأسيسها، قُتل عدد من اليهود في “إسرائيل”، بفارق كبير، أكثر من أي مكان آخر في العالم.
ومن عجيب المفارقات هنا أنه إذا كانت “إسرائيل” تشعر بهذا التهديد من جانب السكان المدنيين الذين يعيشون تحت احتلالها الوحشي الذي دام عقودًا من الزمن، فلماذا رفضت على نحو مستمر السماح بدخول قوة دولية لحفظ السلام إلى الأراضي المحتلة كلما طالب الفلسطينيون البائسون تحت الاحتلال بإرسال قوة دولية؟ والحقيقة هي أن “إسرائيل” اختارت دائمًا التوسع الإقليمي بدلًا من الأمن، وبالتالي رفضت جهود السلام التي لا حصر لها وقرارات الأمم المتحدة التي تعرض عليها الأمن في مقابل إنهاء احتلالها.
والآن، إذا نظرنا إلى هذا من منظور مختلف، يتساءل المرء ما إذا كان من الممكن حتى أن يكون لخوف “إسرائيل” وانعدام أمنها علاقة بشعورها الكامن بالقلق إزاء تجريدها من أراضي الفلسطينيين وإنكارها الدائم لأي مخالفات ضدهم؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فقد يساعد هذا في الواقع في تفسير إصرار “إسرائيل” على ضرورة أن يعترف الفلسطينيون المحرومون ليس فقط بوجودها؛ بل وأيضًا بحقهم في الوجود.
ولهذا السبب، وبعد كل هذه السنوات من التهرب من الواقع، لم يجبر الإسرائيليون بعد على الاعتراف بدورهم الأساسي في الخطيئة الأصلية، النكبة، والتي أدت في سنة 1948 إلى التهجير المتعمد واستبدال السكان الفلسطينيين الأصليين بمستوطنين يهود جدد. ومن المؤكد أن “إسرائيل” لا تزال في حالة إنكار جدي لتقطيع أوصال المجتمع الفلسطيني في السابق فحسب؛ بل إنها تحاول إحداث قطيعة جديدة داخله مرة أخرى الآن في غزة.
وأيضًا؛ مثلما حدث في الهجرة الفلسطينية القسرية الأولية في سنة 1948، تعاونت الولايات المتحدة مرة أخرى مع نفس المنفذين الاستعماريين الأوروبيين البيض لتسهيل الكارثة الحالية التي تتكشف في فلسطين المحتلة. وبينما تواصل “إسرائيل” شن حرب الإبادة الجماعية ومخططات التطهير العرقي في كل من غزة والضفة الغربية، ينشغل المناصرون لـ “إسرائيل” بتشتيت انتباه العالم من خلال نبش الشعارات، زاعمين أن المطالبة بالحرية للفلسطينيين “من النهر إلى البحر” هو بمثابة دعوة للقضاء على اليهود في “إسرائيل”.
لذا، في الوقت الذي يجد فيه الأشخاص العاديون ذوو النوايا الحسنة والشخصيات العامة الشجاعة أنفسهم مضطرين إلى الدفاع عن إنسانيتهم ونزاهتهم في مواجهة مثل هذه الاتهامات القاسية والخبيثة؛ فمن المنطقي أن نتذكر كلمات المهاتما غاندي في هاريجان في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1938 في فيما يتعلق بقضية فلسطين:
“إن فلسطين ملك للعرب بنفس المعنى الذي تنتمي به إنجلترا للإنجليز أو فرنسا للفرنسيين. ومن الخطأ وغير الإنساني فرض اليهود على العرب. إن ما يجري في فلسطين اليوم لا يمكن تبريره بأي ميثاق أخلاقي… من المؤكد أنه سيكون جريمة ضد الإنسانية التقليل من العرب الفخورين حتى يمكن استعادة فلسطين لليهود جزئيًا أو كليُا كوطن قومي لهم”.
المصدر: موندويس