عام 1954 تنبأت جماعة دينية في شيكاغو أن العالم سينتهي في الواحد والعشرين من شهر كانون الأول من ذلك العام بفعل الفيضانات، الحدث الذي دفع عالم النفس والاجتماع الأمريكي ليون فستنجر واثنين من مساعديه للانضمام إلى تلك الجماعة لدراسة سلوكيات وأفكار أفرادها قبل وبعد ذلك التاريخ، الذي انتهى دون تحقق نبوءتهم.
ما رآه فستنجر أنّ مرتادي الطائفة واجهوا فشل النبوءة بنوعٍ من عدم الارتياح، إلا أنهم مالوا لشرح وإعلان أنّها كانت حقيقية، ولكنّ عبادتهم أنقذت العالم من الفيضانات. وهو ما استدعى فستنجر إلى استنتاج أنّ الأفراد يشعرون بالتنافر عندما تتم مواجهتهم بمعلومات تتعارض مع معتقداتهم أو أفكارهم السابقة، وهذا التنافر يولد توترًا وضعطًا نفسيًا يسعى لإزالة التنافر، ويتم ذلك بتغيير المعتقد القديم أو رفض المعلومات الجديدة، وإذا لم يتم خفض هذا التنافر من خلال تغيير المعتقد القديم، فيمكن خفض التنافر واستعادة التناغم مرة أخرى من خلال ادّعاء سوء الفهم أو رفض ودحض المعلومات الجديدة، والسعي للحصول على دعم من الآخرين الذين يشتركون في نفس المعتقدات، ومحاولة إقناع الآخرين بها.
وبكلمات أخرى، عقل الإنسان لا يحتمل الحيرة طويلًا ولذلك فهو يحاول مسرعًا أن يتخلص من اضطراباته وتناقضاته كي يعود إلى طمأنينته وراحته، أو ما يشار إليه في علم النفس بمصطلح “التنافر المعرفي”، وهو حالة من التوتر أو الإجهاد العقلي أو عدم الراحة التي يعاني منها الفرد حينما يحمل في نفس الوقت اثنتين أو أكثر من الأفكار أو المعتقدات أو القيم المتناقضة، أو حين يقوم بسلوكٍ يتعارض مع أفكاره ومعتقداته، أو في حال واجه معلومات جديدة تتعارض مع ما يحمله. وهو ذات المعنى الذي أشار إليه الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته 1984 تحت مسمّى “التفكير المزدوج” أو “Doublethink“، وبات لاحقًا أحد مصطلحات علميْ النفس والاجتماع.
كيف يتدخل التنافر المعرفي في تعاملنا مع مواقع التواصل الاجتماعي؟
توفّر مواقع التواصل الاجتماعي منصّات جاهزة من المعلومات المختلفة في كافة المجالات السياسية والدينية والفكرية والمجتمعية والأخلاقية والفنية والسينمائية والتسويقية والفردية وغيرها الكثير، وبالتالي يجد المستخدم نفسه وسط عالم هائل من الآراء والمعلومات والقضايا التي قد تكون في أغلب الأحيان متضاربة ومتناقضة.
تعتمد قدرتنا على التفكير وفهم المعلومات ومعالجتها واتخاذ القرارات بشأنها على العمليات المعرفية والإدراكية التي يقوم بها الدماغ وتختلف من شخصٍ لآخر ومن حالةٍ لأخرى، ونظرًا للكمّ الهائل من المعلومات التي يتعرّض لها الدماغ بتصفحه لمواقع التواصل الاجتماعي وكل ما تحتويه والتي قد يولي لها الشخص اهتمامًا جزئيًا، يفقد الدماغ قدرته على التفكير بكفاءة وفعالية، فيدخل في حالةٍ من التعب والإجهاد والتوتر.
يقع مستخدم تلك المواقع في حالةٍ من التنافر المعرفيّ نتيجة إدراكه بأنّ كلّ تلك المعلومات التي يراها أمامه لا تعنيه، وبالتالي لا يستوجب عليه أن يتخذ منها موقفًا أو يبدي فيها رأيًا أو يكوّن عنها فكرة من جهة، وبين ضغط تلك المواقع ومستخدميها الآخرين عليه بلزوم إبداء رأيه كما يفعل غيره وإلا سيصبح مستبعدًا غير منتمٍ لدائرة أو مجموعة.
عقل الإنسان لا يحتمل الحيرة طويلًا ولذلك فهو يحاول مسرعًا أن يتخلص من اضطراباته وتناقضاته كي يعود إلى طمأنينته وراحته
وكما ذكرنا في المقال السابق، عملت مواقع التواصل الاجتماعي على خلق ما بات يُسمى بالخوف من الاستثناء، أو “Fear of Missing out“، وبالتالي أصبح مستخدمو هذه المواقع في قلقٍ دائم من أن يكونوا وحيدين أو غريبين، وهذا ما يدفعهم دومًا للبحث عن مجموعة ينتمون إليها ويؤمنون بأفكارها ويصدّقون ما تنشره وما تقوله، دون عناء التفكير أو التساؤل عن مدى صحته أو منطقيته أو عقلانيته.
الرغبة في الاطّلاع من جهة والخوف من الاستثناء من جهةٍ أخرى ولّدت لدى الأفراد ترددًا كبيرًا في التميّز عن حشود مستخدمي المواقع الاجتماعية، والناجم أصلًا عن خوفهم من أن يفوتهم شيئًا ما أو موضوعًا معيّنًا دون بقية الأشخاص في محيطهم، وهذا يقودنا إلى استنتاج أنّنا نتابع الأفراد الأكثر شعبيةً وشهرةً على تلك المواقع لأنّ هذا هو ما يفعله الجميع أو الأغلبية.
تميل عقولنا كبشر للبحث حولها على من يساعدها في الحصول على توجيه والتأكد من أنها تعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ في الأوقات المختلفة، لذلك يبحث الأفراد عمّن يتابعونه ويساعدهم في بناء الأفكار وتكوين الآراء واتخاذ المواقف في القضايا التي تُثار على تلك المواقع، وبالتالي يُشعر نفسه أنه على اطّلاع جيّد وذي رأيٍ مستقل، وهي الطريقة التي يلجأ إليها دماغه للتخفيف من تنافره المعرفيّ.
نحن كُسالى ونميل للكسل في متابعاتنا!
يتبع العقل البشريّ في تفكيره نظامين معرفيين اثنين: أحدهما سريع والآخر بطيء، وفي حين يتعامل النظام السريع مع الملاحظات اللاواعية البديهية، أي مع المهارات الفطرية أو الأساسية، يختصّ النظام البطيء بالتعامل مع الملاحظات الواعية والمنطقية الناتجة أساسًا عن المهارات المُكتسبة من تجاربنا الحياتية. وبينما يحدث النظام السريع بشكل تلقائي، يحتاج النظام البطيء إلى الكثير من الاهتمام والتركيز.
يشتمل العقل البشري على حالتين من الإدراك وفقًا لهذين النظامين المختلفين، أولهما ما يُسمّى بالسهولة المعرفية، أي الحالة التي يكون فيها العقل حينما يشعر أن الأمور تسير على ما يرام، لا تهديدات ولا أحداث تستدعي الانتباه وتركيز الجهد تجاهها، وهنا يكون النظام السريع هو المسؤول والنظام البطيء في وضع الخمول.
تعمل مواقع التواصل الاجتماعي على تغذية وتعزيز تحيّزاتنا التأكيدية بطرقٍ مختلفة، وهو ما يفسّر لماذا يميل الأفراد إلى تصديق الكثير مما يقرؤونه على تلك المواقع
على النقيض تمامًا من السهولة المعرفية، يعتمد التوتر المعرفي على النظام البطيء، أي مع الملاحظات الواعية والمنطقية التي يتخذها الأفراد بعناية كبيرة، لكنها في الوقت نفسه تستغرق وقتًا أطول ومزيدًا من الجهد والتركيز.
ولو نظرنا إلى الطريقة التي نستخدم بها مواقع التواصل الاجتماعي لوجدنا الآتي: تصفح سريع للمشاركات والحسابات، وتمرير سريع وبدون تركيز بين المنشورات أو التغريدات، أي أننا في معظم الوقت نكون في حالة من الارتياح والاسترخاء، حتى إن خضنا نقاشا أو كتبنا تعليقًا هنا أو هناك، ننظر إلى الأمر على أنه وضع سهل مريح لا يتطلب الجهد أو بذل طاقة كبيرة، وهذا ما قد يدفعنا لمتابعة صفحات المشاهير وتتبع أخبارهم وتفاصيل حياتهم، فنحن نبحث دومًا عن ما يجعل عقولنا في راحةٍ سلسة، دون عناء تحليل المنشورات والتفكير فيها وقياسها من عدة جهات.
مع مرور الوقت، يدخل الدماغ في حالةٍ من الكسل أو عدم الكفاءة في العمل، وبالتالي يصبح تصديق كلّ ما يقرأ في صفحات أولئك المشاهير هو الخيار الأول وقد يكون الوحيد أمامه، نظرًا لميله لعدم بذل الجهد والتعامل براحة مع ما يُنشر ويُقال.
نحن نبحث عن الحقائق التي توافق وجهات نظرنا
غالبًا ما نقوم بتجاهل أو عدم الانتباه إلى الحقائق والمعلومات التي لا تتناسب مع أفكارنا ومعتقداتنا، نظرًا لأننا نرغب دومًا في أن نكون على حقٍ ونشعر بالراحة لتفكيرنا وشعورنا بنفس الطريقة التي تفكر بها وتشعر “المجموعة” التي ننتمي إليها.
يٌعرف ذلك في علم النفس بمصطلح “الانحياز التأكيدي”، والذي يشير إلى أنّ أفكارنا ومعتقداتنا تستند غالبًا إلى الإيمان بالمعلومات التي تدعم أفكارنا المتواجدة لدينا من قبل، كما أننا نميل إلى تجاهل المعلومات التي تتحدى وتعارض معتقداتنا القائمة.
مع مرور الوقت، يدخل الدماغ في حالةٍ من الكسل أو عدم الكفاءة في العمل، وبالتالي يصبح تصديق كلّ ما يقرأ في صفحات أولئك المشاهير هو الخيار الأول وقد يكون الوحيد أمامه
تعمل مواقع التواصل الاجتماعي على تغذية وتعزيز تحيّزاتنا التأكيدية بطرقٍ مختلفة، وهو ما يفسّر لماذا يميل الأفراد إلى تصديق الكثير مما يقرؤونه على تلك المواقع، خاصة حسابات المشاهير وما يتعلّق بهم، حتى في ظلّ وجود الحقائق التي تثبت عدم صحة ما يتناقلونه أو هزليّته وتفاهته.
فأنتَ حينما تحبّ أحدًا أو تؤمن بما يحمله من أفكار ومعتقدات وآراء، قد تبقى -بفعل الانحياز التأكيدي- تعتقد أنّه على حقٍّ دومًا، وتتجاهل فكرة تكذيبه أو تهرب منها، نظرًا لأنّ دماغك يميل إلى حماية ما لديه من إيمان ويقين بما يعتقد أنه “مسلّمات” لا تخضع للنقاش ولا تستحمل إعادة النظر فيها.