تضيق الأحوال في سجن رومية اللبناني الذي يضم عددًا من السوريين المعارضين لنظام الأسد، إذ أبدوا استعدادهم لعملية انتحار جماعي احتجاجًا على قرارات ترحيلهم فُرادى إلى سوريا، ما دفع حقوقيين وصحفيين لإطلاق حملة إعلامية تسلّط الضوء على مخاوفهم من الترحيل.
آخر محاولات الانتحار شهدها السجن الواقع في رومية شرق بيروت، في 2 مارس/آذار الحاليّ، احتجاجًا على تسليم سجين سوري لنظام الأسد، وأكد مصدر من سجن رومية لـ”نون بوست”، أن أكثر من 10 سجناء وصلوا إلى شرفة بساحة السجن و4 منهم علّقوا مشانقهم، لكن زملاءهم وصلوا إليهم وأسعفوا 3 منهم إلى المستشفى، مشيرًا إلى أن أكثر من 200 سوري معارض مستعدون للانتحار على ألا يعودوا لسجون بشار الأسد.
أربعة /4/ سجناء سوريون يحاولون شنق أنفسهم في سجن رومية السيئ السيط في لبنان وحالة رعب تدبُّ بين السجناء الباقين بعد تلقيهم أخبارًا عن تسليم سجين سوري معارض للنظام السوري قبل أيام المعتقلون السوريون الذين حاولوا شنـق أنفسهم تم نقلهم إلى الطبيب المختص للعلاج، بعد تلقيهم وعودًا pic.twitter.com/2FlVvs07dM
— Nizar Alsamail (@Niza54014881) March 3, 2024
السوريون يوجّهون مناشدة إنسانية
وجّه سجناء سياسيون سوريون مناشدة إنسانية عبر “نون بوست” مفادها: “نطالب كل المنظمات الحقوقية والدولية المعنية بحقوق الإنسان، أن تساعدنا للعودة إلى عائلاتنا التي تنتظرنا في لبنان عبر المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين، بينما مطلب نقلنا إلى الشمال السوري عبر اتفاقية تسوية الذي ننادي به منذ عامين لم نعد نريده كونه لم يلقَ استجابة”.
مخاوف ترحيل السجناء السوريين الموقوفين بتهم إرهاب وانتماء لعصابات مسلحة، ازدادت عندما طلب رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي باجتماع وزاري في 26 أبريل/نيسان 2023، من وزير العدل “البحث في إمكانية تسليم الموقوفين والمحكومين للدولة السورية بشكل فوري”.
لكن مجموعة من سجناء رومية أكدوا لـ”نون بوست” أن شبح الترحيل إلى سوريا يرافقهم منذ لحظة الاعتقال، فخلال مرحلة التحقيق يترافق التعذيب الجسدي بتعذيب نفسي يجبرهم على الاعتراف تحت الإكراه والتهديد بالترحيل، لافتين إلى أنَّ الترحيل كان دون قرار قضائي وأصبح بقرار قضائي منذ نحو عام، بينما تزيد أخبار ترحيل السوريين من القلق والمعاناة للسجين وأهله.
وفي 29 أبريل/كانون الثاني 2024، وثق مركز “وصول/ACHR” لحقوق الإنسان 1080 اعتقالًا تعسفيًا لسوريين في لبنان، رُحل منهم 763 شخصًا قسريًا إلى سوريا خلال العام 2023، كما أشار المركز إلى مصير المرحلين إلى سوريا من اعتقال وإخفاء قسري، والانتهاكات التي تمارسها السلطات اللبنانية والسورية بحقهم.
5 أسباب رئيسية للمعاناة أولها الاكتظاظ
يُعدّ الاكتظاظ في سجن رومية أبزر أسباب معاناة النزلاء فيه، وفي أعقاب الأحداث الأخيرة، زار نقيب المحامين في بيروت، فادي مصري، سجن رومية يوم 9 مارس/آذار 2024 ليبحث مع قائد سرية السجون المركزية العميد عبد الناصر غمراوي، إمكانية العمل للحدّ من الاكتظاظ الهائل داخل السجون وتسريع سير العملية القضائية ومعالجة مشاكل سوق الموقوفين والنقص في عدد قوى الأمن.
وأكد تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” في 23 أغسطس/آب 2023، أن الطاقة الاستيعابية لسجن رومية هي 1200 سجين، لكنّه يضم حاليًّا نحو 4 آلاف، وأوضح سجناء سوريون لـ”نون بوست” أن الحياة في السجن المكون من 4 أبنية متشابهة عبارة عن غرفة مخصصة لشخص بسرير واحد لكنها تأوي 7 أفراد.
وفي المرتبة الثانية يأتي شح الأغذية، فالطعام المقدم من إدارة السجن غير كافٍ وغالبًا ما يكون غير صالح للاستهلاك لما يحتويه من حشرات وقوارض، حسبما أكد السجناء، وأضافوا أنهم يعتمدون على شراء الأطعمة من حانوت السجن، الذي تتضاعف أسعاره إلى 5 أضعاف السعر خارج السجن.
أمّا الرعاية الصحية فهي معدومة، فخلال الأسبوع يأتي طبيب لمرة واحدة ولساعة واحدة لا تكفي أحدًا، فالسجين يُشخّص مرضه وتصف له صيدلية السجن التي يناوب فيها عنصر من قوى الأمن الداخلي الأدوية على نفقة أهله، فكانت سابقًا طبابة السجناء على نفقة الدولة مع مساهمة من منظمة كاريتاس والصليب الأحمر الدولي.
ويعاني السجناء السوريون من عجزهم ماديًا عن توكيل محامٍ لتمثيلهم أمام المحاكم، يضاف إليها معاناة التوقيف من غير محاكمة، حيث يقدر أن نصف عدد السجناء غير محكومين من بينهم سجين مريض سكر موقوف منذ 10 أعوام دون محاكمة، بسبب تأجيل موعد جلسة المحكمة التي تعقد كل 6 أشهر مرة، وتبرير المماطلة بالضغط الموجود على المحكمة العسكرية الوحيدة المسؤولة عن هذا الأمر في بيروت ولها قاضٍ واحد، حسب مصدر من سجن رومية وسوريين مفرج عنهم لـ”نون بوست”.
المعتقل السوري في #سجن_رومية محمدعبدالحفيظ قاسم60سنة أضرب عن الطعام منذ20يومًا لأن المدعي العام رفض مقابلته وهو أنهى العقوبة المحددة منذ٢٠١٥ وزج اسمه بعد تعرضه للضرب والتعذيب بملف آخر بالمجلس العدلي
وبحسب المحامي اللبناني #محمد_صبلوح حالته الصحية سيئة جدًا فهو مريض قلب وضغط وسكري pic.twitter.com/N9Yh6enTFL
— Aisha Sabri (@AishaSabri13) January 20, 2024
الحكومة اللبنانية تتحمّل المسؤولية
أوضح مدير مركز “سيدار” للدراسات القانونية، المحامي اللبناني محمد صبلوح لـ”نون بوست” أن الحكومة اللبنانية تتحمّل المسؤولية لما يجري في سجن رومية، كونها تغطي الأجهزة الأمنية، خاصة أن الحكومة وبعض الأحزاب اللبنانية تتعاطى مع قضية اللاجئين السوريين بطريقة عنصرية، في إشارة من الحكومة اللبنانية بالسماح بارتكاب الانتهاكات وهذا ما يجعل الأجهزة الأمنية تستبيح اللاجئين السوريين.
وعن عمل المركز الحقوقي، قال صبلوح: “نحن نوثق أي مخالفة قانونية للمعارضين السوريين ونقدمها كشكوى للأمم المتحدة، لنقول للمجتمع الدولي: لبنان لا يحترم الاتفاقيات الدولية، ولنؤكد للبنانيين المسؤولين عن الانتهاكات أن هناك منظمات تعمل كي لا تسمح لهم بالاستمرار بها”، مشيرًا إلى تعرضهم لمضايقات لإجبارهم على التوقف عن العمل لكنهم لن يتوقفوا عن عملهم كقضية إنسانية وواجب أخلاقي.
يذكر المحامي صبلوح أن الأمن العام اللبناني لا يملك معايير دقيقة للتمييز بين السجناء السوريين، فترحيل المعارضين للأسد مخالف للقانون، لأنَّ لبنان موقّع على اتفاقية مناهضة التعذيب التي تمنع المادة 3 منها أي دولة موقعة تسليم أي شخص سيتعرض لتعذيب في بلده.
ويضيف صبلوح أن عملهم من هذا المنطلق لحماية حياة 400 سجين سوري في سجن رومية، معظمهم منشقين عن جيش النظام، وهؤلاء عددهم قليل لا يشكلون أزمة بسجون لبنان، من أصل نحو 2000 سجين سوري بتهم غير سياسية، فالتذرع بارتفاع عدد الموقوفين السوريين لا يُبرّر تسليم المعارضين إلى بلادهم.
ومن المخالفات القانونية أن الأمن العام اللبناني لم يعد يُبلغ السجين بموعد ترحيله مسبقًا، فضلًا عن عراقيل إجراء الوكالة القانونية للمحامي، وأحيانًا يستغرق الحصول على وكالة من القضاء 45 يومًا، حسب صبلوح، وهي مخالفة قانونية للمادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية التي تفرض على الأمن العام حضور المحامي دون وكالة.
ويوضح المحامي اللبناني أنهم يتفاجأون بوصول الموقوف إلى سوريا، وهذا ما حصل مع السجين معاذ حسان الوعر، فقد اتخذوا الإجراءات العاجلة لإنقاذه يوم الخميس، وثاني يوم الجمعة مطلع مارس/آذار الجاري اتصل بوالدته باكيًا وهو في معبر المصنع الحدودي يخبرها بتسليمه للنظام، لذلك عندما سمع السجناء بخبره حاولوا الانتحار، اثنان منهم “إخوة معاذ”.
ويؤكد صبلوح أن الترحيل لا يقوم به الأمن العام اللبناني فقط، بل أيضًا يمارسه الجيش اللبناني، ففي 9 و10 يناير/كانون الثاني 2024 حاجز المدفون اعتقل 24 سوريًا وسلمهم للنظام، 22 منهم عادوا إلى لبنان بعد دفع مئات الدولارات للمهربين، و2 منهم مختفين قسريًا وهما منشقان عن جيش الأسد، مضيفًا: “قدمنا كتابًا لمدعي عام التمييز غسان عويدات لكنّه لم يفعل شيئًا، ثم وصلنا أنّ أحدهم رأفت عبد القادر فالح معتقل في فرع فلسطين بدمشق”.
في حين تتصدّر قضية ترحيل الباحث السوري، جمعة محمد لهيب، وسائل التواصل الاجتماعي، عقب رفض الأمن العام اللبناني تجديد إقامته في 6 مارس/آذار الحاليّ، ومطالبته بالسفر إلى سوريا خلال شهر، وأكد لهيب لـ”نون بوست” أن اسمه على قوائم المطلوبين للمخابرات السياسية السورية، خاصة أنه معتقل رأي سابق بذات الفرع وخرج بإخلاء سبيل عام 2011.
دور الائتلاف الوطني السوري
دعا المحامي محمد صبلوح عبر “نون بوست” الائتلاف الوطني السوري إلى توحيد الجهود بين أعضائه ووضع خطة مدروسة لإنقاذ حياة السجناء، فهناك أعضاء يعملون لمواجهة الحملات غير الإنسانية بشتى الوسائل.
في هذا الصدد، قال أحمد بكورة، منسق مجموعة شؤون اللاجئين والنازحين في الائتلاف الوطني لـ”نون بوست” إنَّ الائتلاف الوطني يؤكد التزامه الراسخ بمتابعة قضايا السوريين في لبنان بشكل دائم، مضيفًا: “نعمل بجهد مع المجتمع المدني اللبناني ومؤسسات حقوق الإنسان، إلى جانب شركائنا الدوليين، لضمان عدم تسليم أي مطلوب لنظام الأسد، وهذا التعاون يعكس تعهدنا بحماية حقوق جميع السوريين”.
وتابع “نحن ندين بشدة أي انتهاكات لحقوق الإنسان أو إساءة معاملة تُمارس ضدهم، وتابعنا حالة السجناء السوريين بعد حادثة محاولة الانتحار الأخيرة التي أعادت الضوء إلى الظروف القاسية التي يواجهونها في سجن رومية، وأكدنا على ضرورة ضمان حمايتهم والتصدّي لأي محاولة لتسليمهم إلى نظام الأسد تفاديًا لجريمة بحقهم، لا سيما بعد تأكيد عشرات التقارير لممارسات الانتهاكات بحق المرحلين”.
وأضاف بكورة “نشدّد على ضرورة الالتزام بالقانون الدولي واتفاقيات ومعاهدات حقوق الإنسان التي تُلزم جميع الدول باحترام حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين، وعدم اتخاذ إجراء ترحيل قسري لأي لاجئ، ونجدِّد التأكيد على أهمية التعاون الدولي في مواجهة الانتهاكات بحقّ السوريين، مشيرًا إلى أن الائتلاف يعتبر حماية السوريين أولوية قصوى، ويلتزم بعدم ادخار أي جهد في الدفاع عنهم.
أهمية الحملات الإعلامية
أفاد المحامي صبلوح بأنهم في مركز سيدار عند وصولهم إلى طريق مسدود يلجأون للإعلام لمنع قرار الترحيل، مضيفًا: “كما فعلنا مع الموقوف ياسين العتر الذي أوقفنا قرار ترحيله، حيث تفاجأنا بأنَّه بقي موقوفًا حتى جلسة المحاكمة في مايو/أيار 2024”.
بالعودة إلى قضية ياسين العتر المقرر ترحيله صباح اليوم وبعد ضغط إعلامي من الصحافة الحرة وبعض الناشطين مبدئيا اعيد ياسين العتر إلى الأمن العام اليوم واوقف الترحيل بشكل اولي لتسليمهم قرار منع السفر الصادر عن محكمة التمييز العسكرية
— Mhamad Sablouh (@MhamadSablouh) January 26, 2024
أحد القائمين على الحملة الإعلامية، محمد بشير سنو، ناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان، قال لـ”نون بوست” إنَّ الحملة الحاليّة تهدف إلى تسليط الضوء على قضية المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية عبر وسائل الإعلام المختلفة، وسيتم اتخاذ إجراءات بما في ذلك إرسال مذكرة إلى المنظمات الدولية والدول المعنية بحقوق الإنسان، بهدف تشجيع الاهتمام والتدخل لحماية حقوق المعتقلين لا سيما معتقلي الرأي.
وأضاف سنو أنَّ القائمين على الحملة يتعاونون مع منظمات حقوقية سورية ودولية ومحامين ونشطاء حقوقيين يتابعون حالات المعتقلين على الأرض، وعلى تواصل مع السلطات القضائية اللبنانية للعمل على إعادة محاكمة المعتقلين أمام محاكم مدنية، منذ أن تمّت محاكمتهم أمام محاكم عسكرية تسيطر عليها أحزاب سياسية لها ارتباطات مع النظام السوري.
ويجمل سنو القول بإن الإعلام يلعب دورًا مهمًا في قضية المعتقلين السوريين بالسجون اللبنانية، لأن الإعلام يساعد في كشف الظلم والانتهاكات التي يتعرضون لها ويزيد من الوعي العام والضغط من أجل العدالة، كما تساهم التحقيقات الميدانية والتعاون مع المنظمات الحقوقية في تقديم الدعم اللازم للمعتقلين والإدارة القانونية للقضايا.
بدوره، الدكتور توفيق شماع، ناشط إنساني وسياسي، أشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى أنَّ تسليم سوريين موقوفين في لبنان لأسباب أمنية وسياسية لنظام الأسد، يعتبر تجاوزًا للقانون الدولي لحماية اللاجئين ويوازي حكمًا بالإعدام عليهم، وتشهد شهادات صور ووثائق قيصر على مدى الإجرام الذي يتعرّض له معتقلو الرأي في سوريا.
وأضاف شماع أن الانتهاكات في سجن رومية تتكرّر منذ شهور وبعلم من العديد من منظمات حقوقية ودولية دون أن تستطيع الضغط على الحكومة اللبنانية لإيقاف مثل هذه الممارسات الكارثية، فضلًا عن معرفة المفوضيات الأوروبية بالأمر منذ بداياته واعترافهم بعجزهم عن إثناء الحكومة اللبنانية عن تلك الممارسات، حسبما أكد مسؤول رفيع المستوى من الاتحاد الأوروبي، عند تواصلنا معه عقب حادثة الانتحار الأخيرة.
هذا العجز الغربي يُشكّل – حسب شماع – سابقة خطيرة جدًا على المستوى الدولي وإلزام الدول بالقوانين الإنسانية المتعارف عليها، يوازي العجز العربي المشين أمام مذبحة غزة الجارية، مضيفًا أن التغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان بشكل ممنهج سيُسوّغ تكرارها ويشكل ناقوس خطر مهيب يجب أن يدق: “إنسانيتنا تقف على عتبة انهيار منظومتها القيمية”.