يعتقد الكثير من المراقبين والإعلاميين بل والمحللين أن الأزمة المتفاقمة بين قطر من جهة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية والبحرين ومصر من جهة أخرى، بسبب قناة الجزيرة و”دعم” قطر للإرهاب وللإخوان المسلمين وبقية المطالب المعروفة وربما من أهمها مطلب التعويضات! وهذا جزء من الحقيقة. إلا أن كل الحقيقة في الأزمة، كما أزعم، هو السيطرة على غاز قطر، فالغاز القطري لا يهم قطر وحدها كثروة وطنية، بل يهم الكثير من دول العالم المتقدمة والتي تحتاج الغاز كطاقة أنظف من البترول بعد مخاطر التغير المناخي بسبب الغازات السامة المنبعثة من حرق البترول والفحم، فالصين ودول الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة للغاز الطبيعي المسال LNG، والتي تُعتبر قطر أهم مصدريه حاليًا، علمًا بأن أهم احتياطيات الغاز الطبيعي توجد أيضًا في روسيا وإيران، وسيتربع الغاز على عرش الطاقة العالمي حتى إيجاد بدائل أنظف وأرخص!
والمعروف أنه بعد الحرب العالمية الثانية سعت الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على مناطق الثروة البترولية، وكان لها ما أرادت، فسيطرت على بترول الخليج واحتلت لاحقًا العراق، وتلاعبت بأسعار البترول كما تريد، تارة بالضغط على اليابان والصين برفع الأسعار، وأخرى بإغراق السوق بالبترول – عام 2014 بعد أزمة أوكرانيا – لخفض أسعاره للتأثير سلبًا على روسيا المنتج الأول للطاقة في العالم وعدو الغرب الأشرس! أو كما فعلت في نهاية الثمانينيات عندما أغرقت السوق كي لا يستفيد العراق من نفطه ويستعيد عافيته الاقتصادية بعد انتهاء حربه مع إيران! إلا أن التلوث والتغير المناخي أو التسخين الحراري Global Warming حدّ من قيمة الطاقة البترولية، إضافة إلى إنتاج البترول الصخري في أمريكا واكتفائها منه جعلها تهتم أكثر بالسيطرة على الغاز (طاقة المستقبل الذي يبدو أنه – أي المستقبل- قد بدأ)! إذًا الأزمة في الخليج ليست أزمة محلية، وإنما أزمة عالمية بين القوى العظمى للسيطرة على مصادر الطاقة الجديدة (الغاز)!
يؤكد مستشار المخاطر الاستراتيجية وليام إنجدال William Engdahl أن العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا والتي تلت انقلاب أوكرانيا ثم الغزو الروسي لها، أجبرت روسيا على الاتجاه إلى يوراسيا عمومًا والصين تحديدًا، وهذا ما جعل شركة البترول الروسية العملاقة Rosneft المملوكة للحكومة تشجع شركة البترول الصينية الرئيسية CEFC China لشراء 14% من الـ19.5% وهي الحصة التي تملكها سلطة الاستثمار القطرية QIA وشركة Glencore السويسرية من شركة Rosneft الروسية، وبذلك توطدت العلاقة بين أكبر منتجي الطاقة وأكبر مستورديها ومستهلكيها، والصفقة في طور الإنهاء، وستضيف عنصرًا فعالًا للطاقة الجيوسياسية لكل من روسيا والصين.
قطر فعلت الكثير لتطوير علاقاتها مع روسيا وإيران والصين، ناهيك عن العلاقات المتطورة مع تركيا واليابان أكبر مستورد للغاز المسال من قطر، ودخلت قطر في مفاوضات مع إيران بشأن مشروع مشترك لتطوير حقل الغاز المشترك في مياه الخليج وهو أكبر حقل للغاز في العالم
كما وصل التأثير الجيوسياسي الروسي إلى تركيا حيث وقعت شركة JSC Zarubezhneft النفطية المملوكة للحكومة الروسية اتفاقًا ثلاثيًا مع مجموعة الطاقة التركية Unit International Ltd. وشركة الاستثمار الإيرانية غدير Ghadir Investment Company لمشاريع حفر آبار بترول في إيران بقيمة سبعة مليارات دولار، وستقوم الشركات الثلاثة بتطوير مصادر البترول الإيرانية الضخمة. وبالإضافة إلى المشاريع المشتركة البترولية بين الشركات الحكومية الروسية والتركية وخط أنابيب غاز “السيل التركي” لتزويد جنوب شرق أوروبا بالغاز الروسي من أجل التدفئة والصناعة، جاءت صفقة منظومة S-400 الصاروخية لتركيا لتزيد من صراخ واشنطن، وتهدف روسيا من وراء المشاريع المشتركة لتطوير الطاقة إلى بناء روابط اقتصادية مهمة حولها، وهذا ما يجعل تركيا، أيضًا، أقرب إلى كل من روسيا والصين وإيران.
وبالنسبة لقطر فقد فعلت الكثير لتطوير علاقاتها مع روسيا وإيران والصين، ناهيك عن العلاقات المتطورة مع تركيا واليابان أكبر مستورد للغاز المسال من قطر، ودخلت قطر في مفاوضات مع إيران بشأن مشروع مشترك لتطوير حقل الغاز المشترك في مياه الخليج وهو أكبر حقل للغاز في العالم. وحصل هذا بعد تأكد قطر من أنه لا مجال لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر سوريا بعد دخول الروس على الخط في سوريا ومساندة الرئيس بشار الأسد، فقررت أن تكون أكثر براغماتية وتتفاوض مع إيران وروسيا بشأن سوريا وبشأن حقل الغاز المشترك مع إيران، أي “إن لم تستطع هزيمتهم، التحق بهم” أي كما قال إنجدال: ““if you can’t lick ‘em, join ‘em.! إذًا فالمعركة على قطر هي معركة السيطرة على طاقة المستقبل المهمة (الغاز الطبيعي)، وليست معركة على قناة الجزيرة ودعم الإخوان رغم أهميتهما البالغة!
بعد التقارب الوثيق بين روسيا والصين واستقواء بعض الدول بهما، قطر وإيران مثالًا، لم تعد واشنطن تمتلك التأثير الجيوسياسي الذي تمتعت به منفردة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1990
ويقول إنجدال أيضًا إن العقوبات التي فرضتها السعودية والإمارات على قطر لم تكن سوى العقوبات التي اقترحها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب وصهره جاريد كوشنير لتطويع قطر، إلا أن قطر بادرت بشكل سريع لتعزيز علاقاتها مع إيران وروسيا والصين وقبلهم مع تركيا! وهذا ما أفشل “الحصار” أو “المقاطعة” واستفز الولايات المتحدة التي أصبحت تتحدث عن انتهاكات إيران للاتفاق النووي، وتلوح مع “إسرائيل” بالحرب ضدها وقبل أشهر كانوا “سمن على عسل” في سوريا والعراق! كما أن فرض عقوبات جديدة على روسيا والاستفزازات العسكرية بشأن الصين والتصعيد الإعلامي ضد قطر ووقوف أمريكا مع الأكراد ضد تركيا، كلها تؤكد قلق أمريكا من الحلف الاقتصادي الجديد الذي يضم الصين وروسيا وتركيا وإيران وقطر، وتسعى بكل جدية لعرقلته وإفشاله!
ولا ننسى أن فرع بنك الدولة الصيني في قطر قام بصفقات باليوان الصيني Yuan بما يعادل 86 مليار دولار منذ إنشائه في الدوحة عام 2015، أضف إلى ذلك، كما يؤكد أنجدال، أن قطر تطور علاقاتها مع روسيا وربما يكون الثلاثي روسيا وإيران وقطر المؤسس لـ”أوبك الغاز Gas OPEC“، على غرار منظمة الدول المصدرة للبترول OPEC، الذي تعارضه كل من أمريكا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. إذًا في الأفق حلف اقتصادي عملاق يتكون من روسيا والصين وتركيا وقطر وإيران بعد تطور العلاقات الاقتصادية بشكل قوي بين هذه الدول، ويبدو أن تركيا وقطر بدأتا الابتعاد عن التدخل غير المدروس في الحرب السورية التي أشعلتها أمريكا ضد الرئيس السوري بشار الأسد، حسب إنجدال.
بعد التقارب الوثيق بين روسيا والصين واستقواء بعض الدول بهما، قطر وإيران مثالًا، لم تعد واشنطن تمتلك التأثير الجيوسياسي الذي تمتعت به منفردة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1990، ويبدو أنها لن تسيطر على الطاقة الجديدة (الغاز)، لتتحكم بإمداداته وسعره كما تحكمت ولا تزال بإمدادات وأسعار النفط، لذلك بدأت مع “إسرائيل” بسياسة التهديد والوعيد لإيران، بعد التعاون بينهم والذي لا يخفى على عاقل في كل من العراق وسوريا. وأرى أنه إن استسلمت إيران لأمريكا، فلن تقبل روسيا والصين بهيمنة أمريكية جديدة على مصادر الطاقة! والتكهن بنتيجة الصراع من الصعوبة بمكان، ولا يمكن إهمال دور كوريا الشمالية “النووي” في الضغط على أمريكا وفرملة اندفاعها إلى الحرب، إضافة إلى ما يبدو أنه تقوية دفاعات قطر العسكرية بشكل يصد أي تهديد عليها من جيرانها.
وأخيرًا، هل يُلدغ “الدب الروسي” و”التنين الصيني” من جحر الغاز كما لُدغا من جحر البترول؟!