لقد نقلوا في أساطير الميثولوجيا الإغريقية أن الملك ميداس كانت له القدرة على تحويل كل شيء يلمسه إلى ذهب، واضطر في مباراة موسيقية بين الإله أبولو ومارسياس إلى اختيار أحدهما، فاختار مارسياس، فعاقبه أبولو ومسخ أذنيه، فكانتا أذني حمار، فأخفاهما تحت طاقية فريجية، لكن حلاقه اكتشف السر، ولم يستطع كتمانه، فحفر حفرة في الأرض وهمس فيها “ميداس له أذنا حمار” ثم ردم الحفرة وهو يظن أن سره في أمان، ولكن القصب الذي نبت على الحفرة بعد ذلك نشر السر في كل مكان، فالذي يختار من العرب اليوم بين إله الروس وإله الأمريكيين، كالذي اختار بين أبولو ومارسياس، وسيلقى نفس العقاب بنفس الأذنين كيفما كان اختياره.
ما فتئت شهية المملكة العربية السعودية مفتوحة أمام ما يقدم لها من منتجات المصانع الحربية الأمريكية والروسية على حد سواء، ففي غضون يومين اثنين، أبرمت السعودية صفقتين بمليارات الدولارات لشراء منظومتين للدفاع الجوي مختلفتين تمامًا، إحداهما المنظومة الروسية المتطورة المضادة للصواريخ s-400)) من روسيا في أثناء الزيارة الأخيرة للملك سلمان لموسكو يوم 5 من أكتوبر. والأخرى أعقبتها بيوم واحد بعد أن صادق الكونغرس الأمريكي فجأة على صفقة المنظومة الجوية الدفاعية الفائقة المدى THAAD)) التي طالت مدة المصادقة عليها منذ الزيارة التي قام بها ترامب إلى السعودية في مايو الماضي، والتي يبلغ ثمنها 15 مليار دولار، وكانت ضمن صفقة الأسلحة التي قدرت ب 110 مليار دولار، الأمر الذي رآه المراقبون ردًا مباشرًا على الصفقة السعودية الروسية، خصوصًا أن الأمريكيين أبدوا امتعاضهم من الصفقة المبدئية التي وقعت في موسكو، للاحتكار الأمريكي التاريخي لسوق السلاح السعودي الذي طبع العلاقات بين البلدين منذ تلاثينيات القرن الماضي.
كل ما تشتريه السعودية اليوم من أسلحة ودبابات متطورة وطائرات وغواصات وأنظمة للدفاع الجوي وبوارج حربية، إنما تجعل من نفسها مجرد مخزن للذخيرة ليكون رهن طلب الجيش الأمريكي وقت اللزوم
والمثير في الأمر، أن الشراهة السعودية في إبرام صفقات الأسلحة بمبالغ خيالية، توحي بأن آل سعود يعيشون حالة ذعر شديد وكأن توشك الأرض أن تخسف بهم أو تقع عليهم السماء بالشكل الذي يجعلهم ينفقون أموالاً طائلة وببددون المال العام، في حين تعيش البلاد أزمة اقتصادية خانقة، فالأموال التي يحاول ابن سلمان ادخارها على حساب تقليص النفقات وفرض الضرائب على شعبه، تذهب سدى في استرضاء طرفين لن يرضيهما إبرام الصفقات مهما بلغت تكاليفها، إنه الهوان والعبث بأتم معانيه.
والآفة الكبرى – حسب تصريح نشره موقع المونيتور الأمريكي لدايف دي روش المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية – تكمن في كون النظامان الدفاعيان الأمريكي والروسي إضافة إلى بطاريات الصواريخ باتريوت التي تستخدمها السعودية الآن في العدوان على اليمن، كلها أنظمة تعمل بشكل مختلف تمامًا ووسائل إعداد وصيانة متباينة، يجعل من الصعب جدًا استعمالها في حقل حربي واحد، مما يفرض أن نظامين من الأنظمة الثلاثة سوف يتم تحييدهما.
السعودية لا تحارب ولن تحارب، وفِي حال تعرضها للغزو فإن سيناريو الكويت في حرب الخليج الأولى سوف يتكرر، وكل ما تشتريه السعودية اليوم من أسلحة ودبابات متطورة وطائرات وغواصات وأنظمة للدفاع الجوي وبوارج حربية، إنما تجعل من نفسها مجرد مخزن للذخيرة ليكون رهن طلب الجيش الأمريكي وقت اللزوم، بدل أن يتجشم الأمريكيون نقل المعدات من الولايات المتحدة إلى الخليج.
والإيرانيون اليوم، يبدون أكثر استعدادًا لخوض حرب مظفرة ضد السعودية في هذه الأيام التي تتزايد فيها لهجة العداء بين البلدين بشكل ينذر باشتعال حرب إقليمية بينهما، ورغم الترسانة العسكرية السعودية المتطورة تكنولوجيًا عن نظيرتها الإيرانية التي أثرت فيها العقوبات المفروضة على طهران، فإن هذه الأخيرة تمتلك من المقومات ما يجعلها تقف على أرض صلبة على طول المواجهة، وإصابة أهدافها إصابات بليغة ومباشرة إذا أحسنت استخدامها بذكاء. وقد نشر موقع ناشيونال إنترست مقالاً لدايف ماجومدار يستعرض فيه قدرات إيران العسكرية والاستراتيجية، التي تمكنها من سحق غريمتها على الضفة الأخرى من الخليج العربي، بخمسة طرق، في انتظار تفعيل نظام الدفاع الجوي الروسي s-300.
بإمكان إيران أن تلحق أضرارًا فادحة بالسعودية إذا قررت طهران إغلاق المضيق أو عرقلة حركة الملاحة فيه، لأن السعودية تعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط لإنعاش اقتصادها
أولها: نخبة الحرس الثوري الإيراني ممثلة في فيلق القدس، فرغم أنها ليست سلاحًا بالمفهوم التقليدي للكلمة، فإنها القوة الأكثر فاعلية التي يمكن لإيران استعمالها ضد السعودية، فهذه الوحدة الغامضة من قوات العمليات الخاصة التي يبلغ تعدادها 15 ألف جندي، كانت قد أذاقت القوات الأمريكية الأمرّين خلال فترة وجودها في العراق حسب الموقع المذكور. ففي أوج المواجهات العسكرية في العراق تسببت قوات القدس في خُمس الخسائر التي تعرض لها الجيش الأمريكي، بسبب توفر القوات على القذائف المتفجرة المضادة للدروع والدبابات EFP)) والقادرة على اختراق أمنع المصفحات بما فيها دبابات أبرامز المنيعة، كما أن هذه القوات مسؤولة عن عمليات خارج الحدود الإقليمية، فهي التي كانت وراء استهداف السفير السعودي عادل الجبير داخل التراب الأمريكي، وهي من تقود العمليات العسكرية اليوم ضد داعش في العراق وسوريا.
ثانيها: الصواريخ الباليستية، فرغم أن سلاح الجو الإيراني يعتبر عتيقًا ومتخلفًا، فإن إيران لها القدرة القوية على الردع لامتلاكها ترسانة من الصواريخ الباليستية بما فيها صاروخ عماد وهو صاروخ باليستي أرض-أرض بعيد المدى ذو وقود سائل، وصواريخ عائلة شهاب الصاروخية بأجيالها الست، ويبلغ مدى شهاب 4 ما يناهز 2400 ميل، أما عائلة صواريخ سجيل فهي أخطر الصواريخ الإيرانية وتعمل بوقود صلب ضمن أكثر من مرحلة، ويبلغ مدى بعضها 4000 ميل، وهي صعبة القنص سريعة في رد الفعل.
ثالثها: سيطرتها البحرية على مضيق هرمز، فبإمكان إيران أن تلحق أضرارًا فادحة بالسعودية إذا قررت طهران إغلاق المضيق أو عرقلة حركة الملاحة فيه، لأن السعودية تعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط لإنعاش اقتصادها، وإيران لها تجربة سابقة في هذا المجال في أثناء الحرب الإيرانية العراقية فيما عرف حينها بحرب الناقلات، كما أن الزوارق الحربية الإيرانية سريعة التدخل وعالية التسليح، وبمقدورها مهاجمة السفن والمواني السعودية خلال المواجهة، وإلحاق خسائر فادحة بالبحرية السعودية.
اعتماد آل سعود على النفط وأمريكا أورثهم الذل وسقوط الهمة وتخلخل المواقف واضطراب السياسات
رابعها: غواصات غدير وهي طراز من الغواصات الصغيرة التي تصنعها إيران وتستخدمها في مياهها الإقليمية، تتسم غدير بالخفة وسرعة تبلغ في أقصاها 11 عقدة بحرية، والقدرة على الغوص إلى مسافات عميقة، وحسب موقع ناشيونال إنتريست فإن هذه الغواصة التي لا تتجاوز كلفتها 20 مليون دولار يمكنها مهاجمة السفن والمواني السعودية ونقل قوات كوماندوز تابع لفيلق القدس إلى داخل التراب السعودي للقيام بعمليات خاصة متعددة، إضافة إلى زرع الألغام البحرية بسرية تامة.
وخامسها: صاروخ سومار الجوال، وهو صاروخ مطور عن kh-55 الروسي، مداه يصل إلى 1500 ميل، وبمقدوره أن يشكل تحديًا كبيرًا للقوات السعودية.
فأين يقف حكام السعودية من هذا وقد أرهقتهم قوات الحوثي على ضعف إمكانيتها وسوء تسليحها، وآل سعود مع ذلك لا يملكون العزم على القتال، ولا التجربة والمراس، ولا هم يتحلون بالحكمة التي تجنح إلى السلم، وتلك طبيعة الجبان الذي لا يقاتل إلا من وراء قفا غيره متواريًا وراء ضهره، وقصارى ما تبلغه الشهامة منهم هو الاستئساد على الشعب اليمني الأعزل، ورجم صبيانه ونسائه وعجائزه بشهب حارقة قادمة من الشرق والغرب، فكلما ازداد أهل اليمن ضعفًا وفقرًا، كانوا هم أشد شرَها وضراوة، وهم يضنون أن هذه الحرب تقطع لهم بينما هي تقطع منهم، وما ظنك بمذبحة أولها حب الظهور وآخرها قصم الظهور.
وكان اعتماد آل سعود على النفط وعلى أمريكا قد أورثهم الذل وسقوط الهمة وتخلخل المواقف واضطراب السياسات، وجعلهم يقفون أمام أبواب أسيادهم في البيت الأبيض تارة حتى إذا أيسوا منهم أو أحسوا منهم ضعفًا، استقلوا طائرة إلى وموسكو ليقفوا تارة أخرى أمام ذلك الذي قد يكون سيدهم الجديد، فهم أبد الدهر مقيدون بهذا أو مقيدون بذاك، وأكره شيء إلى نفوسهم أن يستقبلوا أيامهم وهم أحرار بلا قيود، لأن الحرية أولها الاعتماد على النفس، وهم كالأعرج لا يمشي خطوة بدون سِنَاد، وهم في هذا الوضع الدولي المتهلهل لا يعرفون أين يضعون أقدامهم ولأي شطر يولون وجوههم. فهل سيستمر تراجع نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة فيُتْركوا لقمة سائغة للمحور الروسي الإيراني، أم أنها فترة طارئة لا تلبث أمريكا أن تستجمع قوتها فتطرد الروس ومعهم الإيرانيين وتعيدهم إلى المربع الأول الذي لازموه بعد نهاية الحرب الباردة؟.