كما كانت غزة استثنائية في صمودها وكبريائها وبسالتها وعزتها، فهي كذلك استثنائية حتى في أجواء رمضان، فبينما يستقبل المسلمون في شتى بقاع الأرض الشهر الكريم بكامل التحضيرات بهجةً وفرحةً بهذا الضيف، فإن الغزيين يستقبلونه بالقنابل المضيئة التي تنير سماءهم وتحول ليلهم نهارًا.
وفي الوقت الذي تحتضن فيه موائد الرحمن المحتاجين من أبناء المسلمين، فإن أبناء القطاع المحاصرين على موعد مع صناديق المساعدات الملقاة لهم عبر الطائرات والتي قد تكلف بعضهم حياته ثمنًا للقمة خبز يقتات بها بعد أيام من الجوع.
أمتار قليلة تفصل بين رمضان الجوع والخوف والقتل في غزة الأبية، ورمضان الفرحة والبهجة والثراء لدى الجيران والأشقاء، بضعة كيلومترات تلك التي تحول بين الموت والحياة، بين الإباء والانبطاح، بين عالم يموت جوعًا وآخر يموت تخمة.
قسمة غير عادلة، تكشف ازدواجية العالم وإنسانيته المشوهة، كما تفضح خذلان العرب والمسلمين لأشقائهم المحاصرين، ليبقى الرهان على أبناء الوطن وشركاء الدم والنسب والعرق والتاريخ والجغرافيا، فهم الأكثر إيمانًا بالقضية والأحرص بالدفاع عنها ولو كلفهم ذلك حياتهم.. فهل يكون رمضان نقطة انطلاق حقيقية لفلسطينيي الضفة والقدس والبلدات القديمة لدعم إخوانهم في غزة؟
https://twitter.com/jafra_ps/status/1767132350817690082
خذلان منذ بداية الحرب
منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي ويعاني أهل غزة من صمت إخوانهم في بقية مناطق الداخل وفي الضفة ورام الله والقدس وغيرها، حيث توقع البعض أن يستقبل التراب الفلسطيني مع انطلاق عملية الطوفان انتفاضة عارمة كالتي حدثت في 1979 و2000، أو حتى زخمًا كالذي شهده عام 2012.
ورغم حرب الإبادة التي يتعرض لها الغزيون، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الاحتلال بحق أطفال ونساء القطاع، فإن ذلك لم يحرك ساكنًا لدى الغالبية العظمى، الذين اكتفوا بالصمت، أو على أقصى تقدير، الخروج تظاهرات احتجاجية فُضت بشكل عاجل من قوات أمن السلطة في رام الله.
فرضت سلطة أبو مازن وسلطة الاحتلال، قيودًا صارمة على الجميع تحول بينهم وبين التعاطف مع إخوانهم المرابطين في غزة، حيث فُمنعت التظاهرات الداعمة لغزة بالقوة والاعتداء على المشاركين فيها، واعتقال المقاومين، والتنكيل بكل من حاول التغريد خارج السرب وفكر في الدعم بأي طريقة كانت.
مستشار الرئيس الفلسطيني: على حماس تسليم كل مقاليد الأمور في #غزة إلى السلطة الفلسطينية #فلسطين#الحدث pic.twitter.com/rvPs4UzB0L
— ا لـحـدث (@AlHadath) March 10, 2024
وتزامنًا مع تصاعد الأحداث في القطاع، وتبني الاحتلال سياسته العنصرية الفجة، وسقوط آلاف الشهداء، معظمهم من النساء والأطفال، ونهش الجوع أمعاء الصغار والكبار على حد سواء، ونزوح أكثر من مليون ونصف إنسان، فُرض على سكان المدن الفلسطينية طوقًا أمنيًا مشددًا لإحداث الفصل والقطيعة بينهم وبين إخوانهم المستضعفين المحاصرين في شعاب غزة، وسواء كان هذا الخذلان قهرًا أو طواعية فالنتيجة واحدة، الأمر الذي يفرض على أحرار فلسطين تحديًا كبيرًا، أمام أنفسهم أولًا، ثم أمام أحرار العالم بصفة عامة.
وفي الوقت الذي كان يراهن فيه البعض على سلطة أبو مازن في دعم بني وطنهم المدافعين عن قضية بلادهم العادلة في مواجهة المحتل الغاشم، إذ بهم يسابقون الخطى، ليس لنصرتهم، لكن للأكل على أشلاء أطفالهم ونسائهم، واستغلال الكارثة الإنسانية الحاليّة من أجل مكاسب سياسية رخيصة، يعيدون بها سيطرتهم على القطاع حتى لو كانوا فوق فوهات دبابات الاحتلال.
فرصة رمضان
الرضوخ للقيود والتضييقات التي تحول دون دعم المرابطين في غزة، وعدم بذل ولو أقل القليل لتأييد صمودهم وتقديم المستطاع لإيصال رسائل الدعم لهم، والاستسلام لفكرة “ما باليد حيلة” هو في حقيقته انهزامية لن يدفع ثمنها أهل غزة وحدهم، بل الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، والذي يجب أن يستقر في يقينه أن ما يحدث في القطاع سيكون له تبعاته على الضفة والقدس وغيرها، فإن سقطت غزة، وهي الفرع الأخير في شجرة المقاومة ضد الاحتلال، فسيسقط الجميع.
وربما يكون رمضان فرصة مواتية للتطهر من كل معاني الخذلان والرضوخ، وتبرئة الساحة الفلسطينية تمامًا من أي تقصير، فلا عذر اليوم في نصرة غزة وأهلها، ودعم المرابطين في مهمتهم المقدسة، وذلك في ضوء ما يوفره هذا الشهر الكريم من فرص يمكنها أن تُحدث الفارق، إذا توافرت الإرادة لذلك.
ويمكن للفلسطينيين أن يجعلوا من رمضان مسرحًا عالميًا داعمًا لغزة، وذلك بأن يحولوا الصلوات والتراويح واللقاءات الأسرية والدعوات وقيام الليل وغيرها من الطقوس الرمضانية المعتادة إلى منصات داعمة للقطاع تهز أرجاء العالم لعلها تحرك الضمير الإنساني النائم لدى المجتمع الدولي بصفة عامة والعرب والمسلمين على وجه الخصوص.
«رمضان شهر الجهاد»
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ "مثل المجاهد في… pic.twitter.com/EU9DbLjbJZ
— أدهم أبو سلمية 🇵🇸 Adham Abu Selmiya (@adham922) March 11, 2024
وهذا الأمر ورغم تقليل البعض من تأثيره، فإن حضوره حتما سيكون مؤثرًا للغاية، فبجانب أنه يمنح الغزيين الأمل في أنهم ليسوا وحدهم في ميادين القتال، فهو كذلك يبعث برسالة واضحة للمحتل بأن مخططات تفتيت اللحمة الفلسطينية لم تجن ثمارها، وأن الفلسطينيين على قلب رجل واحد حتى إن أبعدتهم المؤامرات بين الحين والآخر، وهو التهديد الأقوى الذي تخشاه “إسرائيل” منذ نشأتها السرطانية.
كل هذا بطبيعة الحال سينعكس إيجابًا على المرابطين الأبطال في ساحات الوغى، ويمنحهم القوة والثبات والحافز للصمود والتحدي وتكبيد المحتل الخسائر تلو الأخرى، وهو ما سيكون حضوره قويًا على مسار القضية الفلسطينية برمتها، حاضرها ومستقبلها.
رعب المحتل
ربما يرى البعض في هذا التحشيد سلاحًا صامتًا لا صوت له، إلا أن الكيان المحتل يعتبره قنبلة موقوتة توشك أن تنفجر في أي وقت، لذا يحاول قدر الإمكان عدم إشعال الموقف خشية الانفجار، يقينًا منه أن الموقف إن خرج عن السيطرة فسيكون له تأثيره القوي على نفوذه وربما على مسار الحرب وحسم المعركة، ليس داخل غزة وحدها بل على مستوى القضية الفلسطينية برمتها.
وكشفت الأيام القليلة الماضية عن حالة الرعب التي تخيم على الكيان المحتل خوفًا من انفجار الوضع في رمضان، وهو ما دفعه لاتخاذ بعض التسهيلات في مدينة القدس والحرم القدسي لتهدئة الأجواء وتبريد حالة الاحتقان والحيلولة دون ضخ المزيد من البنزين قرب نيران الغضب.
ما دلالات رفض نتنياهو اقتراح بن غفير تقييد دخول المصلين إلى الأقصى في رمضان؟#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/OMWt4xrHwH
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) March 6, 2024
اتخذت الحكومة الإسرائيلية بعض القرارات مؤخرًا تذهب في هذا الاتجاه، اتجاه التهدئة وتجنب التصعيد في المدينة المقدسة التي تعلم أن أنظار مئات الملايين من المسلمين تتوجه إليها في نهار رمضان وليله، أبرزها سحب صلاحيات وزير الأمن الداخلي المتطرف إيتمار بن غفير على القدس، الذي كان يطالب بفرض قيود على المقدسيين ومنعهم من الصلاة في الأقصى، فقد نفت الحكومة هذا الكلام وأكدت دخول الأعداد ذاتها التي كانت تصلي في المسجد الأعوام السابقة، كذلك سمحت بالاعتكاف ليلتي الخميس والجمعة من كل أسبوع والعشرة الأواخر من رمضان، وهي المسألة التي كانت تعترض عليها قوات الاحتلال في السابق.
كل هذا يؤكد أن هناك حالة قلق كبير لدى المحتل من شهر رمضان واحتمالية أن يكون فرصة لانتفاضة المسلمين في الداخل الفلسطيني وخارجه، دعمًا لغزة، وهو ما دفع إدارة جو بايدن أيضًا للضغط من أجل هدنة مؤقتة خلال هذا الشهر، وتكثيف جهوده الدبلوماسية لأجل هذا الغرض، خشية انفجار الوضع ميدانيًا بما يهدد بلاده وحليفها المدلل.
لابد من استغلال حالة القلق تلك التي تخيم على الكيان وحليفه الأمريكي من رمضان وأجوائه المرعبة، وضرورة توظيفها بشكل عملي لخدمة القضية الفلسطينية بشكل عام، فمثل تلك الفرص لا تأتي كثيرًا، ومن كان يتحجج بالعجز عن الدعم بالسلاح والمال والروح فها هو المسرح يفتح أبوابه على مصراعيه للتعبير عن الدعم بطرق أخرى أقل ما يقال عنها أنها “أضعف الإيمان”.
ومن ثم يبقى رمضان فرصة تاريخية يمكن من خلالها تصحيح الأوضاع وتعديل المسار وغسل اليد من غبار الخذلان الذي لحق بها منذ بداية الحرب، والتأكيد على أن غزة ليست وحدها، ولن تكون كذلك، فهل يستغل الفلسطينيون في القدس والضفة والداخل تلك الفرصة أم تُفوت كغيرها من الفرص الضائعة؟