على إثر اعتقاله، نشبت أزمة دبلوماسية وُصفت بالحادة بين الولايات المتحدة وتركيا، وتصاعدت حدة الأزمة بعد توجه الولايات المتحدة لإلغاء تأشيرة دخول المواطنين الأتراك لأراضيها، الأمر الذي ردت عليه تركيا بالمثل. وعلى الرغم من ظهور بعض ملامح التهدئة بعد توجيه الطرفين تهمة إلغاء تأشيرة الدخول للسفير وليس للإدارة الأمريكية، فإن الانتقاد الأمريكي لإقدام الإدارة التركية على اعتقال موظفها ما زال مستمرًا وفي هذا السياق، يتساءل المواطن العربي عن هوية وخلفية متين طوبوز الذي نشبت الأزمة على إثر اعتقاله؟
لقد بررت الحكومة التركية اعتقالها لمتين طوبوز بوجود شبهات عن ارتباطه بجماعة غولن التي تصفها الحكومة التركية “بالإرهابية”، وتسهيل عملية انتقال أعضاء هذه الجماعة إلى الخارج عبر منحهم تأشيرات للولايات المتحدة، وتوفير أرضية مناسبة لتسهيل عمليات تجسس دول خارجية، المقصود هنا الولايات المتحدة، على بعض شخصيات وأجهزة الدولة التركية، وفقًا لما أوردته صحيفة جمهورييت.
وفقًا لمصادر صحفية تركية متطابقة، فإن طوبوز بدأ عمله في القنصلية الأمريكية عام 1982، وإن عُرضت قضيته للعلن اليوم، إلا أنه متابع من قبل القوات الأمنية منذ عامين ومعروف بارتباطته التنظيمية منذ زمن بعيد.
تتمحور أغلب الادعاءات الصحفية التركية حول بدء طوبوز لعمله في القنصلية الأمريكية “كتقني”، واستمر على ذلك حتى عام 1993، حيث بات يُعرف، منذ ذلك العام وحتى عام 1993، كموظف “حلقة وصل” بين مكتبي مكافحة المخدرات التركي والأمريكي.
هذا وخلال عمله كموظف “حلقة وصل”، نال طوبوز مكتبًا في مبنى مديرية الأمن العامة في إسطنبول، وفي إطار التوصيف الدقيق لموقعه، والذي يؤكد شيوع اسمه في المديرية، ذكرت الصحف التركية، استنادًا لتصريحات أمنية، أن مكتبه كان في المبنى “ب” في الطابق الخامس بمديرية الأمن العامة لإسطنبول.
أكدت صحيفة قرار أن التعاون بين طوبوز وعناصر الأمن كانت متبادلة، فبينما كانت طوبوز يحصل منهم على بعض المعلومات، كان عناصر الأمن يحصولون من خلاله على تأشيرات قصيرة وطويلة الأمد للولايات المتحدة
وتكشف التحقيقات الأمنية أن طوبوز بدأ نشاطه التجسسي في أثناء عمله في هذا المنصب، حيث أوضحت أنه أسس بمعاونة بعض أفراد الأمن، جهاز تنصت في مكتب مكافحة المخدرات في إسطنبول، وفي مبنى الخدمة الإضافية التابع للمديرية والموجود في حي “مجدية كوي” في إسطنبول، وطبقاً للتحقيقات التي رفعت النقاب عنها الصحف التركية، فإن أفراد من القنصلية الأمريكية لعبوا دورًا أساسيًا في تركيب هذه الأجهزة التي اُدعي حينها أنها تُستخدم لمتابعة تجار المخدرات، لكن تبين، فيما بعد، أنها كانت تُستخدم للتنصت على كل شخص مطلوب التنصت عليه من قبل الولايات المتحدة.
وبطبيعة الحال، وبإمكانياته المادية المدعومة، استطاع طوبوز اكتساب عدد من الأصدقاء ذوي الوظائف الفاعلة في مديرية الأمن، وواظب على الاحتفاظ بالعلاقة المتينة مع هؤلاء الأصدقاء حتى بعد تركه عمله كموظف “حلقة وصل” عام 2002، أهم هؤلاء الأصدقاء كان مدير الأمن العام والمدعي العام لإسطنبول وعدد من المدعين العامين الآخرين.
ومنذ عام 2002 وحتى عام 2015، كان مدير الأمن والمدعي العام لإسطنبول وبعض المدعين العامين الفاعلين أعضاء في جماعة غولن، وهنا تبرز العلاقة المباشرة بين طوبوز وجماعة غولن، وفي تقريرها عن الأمر، أكدت صحيفة قرار أن التعاون بين طوبوز وعناصر الأمن كانت متبادلة، فبينما كانت طوبوز يحصل منهم على بعض المعلومات، كان عناصر الأمن يحصولون من خلاله على تأشيرات قصيرة وطويلة الأمد للولايات المتحدة، فضلاً عن منحه تأشيرات وإجازات مؤمنة المصاريف لعدد من الضباط والمدعين العامين غير التابعين لجماعة غولن، بما يضمن من خلالهما علاقات جيدة توفر له البيئة المناسبة لممارسة نشاطه بعيدًا عن المتاعب.
صورة عن ملف التحقيقات الخاصة بالمتهم متين طوباز (المصدر: صحيفة جمهوريت)
ووفق ما توضحه التحقيقات، فإن طوباز كان على علاقة مع رئيس مكتب مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب موتلو إيكيز أوغلو، والمدعي العام زكريا أوز الذي أدار عدة عمليات أمنية ضد عناصر الجيش وتحركات الحكومة التركية الحالية، إلى جانب ضابط الأمن يعقوب صايغلي المُتهم بتنسيق عمليات 17 ـ 25 من ديسمبر/كانون الأول، والتي تعتبرها الحكومة التركية عملية أمنية رمت إلى إسقاطها عبر جهازي الشرطة والقضاء اللذين كانا مخترقين بشكل واضح من قبل جماعة غولن.
بررت الحكومة التركية اعتقالها لمتين طوبوز بوجود شبهات عن ارتباطه بجماعة غولن التي تصفها الحكومة التركية “بالإرهابية”، وتسهيل عملية انتقال أعضاء هذه الجماعة إلى الخارج عبر منحهم تأشيرات للولايات المتحدة
بناءً على المعلومات أعلاه، يتضح من جديد أسلوب الاستعمار الحديث الذي تركن إليه الولايات المتحدة في إدارة مصالحها في الدول الأخرى، يُطلق على هذا الأسلوب اسم “التوغل المؤسساتي الناعم” الذي يكفل لها، من خلال التعاون مع منظمات أو أفراد، إدارة مؤسسات الدولة الصانعة للقرار والأخرى التنفيذية، وهو ما يجعل تحرك هذه الدولة في صالحها.
وفي المحصلة، لم تعد الدول تستخدم “الحرب الأمنية العسكرية الصلبة” في حروبها وعلاقاتها مع الدول الأخرى، بل باتت تستخدم “الدبلوماسية المؤسساتية التكنولوجية” التي ترصد لها خطط الدول الأخرى، وبالتالي تمكنها من اتخاذ قرارها بناءً على هذه الخطط، ومن ثم تجنح لتوجيه الدول الأخرى وفقًا لخططها عبر دبلوماسيتها المؤسساتية الفاعلة المعتمدة على عناصر فاعلين في مؤسسات الدول المُراد توجيهها، وهنا تتحمل استخبارات الدول الأخرى المسؤولية الكبرى في صد هذا التوغل.