منتخب هولندا خارج كأس العالم، يا له من خبرٍ صاعقٍ لعشاق منتخب الطواحين العريق!
أرين روبن وويسلي شنايدر وروبن فان بيرسي لن يظهروا في مونديال روسيا صيف العام القادم، يا لها من خيبة أملٍ لمحبي نجوم المنتخب البرتقالي “الأورانج”! صاحب الصولات والجولات في البطولات الكبرى، والذي قدم للعالم عمالقةً وروادًا ونجومًا أفذاذًا كيوهان كرويف ويوهان نيسكنز وماركو فان باستن ورود خوليت ودينيس بيركامب وباتريك كلويفرت ورود فان نيستلروي، وغيرهم من كبار مشاهير الكرة العالمية، الذين ارتبطت أسماؤهم بمنتخب بلاد الأزهار والأراضي المنخفضة وطواحين الهواء.
شعار المنتخب الهولندي يظهر على قميصه البرتقالي
في بقعةٍ خصبةٍ منخفضةٍ من شمال شرق القارة العجوز، تقع مملكة هولندا التي يقطنها نحو 17 مليون نسمة حاليًّا، تلك المملكة التي تأسست أواخر القرن الـ16 على أطراف بحر الشمال بجوار كلٍ من ألمانيا وبلجيكا، تحكمها منذ تأسيسها وحتى الآن أسرة “الأورانج” الشهيرة، ومنها ارتبط اللون البرتقالي “Orange” بلباس المنتخب الهولندي تاريخيًا، وتشتهر بطواحين الهواء التي تستخدم لتوليد الطاقة، استغلالًا لعامل انخفاض الأرض وقوة الرياح، ومنها جاء لقب “منتخب بلاد الطواحين”، كما تشتهر هولندا بكثرة مروجها الخضراء التي تغطيها الأزهار الزاهية، ومنها جاء لقبها الأجمل “بلاد الأزهار”.
في تلك البلاد الجميلة الهادئة لم يتأخر ظهور لعبة كرة القدم، فكانت من أوائل دول أوروبا والعالم ترحيبًا بالساحرة المستديرة، إذ تأسس الاتحاد الملكي الهولندي لكرة القدم عام 1889، وانتسب إلى الاتحاد الدولي للعبة عام 1904، ولعب المنتخب الهولندي القومي مباراته الرسمية الأولى في شهر أبريل من عام 1905، وكانت أمام جاره البلجيكي في مدينة أنتويرب، وقد انتهت بفوز كاسحٍ للطواحين بنتيجة 4-1.
شارك المنتخب الهولندي في عشر بطولات كأس عالم بين عامي 1934 و2014
ولم يتأخر ظهور المنتخب البرتقالي في البطولات الدولية كثيرًا، فقد ظهر في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية الرابعة بلندن عام 1908، وحقق المركز الثالث في المسابقة، وهو ما كرره “الأورانج” في دورتي عامي 1912 و1920، قبل أن يحرزوا المركز الرابع في أولمبياد باريس عام 1924.
ورغم البداية الطيبة في دورات الألعاب الأولمبية، فشل منتخب الطواحين في حجز مقعدٍ له في أول بطولة كأس عالمٍ عام 1930 في الأورغواي، لتتأجل مشاركتهم الأولى حتى مونديال إيطاليا عام 1934، حيث لعبوا أولى مبارياتهم في بطولات كأس العالم، وكانت أمام سويسرا، حيث تلقوا الهزيمة بنتيجة 3-2 وودعوا البطولة مباشرةً، وهو الأمر ذاته الذي تكرر في البطولة التالية، حيث خسروا أمام تشيكوسلوفاكيا وودعوا البطولة مبكرًا.
أسطورة هولندا يوهان كرويف خلال نهائي كأس العالم عام 1974
ودخل المنتخب الهولندي بعدها نفقًا مظلمًا، فابتعد عن الظهور في بطولات كأس العالم مدةً بلغت 36 عامًا، ليعود في مونديال عام 1974 الذي أقيم في ألمانيا الغربية، ويفاجأ العالم بمنتخبٍ رهيبٍ، بناه المدرب العبقري رينوس ميشلز، مبتكر طريقة الكرة الشاملة، التي قادت نادي أياكس أمستردام الهولندي إلى تسيد أوروبا مدة ثلاث سنواتٍ متتاليةٍ بين عامي 1971 و1973، ذلك المنتخب الذي قاده اللاعب الأسطوري يوهان كرويف، المتوج بجائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعبٍ في العالم ثلاث مرات، برفقة نخبةٍ من أمهر نجوم المستديرة حينها كيوهان نيسكنز وروب رينسنبرينك ورود كرول وجوني ريب وأري هان وريني وويلي فان دي كيركوف. قدم أروع العروض في المونديال، واستطاع إزاحة عملاقي الكرة العالمية البرازيل والآرجنتين، في طريقه نحو المباراة النهائية، التي أقيمت على ملعب ميونيخ الأولمبي أمام 75 ألف متفرج، هتفوا فرحًا بفوز منتخبهم الألماني بلقبه العالمي الثاني، ولكنهم صفقوا طويلًا ورفعوا القبعات إعجابًا بمنتخب “الأورانج”، الذي فرط باللقب بعد هزيمته بنتيجة 2-1.
خسر المنتخب الهولندي نهائي كأس العالم مرتين متتاليتين عامي 1974 و1978 أمام ألمانيا والأرجنتين
وتابع جيل هولندا الذهبي الأول بقيادة كرويف تألقه، فأحرز المركز الثالث في أولى مشاركاته ببطولة أمم أوروبا عام 1976 في يوغسلافيا، قبل أن يبهر العالم مجددًا في مونديال عام 1978 في الأرجنتين، وذلك تحت قيادة المدرب النمساوي إرنست هابل، الذي استطاع تجاوز آثار الاعتزال المفاجئ للأسطورة يوهان كرويف، وقيادة الطواحين لبلوغ المباراة النهائية للمرة الثانية تواليًا، بعد أن أزاح في طريقه كلًا من إيطاليا وألمانيا الغربية، ليصطدم في النهائي بالمضيف الأرجنتيني المتعطش لتحقيق اللقب العالمي الأول في تاريخه. وهو ما تحقق فعلًا في المباراة التي أقيمت على ملعب مونومينتال في بوينس آيرس، أمام نحو 71 ألف متفرج، كانوا شاهدين على نهاية تلك الحقبة الزاهية للمنتخب البرتقالي الذي تذوق علقم الهزيمة في النهائي للمرة الثانية على التوالي، بسقوطه بنتيجة 3-1 بعد التمديد، لتتأجل فرحة اللقب الأول لهولندا حتى حين.
منتخب هولندا متوجًا بلقب بطولة أمم أوروبا عام 1988
وبالفعل، لم يطل انتظار عشاق الكرة الهولندية طويلًا، حيث ظهر جيل ذهبي جديد أواخر الثمانينيات، أسسه المدرب العبقري العائد رينوس ميشلز، وضم في عضويته نجومًا رائعين خلفوا كرويف ورفاقه، يتقدمهم ماركو فان باستن الفائز بجائزة الكرة الذهبية ثلاث مرات، ورود خوليت وفرانك ريكارد ورونالد كومان، ذلك الجيل وفق في تحقيق اللقب الأول والوحيد في تاريخ منتخب الطواحين، عندما أحرز لقب بطولة أمم أوروبا التي أقيمت عام 1988 في ألمانيا، بعد عروضٍ جذابةٍ أزاح من خلالها المنتخب الألماني المضيف في نصف النهائي، قبل أن يرفع “الأورانجس” الكأس الغالية، بعد فوزهم على منتخب الاتحاد السوفييتي في المباراة النهائية، بهدفي النجمين خوليت وفان باستن.
حقق المنتخب الهولندي لقبه الوحيد في تاريخه عام 1988 بإحراز كأس أمم أوروبا
ورغم نجاحه في أمم أوروبا، لم يفلح الجيل الذهبي الثاني في حل عقدة كؤوس العالم، فاستمر النحس ملازمًا منتخب الطواحين فيها، فودعوا مونديال إيطاليا عام 1990 من الدور ثمن النهائي على يد جارهم الألماني، قبل أن تتوقف مسيرتهم في مونديال الولايات المتحدة عام 1994، عند حد الدور ربع النهائي، بعد هزيمتهم الصعبة أمام منتخب السيليساو بنتيجة 3-2، في مباراةٍ وصفت بأنها الأكثر إمتاعًا في البطولة.
خيبة أمل لاعبي هولندا بعد هزيمتهم في نهائي كأس العالم عام 2010
ومع مدربٍ خبيرٍ اسمه غوس هيدينك، ومواهب رائعةٍ مثل دينيس بيركامب وباتريك كلويفرت وإدغار دافيدس وكلارنس سيدورف ومارك أوفر مارس وياب ستام وفرانك ورونالد دي بور وفيليب كوكو والحارس إدوين فان ديرسار، مضى المنتخب البرتقالي بعيدًا في بطولة كأس العالم التالية، التي أقيمت في فرنسا عام 1998، فأزاح يوغسلافيا والأرجنتين، قبل أن ينتهي مشواره عند حاجز السيليساو مجددًا، ولكن في الدور نصف النهائي هذه المرة، وبفارق ركلات الترجيح لا غير.
خسر المنتخب الهولندي نهائي كأس العالم للمرة الثالثة عام 2010 أمام إسبانيا
وبعد صدمة الغياب عن مونديال عام 2002، عاد أبناء “الأورانج” إلى كأس العالم عام 2006، بتشكيلةٍ ضمت بعض الأسماء الخبيرة كمارك فان بوميل وجيوفاني فان بيرنكهورست وديريك كاوت، إلى جانبٍ عددٍ من المواهب الصاعدة كويسلي شنايدر وأرين روبن وروبن فان بيرسي ورافائيل فان ديرفارت، تلك التشكيلة لم تذهب بعيدًا في مونديال ألمانيا فخرجت من الدور ثمن النهائي على يد البرتغال، ولكنها فعلت الأعاجيب في مونديال جنوب إفريقيا التالي عام 2010، فأقصت البرازيل والأورغواي في طريقها نحو المباراة النهائية، التي جمعتها بمنتخب إسبانيا الطامح لتحقيق أول ألقابه العالمية. وكان “الأورانجس” على مقربةٍ من تحقيق الحلم وكسر النحس، ولكن صمود رفاق كاسياس وتشافي طيلة الوقت الأصلي، وهدف الرسام إنييستا في الدقيقة 116، حول حلم الهولنديين إلى كابوس، وبكت أمة الـ17 مليونًا وهي تشاهد منتخب بلادها يخسر ثالث نهائي عالمي له، ليستحق لقب أسوأ المنتخبات حظًا في تاريخ بطولات كأس العالم.
منتخب هولندا حقق المركز الثالث في بطولة كأس العالم الأخيرة
وعاد من تبقى من جيل نهائي المونديال الإفريقي، فجففوا دموعهم ولملموا صفوفهم، ومضوا في محاولةٍ جديدةٍ لكسر نحس كأس العالم، فأبلوا بلاءً حسنًا في مونديال البرازيل صيف عام 2014، بعدما انتقموا من هزيمتهم أمام منتخب الماتادور وأخرجوه من الدور الأول، وتابعوا مشوارهم بنجاحٍ نحو المربع الذهبي للبطولة، حيث واجهوا منتخب التانغو الأرجنتيني بقيادة أسطورته ليو ميسي، وصمدوا أمامه 120 دقيقة، قبل أن يخسروا بركلات الترجيح، ليجدوا بعض العزاء في تحقيق المركز الثالث على حساب المضيف البرازيلي، بعد فوزهم الساحق عليه بثلاثيةٍ بيضاء.
ويبدو أن المونديال البرازيلي، مثل نقطة النهاية لذلك الجيل الهولندي، فقد فشل رفاق روبن وشنايدر وفان بيرسي في التأهل إلى بطولة أمم أوروبا الماضية، التي أقيمت في فرنسا صيف عام 2016، قبل أن تأتي الطامة الكبرى بفشلهم في بلوغ مونديال روسيا، والذي جاء بعد إنهائهم التصفيات في المركز الثالث لمجموعتهم، خلف كل من فرنسا والسويد، ليخسر مونديال روسيا أحد أبرز المنتخبات العالمية قبل حتى أن يبدأ!
أرين روبن أبرز نجوم هولندا في العقد الأخير أعلن اعتزاله دوليًا
وإذا حللنا أسباب فشل منتخب الطواحين في بلوغ عرس الكرة العالمية، نجد أن وراءه عدة عوامل متباينة التأثير، منها قوة مجموعته في التصفيات، والتي ضمت معه كلًا من فرنسا والسويد وبلغاريا وبيلاروسيا ولوكسمبورغ، إضافةً إلى عدم استقرار الإدارة الفنية للمنتخب، إذ تناوب على تدريبه أربعة مدربين منذ رحيل بيرت فان مارفيك عام 2012، هم لويس فان غال وغوس هيدينك وداني بليند وديك أدفوكات، الذي تولى المهمة قبل خمسة أشهرٍ فقط، كما ساهم تراجع مستوى الدوري الهولندي في التأثير على المنتخب بشكلٍ لا يمكن إغفاله.
تقدم أعمار النجوم وعدم نضج المواهب الصاعدة هي أبرز أسباب فشل هولندا بالتأهل إلى مونديال روسيا
ولكن السبب الأبرز في مأساة منتخب هولندا بحسب معظم المراقبين، يكمن في تقدم سن أبرز نجومه وتراجع عطائهم، مع عدم امتلاك جيل الشبان الصاعد النضج الكافي لتعويضهم، وقد أحسن نجم المنتخب السابق رونالد دي بور توصيف الحالة بقوله:
“لقد تقدم نجوم هولندا في السن كثيرًا، وفي الوقت نفسه ما زال اللاعبون الشبان في سن صغيرةٍ لسد هذا الفراغ، ربما سنكون جاهزين بحلول مونديال الدوحة عام 2022، فلدينا مواهب مميزة ستكون قد نضجت”.
ممفيس ديبياي من أبرز المواهب الهولندية التي تنتظر التألق
وبالفعل تمتلك هولندا من المواهب والإمكانات، ما يكفي محبيها للنظر إلى المستقبل بعين التفاؤل، فلاعبون مثل ممفيس ديبياي وفيرجل فان ديك وجورجينو فينالدوم وستيفن دي فري ودافي كلاسن وتيموتي فوسومينساه وريك كارسدروب وماتياس دي لايت وجاستن كلويفرت، يمكنهم حمل مشعل التألق عن نجومٍ بحجم أرين روبن وويسلي شنايدر وروبن فان بيرسي وكلاس يان هانتيلار، عقب وصول مسيرتهم الدولية إلى محطة النهاية، وعن ذلك تحدث النجم أرين روبن، الذي أعلن اعتزاله مؤخرًا، إذ قال: “هولندا ولادة، ونجومها ينتظرهم مستقبل مشرق، والأوقات الجيدة قادمة قريبًا”.