بعيدًا عن خذلان الأنظمة.. كيف يمكن للشعوب دعم غزة في رمضان؟

لم يُعرف في التاريخ الحديث أن تعرض شعب للخذلان كما يتعرض الآن الغزيون، خذلان من الجميع دون استثناء، من تربطهم بهم أوشحة الدين والعرق والدم والتاريخ والثقافة، أو من يربطهم بهم وشاح الإنسانية فقط، الكل سقط في مستنقع الخذلان.

كان الجميع يؤمل نفسه أن تسفر الجهود الدبلوماسية المبذولة من الوسطاء عن هدنة إنسانية خلال شهر رمضان، غير أن التعنت الإسرائيلي المعتاد، وصلف رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو – الذي يستميت بكل ما لديه من قوة لأجل عرقلة أي صفقات واستمرار الحرب -، أفشل تلك الجهود ليستقبل أهل غزة الشهر الكريم بالقنابل المضيئة والرصاص الحي والصواريخ التي لا تتوقف.

وأمام الصمت العربي والإسلامي الرسمي، والذي أصبح لا يعول عليه في المطلق، عاجلًا أو مستقبلًا، باتت الكرة الآن في ملعب الشعوب، التي لطالما بررت تقاعسها بخذلان الحكومات والأنظمة التي ترضخ لمقاربات خاصة على حساب مرتكزات بلدانها القومية والدينية والأخلاقية، بل حتى والأمنية.

يعد رمضان الزاخر بالطقوس والأنشطة الدينية والاجتماعية، والذي تصل فيه مناسيب أدرينالين الإيمان والعبادة في شرايين المسلمين وعقلهم الجمعي إلى أعلى مستوياتها، فرصة جيدة لتقديم “أضعف الإيمان” لأهل غزة والمرابطين فيها.. كيف ذلك؟

لماذا رمضان فرصة مهمة؟

يحتل شهر رمضان في المجمل مكانة مقدسة لدى المسلمين، فبجانب أنه شهر القرآن فهو كذلك شهر الانتصارات التي حققها المسلمون على أعدائهم قديمًا وحديثًا، ومن ثم يمثل مسرحًا كبيرًا لكل الباحثين عن التوبة والساعين للتبرؤ من دنس المعاصي على مدار العام.

في المقابل ينظر العرب والمسلمون للقضية الفلسطينية كـ”القضية الأم” التي تجمع حولها كل الأطياف والطوائف والتيارات الإسلامية المختلفة، هذا بخلاف المسجد الأقصى الذي له أهمية قدسية لدى المسلمين، فهو ثالث الحرمين وأولى القبلتين، ويعتبر الدفاع عنه وتحريره من قبضة المحتل فرض عين على الجميع.

وأمام قدسية رمضان لدى المسلمين ومكانة المسجد الأقصى الاستثنائية وفي ظل حرب الإبادة التي يتعرض لها سكان غزة المرابطون في ثغور الزود عن الأمة الإسلامية عن بكرة أبيها، وسط الخذلان الفاضح للأنظمة والحكومات العربية، تتصاعد المخاطر إزاء ما يمكن أن يحدثه هذا الشهر الكريم من تأثير.

تقول الكاتبة المتخصصة في شؤون الأمن القومي والاستخبارات في مجلة “فورين بوليسي” إيمي ماكينون، إن هناك مخاوف كبيرة لدى الإسرائيليين والأمريكان بسبب استمرار الحرب في شهر رمضان، لافتة في تحليل لها أن بداية هذا الشهر تجلب معها عددًا من الأحداث والظروف التي يمكن أن تؤدي بسهولة إلى “تصعيد دراماتيكي”، ليس فقط في الحرب بين “إسرائيل” وحماس، بل أيضًا في التوترات المتصاعدة بجميع أنحاء الشرق الأوسط.

وتشير ماكينون إلى أن مشاهد القتل والتدمير في قطاع غزة يمكنها أن تؤثر بشكل كبير على أذهان المسلمين في شتى ربوع الأرض، وتدفعهم نحو التصعيد خاصة في هذا الشهر الذي يمثل قدسية كبيرة للمسلمين، وهو ما تخشاه الأوساط الإسرائيلية والأمريكية على حد سواء.

ورغم الإجراءات التي اتخذها الكيان المحتل لمحاولة فرض التهدئة في القدس خلال رمضان، والجهود المبذولة من إدارة جو بايدن لتجميد المشهد الميداني خلال الشهر عبر هدنة إنسانية مؤقتة، فإن صلف نتنياهو واليمين المتطرف حال دون ذلك، ليبقى الباب مفتوحًا على كل السيناريوهات وسط قلق متنام من تمدد الصراع واشتعال الموقف على جبهات عدة، وهنا يبقى السؤال: كيف يمكن توظيف رمضان لدعم غزة والقضية الفلسطينية عمومًا؟

هكذا يجب أن تكون غزة حاضرة

كان آخر عهد بالزخم العربي والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى عام 2000، حين كانت التظاهرات الحاشدة تزلزل شوارع البلدان العربية والإسلامية، بل وصل الزلزال ذاته إلى العواصم الأوروبية ذات الكثافة العربية، وقتها أربكت تلك الاحتجاجات الحكومات والأنظمة في شتى بلدان العالم.

ورغم أن إجمالي ضحايا تلك الانتفاضة التي استمرت قرابة 6 سنوات (سبتمبر/أيلول 2000 – يونيو/حزيران 2006) لم يتجاوز 4464 شهيدًا فلسطينيًا، ونحو 47 ألفًا و440 جريحًا، وفق مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، فإن رد الفعل العربي كان قويًا وكانت له الكلمة الفصل في تغيير المشهد بعد ذلك.

اليوم وأمام تلك الحرب الإجرامية التي يشنها الاحتلال ضد قطاع غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي أسفرت في خمسة أشهر فقط عن سقوط أكثر من 31 ألف شهيد وما يقرب من 70 ألف جريح، فضلًا عن نزوح ما يزيد على مليون ونصف مواطن وتدمير ثلثي القطاع، مع العلم بأن تلك الأرقام مرشحة للزيادة إذا استمرت الحرب، فإن رد الفعل العربي إزاء كل ما يحدث لم يرتق بعد للمستوى المطلوب.

كانت القبضة الأمنية والتضييقات الخانقة التي تفرضها أنظمة وحكومات العرب للحيلولة دون التعبير عن الغضب الشعبي إزاء ما يحدث تجاه غزة هي المبرر الوحيد للشارع العربي والإسلامي لتبرئة ساحته من تهم التقصير، إلا أن الوضع في رمضان يجب أن يكون استثنائيًا بكل المقاييس.

العادات والتقاليد التي يتميز بها هذا الشهر يجب أن تكون غزة حاضرة فيها شكلًا ومضمونًا، فالنصرة لا تقتصر فقط على حمل السلاح أو التبرع بالمال، فهي تحمل صورًا وأشكالًا عدة، من بينها استمرار حالة الزخم والتعبير عن الدعم ولو بالهتاف الجماعي والدعاء داخل دور العبادة وخارجها والكلمات الحماسية التي كان لها قديمًا تأثيرها الفعال، ومن الممكن أن تستعيد هذا التأثير اليوم.

ومن هنا لا بد أن تُزلزل مساجد العواصم العربية والإسلامية في ليل رمضان بالدعاء لنصرة غزة، وأن تزخر المنابر هنا وهناك بالموضوعات الداعمة لإخواننا في القطاع، والتي تكشف حقيقة اليهود ومخطط الصهيونية التوسعي على حساب المقدسات الإسلامية، والترتيبات المنسقة بشأن حراكات شعبية من الممكن أن يكون لها صداها، فهذا أقل القليل الذي يمكن أن يقدمه المواطن العادي لإخوانه المحاصرين في غزة.

كذلك اللقاءات الأسرية والاجتماعية التي يفترض أن تقدم وجبات دسمة لدعم غزة والمرابطين والمقاومة وتندد بجرائم الاحتلال وتفضحه على الملأ، أمام الأجيال كافة، صغارها وكبارها، وأن تكون القضية الفلسطينية برمتها الحاضر الدائم على كل موائد النقاش الاجتماعي والديني والثقافي في هذا الشهر الكريم.

كما للجمعيات الأهلية والتي يتجاوز عددها الملايين في مختلف البلدان العربية والإسلامية هي الأخرى دور كبير في هذا الدعم، من خلال جمع التبرعات لمن استطاع، لأجل إرسال المساعدات الإغاثية والعلاجية لسكان القطاع المحاصرين، بالتنسيق مع الجهات المعنية على المستويات كافة.

أي تأثير لهذا الحضور؟

قد يقلل البعض من هذا الحضور لغزة في رمضان، معتبرًا أن ذلك لن يؤثر ولن يحدث أي حراك في برك المياه العربية الراكدة، غير أن ذلك يجافي الموضوعية بشكل كبير، فالمزاج الشعبي والرأي العام الذي أثبت حضوره عالميًا وأجبر حكومات ودول عدة على إعادة تقييم مواقفها تجاه الحرب في غزة ليس ببعيد أن يمارس ذات التأثير على المستوى العربي، لا سيما أن تلك حاضنته العقدية والقومية والأخلاقية بحكم روابط التاريخ والدين والجغرافيا.

وهناك خمسة تأثيرات يمكن للشارع العربي في رمضان أن يحدثها في مسار الحرب المشتعلة الآن في غزة، أولها: الإبقاء على زخم القضية حاضرًا مهما طال أمد الحرب، كذلك إحباط محاولات تهميش القضية عبر خطابات الشيطنة للمقاومة وتحميلها مسؤولية ما حدث في القطاع، والتأكيد على تعزيز الظهير الشعبي للمرابطين في غزة.

هذا بجانب أن هذا الحضور يحمل رسالة إنذار وتحذير لكل الدول التي تفكر في التطبيع مع الكيان المغتصب في ظل موجات التطبيع المتتالية منذ عام 2020، علاوة على أنه يمثل رسالة واضحة ومباشرة للمجتمع الدولي بأن غزة والقضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى بعيدًا عن المواقف الرسمية للأنظمة.

وأخيرًا فإن هذا المزاج الشعبي الداعم لغزة وأهلها قد يمارس دوره المعهود في الضغط على الحكومات والأنظمة العربية والإسلامية ودفعها نحو تقييم مواقفها مرة أخرى، وإعادة النظر في مقارباتها الخاصة الناسفة للمرتكزات العقدية والتاريخية والقومية العربية، وهو التأثير الذي يتوقف على حجم هذا الزخم وقوته واستمراريته.

وعليه يجب أن يكون رمضان هذا العام – إذا أردنا تبرئة ساحتنا بصدق – بنكهة فلسطينية خالصة، عبادات وأنشطة وتقاليد، وأن يكون مسرحًا كبيرًا لغسل الثوب العربي من دنس الخذلان وعار الصمت وسوءة التقصير التي باتت سبة في جبين كل عربي مسلم.. فهل آن الأوان لأن ننحاز للعزة والكرامة أم يظل الانبطاح عنوان المرحلة وحينها لن تكون غزة الضحية الأخيرة للاحتلال؟