“يمكن أن يكون هناك إلغاء كلي للاتفاق، إنه احتمال فعلي”، بهذه الكلمات أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الجدل مجددًا بشأن رغبته في إلغاء الاتفاق النووي الإيراني وذلك خلال خطاب تليفزيوني له الجمعة 13 من أكتوبر الحاليّ، مضيفًا أنه سيحيل الملف إلى الكونغرس مرة أخرى لبحث مدى إمكانية تعديله أو إلغائه بالكلية.
وخلال كلمته كشف الرئيس الأمريكي استراتيجية بلاده الجديدة تجاه طهران – التي وصفها بأنها “أكبر داعم للجماعات المتشددة في الشرق الأوسط” -، تتلخص في التعاون مع حلفاء واشنطن لمواجهة “أنشطة إيران التدميرية”، مهددًا بـ”فرض أنظمة أخرى على إيران لوقف تمويل الإرهاب، ومعالجة مسألة الصواريخ التي تهدد دول الجوار، وعدم السماح لها بامتلاك أي من الأسلحة النووية”، هذا بالإضافة إلى بحث فرض عقوبات جديدة ضد الحرس الثوري.
ورغم هرولة السعودية والإمارات و”إسرائيل” لتأييد تلك الاستراتيجية إلا أن العديد من التحديات تقف حائلاً دون تنفيذ ترامب لتعهداته حيال هذا الملف، على رأسها اعتراض عدد من المؤسسات السيادية الأمريكية، فضلاً عن موقف الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق، إضافة إلى التخوفات الناجمة عن خرق هذا الاتفاق خاصة فيما يتعلق بإعادة طهران رسم خارطة تحالفاتها الخارجية لا سيما مع الصين التي يرى البعض أنها ستكون المستفيد الأكبر حال تنفيذ الرئيس الأمريكي وعده الذي قطعه على نفسه سابقًا.
هل تتحمل واشنطن التبعات؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد من الإشارة إلى ما يمكن أن يتمخض عن قرار إلغاء الاتفاق النووي مع إيران سواء فيما يتعلق بالعلاقات بين طهران وأوروبا من جانب، أو العلاقات بينها وبين الصين من جانب آخر، إضافة إلى دور الصين من هذه المعادلة وتأثير هذا الدور على المصالح الأمريكية الإسرائيلية في الشرق الأوسط.
في دراسة حديثة صادرة عن معهد بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجيّة في تل أبيب، حاولت إلقاء الضوء على المخاطر التي من الممكن أن تسفر عن خطوة ترامب الأخيرة، محذرة الإدارة الأمريكية من عدم الوقوع في هذا الفخ الذي سيقوض نفوذ واشنطن في المنطقة بصورة من الصعب استعادتها في الآونة الأخيرة.
تقوية التنين الصيني
تجديد العقوبات أو إلغاء الاتفاق سيدفع طهران إلى الارتماء في أحضان التنين الصيني، خاصة حال خضوع أوروبا لإملاءات ترامب، وهنا ربما تعيد إيران تشكيل خارطة تدفق الغاز الطبيعي لديها والذي يبلغ 24.6 مليار متر مكعب، رابع أكبر احتياطي في العالم ومرجح أن يصل إلى المركز الثاني مستقبلاً.
هذه الخطوة ووفق الدراسة ستُشكّل عاملاً رئيسيًا في السعي إلى تشكيل البنية المستقبلية للطاقة الأوراسية، مما قد يدفع طهران إلى تفضيل بكين بدلاً من أوروبا في تخصيص الفائض المتوقع خلال السنوات الخمسة القادمة، مما ينعكس إيجابًا على قوة الصين الاقتصادية ومن ثم السياسية.
جزئية أخرى حذرت منها الدراسة العبرية تتعلق بتشكيل تحالف يضم الصين والهند وروسيا يهدف إلى إحكام السيطرة على الشرق الأوسط وسحب البساط من تحت أقدام الولايات المتحدة، وهو ما ينعكس على إمكانية تسليح دول المنطقة بأسلحة متقدمة في ظل ما تشهده دول هذا التحالف المتوقع من إمكانيات هائلة، بعضها قد يصل إلى مرحلة التسليح النووي خاصة إن انضمت كوريا الشمالية إلى هذا التحالف مستغلة التوتر الشديد مع واشنطن.
وتسعى الصين إلى توسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة في محاولة لإحياء دورها العالمي مرة أخرى، وربما تجد في التحالف مع إيران بما لديها من إمكانيات وموارد فرصة سانحة لتحقيق هذا الحلم مستغلة تراجع الدور الأمريكي بشكل واضح.
الدراسة كشفت النقاب عن أن الصين -وفق المعطيات السابقة- ستكون المستفيد الأكثر من وراء تأرجح الولايات المتحدة حيال ملف الاتفاق النووي الإيراني، وإن كانت تتجنب الصدام مع واشنطن إلا أن ذلك لا ينكر حقيقة تأهبها للقيام بهذا الدور الإقليمي الجديد.
تأكيد الاتحاد الأوروبي التزامه بالاتفاق
إحراج الحليف الأوروبي
استمرار واشنطن في فرض المزيد من العقوبات على طهران والتلويح بإلغاء الاتفاق النووي يضع أوروبا في موقف حرج سياسيًا واقتصاديًا في آن واحد، إذ إنها باتت بين مطرقة وضع شركاتها وبنوكها لخطر انتهاك القانون الأمريكي حال التصميم على إلغاء الاتفاق من جانب، وسندان تزايد التوترات في الشرق الأوسط بصورة كبيرة، وما يترتب عليه من تراجع واضح للدور الأوروبي، إذ إنه في هذه الحالة سيفقد الكثير من استقلاليته ويتحول قراره إلى تابع للبيت الأبيض، وهو ما تخشاه الدول الأوروبية وتتجنبه بشكل أو بآخر مهما كانت حدة الضغوط الممارسة عليها.
هذه الخطوة ووفق الدراسة ستُشكّل عاملاً رئيسيًا في السعي إلى تشكيل البنية المستقبلية للطاقة الأوراسية، مما قد يدفع طهران إلى تفضيل بكين بدلاً من أوروبا في تخصيص الفائض المتوقع خلال السنوات الخمسة القادمة
علاوة على ذلك فإن هذا القرار (إلغاء الاتفاق) سيجهض بشكل كبير مساعي أوروبا نحو تنويع مصادرها للحصول على الغاز الطبيعي، والتقليل من اعتمادها على الغاز الروسي الذي يغطي 80% من احتياجاتها، لتتحرر من التهديد الروسي بقطع موارد الدول الأوروبية من الغاز الطبيعي في حال وقوع صراع شامل مع روسيا، وهو ما حدث بالفعل مع الأزمة الأوكرانية.
أوروبا في محاولة منها للخروج من هذا المأزق دشنت مشروعًا لنقل الغاز الطبيعي من بحر قزوين عبر أذربيجان، وعلى طول امتداد الأراضي التركية مرورًا برومانيا وبلغاريا والمجر، ووصولاً إلى الحدود النمساوية، أطلق عليه اسم “خط أنابيب نابوكو”.
هذا الخط الجديد “نابوكو” سيساعد دول أوروبا على الاستفادة من الغاز الطبيعي الإيراني ما يحررها قليلاً من القيود الروسية وهو ما سعت إليه ألمانيا على وجه التحديد، إلا أن تجديد العقوبات الاقتصادية ضد طهران حال دون تنفيذ ذلك، ومن ثم فإن أي استجابة أوروبية لقرار إلغاء الاتفاق النووي ربما يقلب الطاولة مجددًا ويبقي أوروبا أسيرة الغاز الروسي.
دفع إيران لمزيد من التسليح
الجنرال عاموس يدلين، وهو ضابط في سلاح الجو الإسرائيلي، وأحد معدي الدراسة، قلل من تفاؤل البعض حيال تأثير إلغاء الاتفاق النووي على تراجع القوة العسكرية لطهران، مشيرًا أن رافضي الاتفاق يزعمون بأنه يمهد الطريق أمام إيران لتصنيع قنبلة نووية، وأنه في حال إلغائه سيتم إجهاض هذا الحلم، وهذا يتناقض بصورة كبيرة مع الواقع.
يدلين حذر من أن إلغاء الاتفاق وما يترتب عليه من قرارات تابعة كرفع العقوبات الاقتصادية سيزيد من موارد طهران ومن ثم سيسمح لها ذلك ببناء قوة عسكرية تقليدية – ولا سيما الصواريخ البالستية والدفاع الجوي المتطور – وتمويل النشاطات المسلحة والمقلقلة للاستقرار في الشرق الأوسط، ولا يتطرق الاتفاق إليها، وهو ما يقوي نفوذها في المنطقة على عكس المتوقع.
هذا القرار (إلغاء الاتفاق) سيجهض بشكل كبير مساعي أوروبا نحو تنويع مصادرها للحصول على الغاز الطبيعي، والتقليل من اعتمادها على الغاز الروسي الذي يغطي 80% من احتياجاتها
الصين أكبر المستفيدين من إلغاء الاتفاق النووي
تهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية
حال إلغاء الاتفاق النووي ونتاج لما سبق فإن المصالح الإسرائيلية والأمريكية على حد سواء في المنطقة ستكون في مرمى الهدف، خاصة بعد تسليح إيران لقوتها العسكرية وتدشين تحالفات جديدة مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وهو ما يهدد الأمن القومي الإسرائيلي الذي يجد في طهران وبيونغ يانغ التهديد الأخطر في المنطقة.
علاوة على ذلك فإن إصرار واشنطن على هذه الخطوة ربما يفقدها الكثير من حلفائها في الشرق الأوسط، في مقابل تقوية نفوذ الحلف المضاد وعلى رأسه روسيا، والذي بات يسيطر على الجزء الأكبر من خارطة الصراع في المنطقة خاصة في سوريا واليمن، لتخلص الدراسة إلى التأكيد مرة أخرى على أن السياسة الخارجية الأمريكية لا تُقيم وزنًا بالمرّة للقارّة العجوز، التي أعلنت رسميًا وعلنيًا معارضتها لإلغاء الاتفاق النوويّ مع إيران.
ردود فعل متباينة
حالة من الجدل أثارها خطاب ترامب الذي وصفته بعض وسائل الإعلام بـ”الناري” حيث تباينت ردود الفعل حيال استراتيجيته الجديدة تجاه إيران وما تحمله من تهديد واضح بنسف الاتفاق النووي المبرم في 2015.
مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، رفضت تهديدات الرئيس الأمريكي قائلة” “لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بوصفنا مجتمعًا دوليًا، وأوروبا بالتأكيد، بتفكيك اتفاق يعمل ويؤتي ثماره”، مضيفة أن “رئيس الولايات المتحدة لديه سلطات عديدة ولكن ليس هذه السلطة”، ومذكرة بأن الموقف الأمريكي من الاتفاق بات في أيدي الكونغرس.
أما الدول الموقعة على الاتفاق والتي تعد جزءًا منه رفضت هي الأخرى تلميحات ترامب بفسخه وإلغائه، ففي بيان مشترك لكل من رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أكدوا من خلاله أنهم “ما زالوا ملتزمين بالاتفاق وتطبيقه الكامل من قبل جميع الأطراف”.
أما الخارجية الروسية فعلقت على خطاب الرئيس الأمريكي بقولها: “الدبلوماسية الدولية لا مكان فيها للتهديد والتصريحات العدائية”، معتبرة في بيان لها أن قرار عدم التصديق على الاتفاق لن يكون له تأثير مباشر على تنفيذه لكنه مضر بروحه لا أكثر، بينما كشف سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي، عن موقف بلاده صراحة حيال ما يثيره ترامب ما بين الحين والآخر من تصريحات وصفها بأنها “مقلقة للغاية”، قائلاً: “روسيا ترى أن مهمتها الأساسية الآن هي منع انهيار الاتفاق النووي”.
وفي المقابل رحبت كل من السعودية و”إسرائيل” بهذه الخطوة التصعيدية من قبل الرئيس الأمريكي، حيث قالت وكالة الأنباء السعودية إن المملكة ترحب بالاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة تجاه إيران، بينما وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ترامب بأنه “واجه بجرأة النظام الإرهابي الإيراني”، محذرًا من الإبقاء على الاتفاق النووي الذي سيمهد الطريق أمام طهران لامتلاك “ترسانة من الأسلحة النووية” خلال سنوات قليلة.
الإصرار الأمريكي على إلغاء الاتفاق النووي أو تعديله والضغوط التي يمارسها ترامب ما بين الحين والآخر على الدول الموقعة عليه لقبول استراتيجيته التي كشف النقاب عنها مؤخرًا، يدفع للتساؤل: هل الولايات المتحدة مستعدة فعلاً لتحمل تبعات إلغاء هذا الاتفاق؟
رغم هرولة السعودية والإمارات و”إسرائيل” لتأييد تلك الاستراتيجية، فإن العديد من التحديات تقف حائلاً دون تنفيذ ترامب لتعهداته حيال هذا الملف
ومن ثم فإن التهديدات المتكررة التي يطلقها ترامب ما بين الحين والآخر بشأن نسف الاتفاق النووي الإيراني لا تعدو – بحسب بعض الخبراء – كونها محاولة ابتزاز لكسب المزيد من التنازلات من قبل طهران وهو ما تعيه الأخيرة جيدًا تفسيرًا لموقفها المناهض والرافض تمامًا لتلويحات الرئيس الأمريكي، إذ إن التبعات المترتبة على هذه الخطوة ربما تضع الأمن القومي الأمريكي في خطر وهو من الصعب أن تقبل به الجهات السيادية في واشنطن.