كرة جديدة من اللهب يرميها الحاخام الأكبر لليهود السفارديم في الاحتلال الإسرائيلي، إسحاق يوسف، في مجتمع المستوطنين بعد أن لوح بمغادرة الحريديم دولة الاحتلال الإسرائيلي بشكل جماعي إلى الخارج، حال تمَّ إجبارهم على أداء الخدمة العسكرية التي ظلوا لعقود طويلة معفيين منها لاعتبارات توراتية ودينية بحتة.
تبدو هذه الأزمة قاسية بالنسبة إلى الاحتلال الإسرائيلي والمجتمع الإسرائيلي عمومًا، على اعتبار أنها تأتي في وقت يخوض فيه الإسرائيليون واحدة من أصعب الحروب في تاريخهم. علاوة على ذلك، فإن ما يعزز من خطورة هذه الأزمة بالنسبة إلى وجهة النظر الإسرائيلية، هو أنها تأتي في سياق التحذير المتكرر من “لعنة القرون الثمانية”.
“لعنة العقد الثامن” هي رواية يتفق عليها أغلب المؤرّخين، وهي أن اليهود عمومًا أقاموا لأنفسهم في فلسطين على مدار التاريخ القديم كيانَين سياسيَّين مستقلَّين، وكلا الكيانَين تهاويا وآلا إلى السقوط في العقد الثامن من عمرهما، وهما مملكة داوود وسليمان الدولة الأولى لليهود، ولم تصمد أكثر من 80 عامًا، وكذلك مملكة الحشمونائيم الدولة الثانية لهم التي انتهت في عقدها الثامن أيضًا.
كما تأتي هذه الأزمة وسط خلافات سياسية إسرائيلية داخلية بشأن هذا الملف، إذ دعا زعيم المعارضة الإسرائيلية ورئيس حكومة الاحتلال السابق، يئير لابيد، إلى عدم دفع أية أموال للحريديم حال رفضهم التجنيد، فيما ترى فصائل المعارضة الإسرائيلية، وحتى بعض قوى الائتلاف الحكومي، أن مشاركة الحريديم في التجنيد داخل مؤسسة الجيش ستسهم في توفير 105 كتائب جديدة للجيش، وهو أمر مطلوب وهامّ من وجهة نظر سياسية وأمنية إسرائيلية.
من هم الحريديم؟
يشكّل الحريديم 13% من السكان اليهود في دولة الاحتلال، وعارضوا بكافة تياراتهم وطوائفهم التجنيد، فجرى إعفاؤهم من الخدمة العسكرية منذ قيام دولة الاحتلال إثر تفاهمات عُرفت باسم “الوضع القائم”، وقضت بأن يدرس الشبان الحريديم في المعاهد الدينية اليهودية لتدريس التوراة ويحصلون على مخصصات، مقابل أن يكون عملهم الأساسي هو تعلم التوراة والتعاليم الدينية اليهودية.
رفض الحريديم حتى المشاركة في ما يُسمّى حرب التحرير والاستقلال عام 1948، وشددوا على موقفهم بأنه لا يوجد للحريديم أي مشكلة مع العرب والشعب الفلسطيني، وليذهب اليهود العلمانيون ليحاربوهم.
شهدت هذه الطائفة نموًّا بنحو 4% هو الأعلى بين السكان، إذ يعرَفون بأنهم يتزوجون مبكرًا ويتميزون بخصوبة عالية، في حين توجد لهذه الطائفة عدة أحزاب، لعلّ من أبرزها حزب شاس، وغالبًا ما يتحالفون مع الأحزاب اليمينية لتشكيل الائتلاف الحكومي.
وبحسب معهد ديمقراطية إسرائيل، يعتبَر معدل النمو الأعلى بين جميع المستوطنين الإسرائيليين، حيث إن العوامل الكامنة وراء هذا النمو السريع بشكل خاصّ هي معدلات الخصوبة المرتفعة، ومستويات المعيشة والطب الحديث، ومتوسط عمر الزواج عند الشباب، والأعداد الكبيرة من الأطفال لكلّ أسرة.
ووفق إحصائيات المعهد، فإن هؤلاء “السكان الأرثوذكس المتشددين في إسرائيل هم من الشباب، حيث إن حوالي 60% منهم تحت سن العشرين، مقارنة بـ 31% من إجمالي سكان البلاد، حيث بلغ عدد السكان الحريديم حوالي مليون و280 ألف نسمة، مقارنة بـ 750 ألف نسمة عام 2009، وباتوا الآن يشكّلون 13.3% من إجمالي سكان دولة الاحتلال”.
في الوقت ذاته، تتوقع تقديرات المكتب المركزي للإحصاء أن يصل عددهم النسبي إلى 16% (من عدد السكان) عام 2030، وأن يصل عددهم إلى مليوني نسمة عام 2033 كما ذكر المعهد.
ومع عودة الحديث عن طائفة الحريديم، فإن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يسعى إلى إقرار مشروع قانون يستثنيهم من الخدمة العسكرية، ويزيد مدة الخدمة الإلزامية من 32 شهرًا إلى 36 شهرًا، مع تطبيق ذلك أيضًا على المجنّدين حاليًّا، من أجل الاستمرار في حصوله على دعمهم ومنع إئتلاف حكومته من الانهيار.
تتزامن هذه الأزمة مع سيل من الأزمات التي تعصف بجمهور المستوطنين، والتي عززتها معركة “طوفان الأقصى” التي اندلعت شرارتها في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والتي رسّخت حالة من الشرخ بين المستوى السياسي والمستوطنين.
معضلة جديدة
منذ عام 2017، فشلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتوصل إلى صيغة قانون توافقي يقضي بتجنيد الحريديم، بعد أن ألغت المحكمة العليا القانون الذي شُرّع عام 2015 والقاضي بإعفائهم من الخدمة العسكرية، وسوّغت ذلك بأن الإعفاء يمسّ بـ”مبدأ المساواة”، ومنذ ذلك الحين دأب الكنيست على تمديد الإعفاء للحريديم من الخدمة العسكرية.
أثارت تصريحات أدلى بها وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت مؤخرًا، موجة من الغضب في الأوساط الحريدية، باعتبارها تحمل مؤشرًا على تمرده المتدرّج على الائتلاف الحكومي، كما تشكّل تهديدًا سياسيًّا لنتنياهو، خصوصًا أن غالانت أدلى بهذه التصريحات دون التنسيق معه، وقد فوجئ بمضمونها.
تحدث غالانت بوضوح مؤخرًا عن ضرورة مشاركة الحريديم في القتال والتواجُد داخل مؤسسة الجيش، من خلال تصريحاته التي قال فيها: “نعتزّ ونقدّر أولئك الذين يكرسون حياتهم لتعلم التوراة، ومع ذلك من دون وجود مادي لا وجود روحي. تثبت التحديات الأمنية التي نواجهها أنه يجب على الجميع أن يتحملوا عبء الخدمة”.
فتحت هذه التصريحات أزمة داخل جسم الحكومة، دفعت نتنياهو إلى التزام الصمت رفقة قيادات حزب الليكود الحاكم، في حين رحّب وزير الحرب السابق وعضو مجلس الحرب بني غانتس بهذه الدعوة، بينما امتنع رئيس حزب “عظمة يهودية” إيتمار بن غفير، ورئيس تحالف “الصهيونية الدينية” بتسلئيل سموتريش، عن التعقيب على الموضوع، رغم دعمهما للطرح الداعي إلى تجنيد جميع الإسرائيليين بالجيش.
وبات نتنياهو محاصرًا إلى جانب حصاره العسكري من قبل المقاومة الفلسطينية، وما يجري على الجبهات في لبنان واليمن والعراق، حيث إن عدم التوافق على هذا الملف من شأنه أن ينسف غرفة مجلس الحرب التي تأسّست وتطرح معها 3 سيناريوهات محتملة.
السيناريو الأول هو إمكانية أن توافق الأحزاب الحريدية على خطة تجنيد يتم الاتفاق عليها بين الليكود وغانتس وآيزنكوت، أما الخيار الثاني إصرار الحريديم ورفضهم مثل هذا المخطط، وهذا سيؤدي إلى تفكيك الحكومة والتوجُّه إلى انتخابات مبكرة، بينما يكون الخيار الثالث هو استسلام غانتس.
ووفقًا للمشهد القائم حاليًّا، فإن غانتس الذي تعطيه استطلاعات الرأي فرصة الترشيح الأولى لشغل منصب رئيس الوزراء المقبل، إذا ما جرت انتخابات جديدة، فإنه لن يستسلم ولن يقدم المزيد من التنازلات، خاصة في قانون التجنيد الإلزامي.
وتبدو الخطوة الأخيرة بشأن قانون التنجيد تمّ تنسيقها بين غالانت وغانتس، حيث إن حكومة الطوارئ التي توسعت ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أسّست جسرًا بينهما، وهو ما يلاحظه نتنياهو الذي بات محاصرًا في ساحة سياسية متفجّرة، ويواجه تحديات ومشاكل من الصعب الخروج منها بأمان.
ومع تصاعد التوتر بين غالانت ونتنياهو المتواصل منذ تشكيل الحكومة، يعتقَد أن تصريحات وزير الحرب تعتبر مؤشرًا لانسحابه من ائتلاف حكومة نتنياهو، المؤلف من 64 عضوًا من أعضاء الكنيست، وهو تكرار للأمر الذي حصل ليلة 25 مارس/ آذار من العام الماضي، عندما ظهر غالانت أمام الكاميرات وطالب نتنياهو بوقف التعديلات على الجهاز القضائي، بسبب “الخطر الواضح والفوري على أمن الدولة”، وفي اليوم التالي عزله نتنياهو.
وللمرة الثانية يظهر غالانت أمام الكاميرات في ذروة وقت المشاهدة للإسرائيليين، وأشهر ثانية إشارة “قف” أمام نتنياهو، في إشارة إلى قانون التهرُّب من الخدمة العسكرية الذي يريد نتنياهو وشركاؤه الحريديم تمريره، و”هذه مسألة أمن قومي كبرى” كما قال وزير الحرب.
ومع اختلاف المشهد، لا يستطيع نتنياهو حاليًّا إقالة غالانت نظرًا إلى الأسباب الحالية والحرب الدائرة في غزة واشتعال جبهات أخرى، وبالتالي إن نتنياهو لو استطاع لأقاله مرة أخرى واستبدله بأي شخص من الليكود، ينفّذ طلباته ويرافقه في كل مخططاته.
أمام هذا المشهد، تواجه حكومة نتنياهو معضلة جديدة قد تفجّر الائتلاف الحاكم تمامًا مع نهاية الشهر الجاري إذا لم تحل قضية الحريديم، وستجعل الانتخابات المبكّرة التي يرفضها نتنياهو حاليًّا أمرًا واقعًا عليه، بعد أن سعى لتجنّبها من خلال إطالة أمد الحرب في غزة.