اعتمد مجلس الأمن الدولي في 8 مارس/ آذار الحالي، قرارًا مقدمًا من بريطانيا يدعو إلى وقف الأعمال القتال في السودان خلال شهر رمضان، مع ضمان إزالة أي عراقيل تعيق وصول المساعدات الإنسانية، علاوة على سعي أطراف النزاع للتوصّل إلى حلّ مستدام عبر الحوار.
جاء القرار بعد يوم واحد من دعوة مماثلة قدمها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، لوقف القتال احترامًا لقيم شهر رمضان، على أن يؤدّي ذلك إلى إسكات الأسلحة بشكل نهائي في جميع أنحاء السودان.
طرفا نقيض
رحّبت وزارة الخارجية السودانية الخاضعة للجيش بدعوة غوتيريس، لكن اشترطت انسحاب قوات الدعم السريع من المناطق التي تسيطر عليها، وإخراج عناصرها من الأعيان المدنية والمرافق العامة ومساكن المواطنين، وإعادة المنهوبات ووقف انتهاكاتها، مقابل تنفيذ دعوة وقف القتال في شهر رمضان.
وقالت الوزارة إن الجيش استجاب لمناشدة مماثلة للأمين العام للأمم المتحدة في رمضان السابق، كما التزم بالهُدَن التي أُقرّت في منبر جدة، وهو منبر يضمّ وساطة مشتركة من السعودية وأمريكا، لكن ميليشيا الدعم السريع استغلت الهدن المتكررة للتزوّد بالسلاح وتعزيز موقفها الحربي، واحتلال مزيد من مساكن المواطنين والمستشفيات ودور العبادة والأعيان المدنية.
في الواقع، إن ما تطلبه وزارة الخارجية ليس هدنة مؤقتة لوقف القتال في الشهر الفضيل، إنما استسلام لقوات الدعم السريع التي أبدت استعدادها لتنفيذ قرار مجلس الأمن، على أن تسهم خطوة وقف الأعمال العدائية في إيصال المساعدات وتسهيل حركتها.
وأبدت قوات الدعم السريع طموحًا في استغلال خطوة وقف القتال في شهر رمضان، لبدء مشاورات جادّة نحو إطلاق العملية السياسية التي تفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار وتحقيق الأمن والاستقرار، والوصول إلى حلّ شامل للأزمة السودانية، وإعادة تأسيس البلاد على أُسُس جديدة عادلة.
عادة ما يطلق الدعم السريع تصريحات على النقيض تمامًا من سلوكه الفعلي، الغارق في ممارسة أبشع الانتهاكات بحقّ المدنيين العزّل، ومع ذلك يُظهر الحرص على وقف الحرب واحترام حقوق الإنسان، بينما تعلن وزارة الخارجية مواقف الجيش المتشددة.
ويرجّح أن الدعم السريع وافق على الهدنة، بغرض إحراج الجيش أمام الجميع بالتأكيد على أنه يرغب في استمرار النزاع القائم منذ 15 أبريل/ نيسان 2023، كما أنها فرصة يتطلع إليها من أجل التقاط أنفاسه وتعزيز قواته وعتاده الحربي في القرى والمدن، خاصة بعد الهزائم التي تلقّاها مؤخرًا في أم درمان.
رفض مطلق
لم يعلق الجيش بصورة رسمية على قرار مجلس الأمن الدولي ودعوة الأمين العام للأمم المتحدة، لكن مساعد قائده العام وعضو مجلس السيادة، الجنرال ياسر العطا، أغلق الباب أمام وقف الأعمال القتالية خلال شهر رمضان، وقال: “ليس هناك هدنة بأمر الجيش والشعب”.
واشترط العطا تنفيذ أي هدنة بانسحاب قوات الدعم السريع من مدن دارفور وكردفان والجزيرة والعاصمة الخرطوم، إلى ثلاث معسكرات في الخرطوم وثلاث أخرى في دارفور، فيها يُسلم الدعم السريع الآليات العسكرية والأسلحة والسيارات، ومن ثم بدء تفاوض غرضه الأساسي تطبيق العدالة، حيث من يثبت القانون براءته يُنظر في تسريحه أو دمجه.
عواقب الرفض
اعتبر القانوني المعز حضرة، إن قرار مجلس الأمن الخاص بدعوة أطراف النزاع لوقف القتال في شهر رمضان، مُلزم ويستوجب على الجيش وقوات الدعم السريع تنفيذه، بعد أن صوتت لصالحه 14 دولة فيما امتنعت روسيا عن التصويت.
أبدى حضرة، الذي تحدث لراديو “دبنقا”، دهشته من رفض الحكومة لدعوة وقف الأعمال العدائية، حيث يمكن لمجلس الأمن في مرحلة لاحقة تبنّي عقوبات ضد الطرف الرافض لوقف إطلاق النار ومنع وصول المساعدات، باعتبار الرفض جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي تحويل الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية.
يقول القانوني حضرة إن قرار مجلس الأمن لم يصدر تحت أي من الفصلَين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يضع الأطراف أمام مسؤوليتها في تنفيذه، لكن صدوره بأغلبية ودون استخدام أي دولة حق الفيتو يُعتبر قرارًا ملزمًا لكل أعضاء الأمم المتحدة والأطراف المعنية.
ويشدد على أن القرار بشكله الحالي فرصة لطرفَي الحرب لتنفيذه دون اللجوء إلى العقوبات، لكن في حال رفض أي طرف تنفيذ القرار، سيلجأ مجلس الأمن إلى إصدار قرار جديد تحت الفصل السابع يفرض بموجبه العقوبات.
يمضي المحامي طارق الشيخ في السياق ذاته، ويقول إن ميثاق الأمم المتحدة أعطى مجلس الأمن حق اتخاذ أولوية تحدّ من قدرة الدولة وتجبرها على تنفيذ القرار، حيث يمكن حدوث ذلك عن طريق قطع الاتصالات معها ووقف تبادل البريد وقطع العلاقات الدبلوماسية.
ويشير الشيخ إلى أن مجلس الأمن يمكن، حال أصرّت الدولة على موقفها، استخدام القوة العسكرية لتنفيذ القرار، حيث إن ميثاق الأمم المتحدة يُلزم الأعضاء فيها تقديم كل المساعدات الممكنة، وتوفير القدرات العسكرية ووضعها تحت تصرف مجلس الأمن.
واعتبر المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية، جمال محمد إبراهيم، توجُّه مجلس الأمن لإصدار قرار بوقف الحرب خلال شهر رمضان، قُصد به تقديم تهديد مبطن بأنه ربما تكون هناك نية للاقتراب من الفصل السابع مستقبلًا، وهو فصل يتيح استخدام القوة العسكرية.
وتوقع إبراهيم أن خطوة مجلس الأمن القادمة هي التهديد باللجوء إلى الفصل السابع إذا لم تتوقف الحرب خلال شهر رمضان، مشددًا على أن تنفيذ الفصل السابع سيمثل هزة كبيرة، ما سيؤثر كثيرًا على كل دول جوار السودان، خصوصًا أنه محاط بعدد من الدول الأفريقية التي تعاني بدورها من أوضاع أمنية هشّة، لذا سيضطلع مجلس الأمن بمهمته في إيقاف هذه الحرب بالصيغة التي يقرّها ميثاق الأمم المتحدة.
لا يبدو أن أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين سيكونون متحمسين لاستخدام القوة العسكرية في السودان، إلا إذا خرجت الأوضاع عن السيطرة بصورة كاملة، لكن يرجّح استمرار ضغوطهم الدبلوماسية لحثّ طرفَي النزاع على ضرورة إنهائه عبر الحوار السياسي.
لماذا يرفض الجيش الهدنة؟
بدأ الجيش مؤخرًا في الانتقال من مرحلة الدفاع عن قواعده وامتصاص الصدمة وإنهاك الطرف الآخر، إلى مرحلة الهجوم التي تمضي بصورة بطيئة لكن بفعالية، حيث استطاع استرداد أجزاء واسعة من أم درمان ويحاصر ولاية الجزيرة بقوات ضخمة بغرض استعادتها.
وتسيطر قوات الدعم السريع على 4 من أصل 5 ولايات في إقليم دارفور وولاية الجزيرة وأجزاء من العاصمة الخرطوم وكردفان الكبرى، فيما بقية مناطق السودان، وتشمل ولايات سنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض والقضارف وكسلا والبحر الأحمر ونهر النيل والشمالية، خاضعة لهيمنة الجيش.
ويقول الصحفي أحمد حمدان لـ”نون بوست”، إن الجيش لم يعلق رسميًّا على موضوع الهدنة، باستثناء حديث مساعد قائده العام ياسر العطا، الذي جاء في فعالية تخريج قوات حركة العدل والمساواة، مشيرًا إلى أن التقدم العسكري الذي أحرزته القوات المسلحة في أم درمان يجعلها ترفض الهدنة.
ويضيف: “الجيش هذه الأيام في أحسن أحواله من حيث التسليح والمقاتلين، ويرى أنه يمكن أن يحقق نتائج أفضل في الميدان، لذلك رفض الهدنة”.
ويتابع: “الجيش حصل على تسليح جيّد، مثل طائرات مسيَّرة من إيران وتركيا عبر أوكرانيا مثلما تحدثت التقارير، كذلك حصل على عدد كبير من المقاتلين ممّن يتبعون للحركات المسلحة، وقد جرى استخدامهم فعليًّا في معارك أم درمان وساعدوا الجيش في تقدمه على حساب قوات الدعم السريع”.
ويؤكد حمدان على أن سيطرة حزب المؤتمر الوطني -الذي كان يتزعّمه الرئيس المعزول عمر البشير- على قرار الجيش، تجعله يمضي في طريق الحل السلمي لعلمه أن نتائج التفاوض ستكون ضده.
وأرجعت الصحفية شمائل النور في حديثها لـ”نون بوست”، رفض الجيش لدعوات الهدنة إلى انعدام الثقة بين طرفَي النزاع، نظرًا إلى تجارب الهدن السابقة التي جرى خرقها، علاوة على أن المسائل المتعلقة بالمدنيين خارج حسابات الطرفَين.
وتضيف: “الجيش يعتبر أي هدنة بمثابة تراجع عن وضعه العسكري المتحسّن في أم درمان، لذلك إن وافقت قيادته على وقف إطلاق النار مؤقتًا، فأن القادة الميدانيين والجنود سيكون لهم رأيًا مغايرًا“.
إضافة إلى ذلك، الوضع الميداني الحالي بسيطرة الدعم السريع على بقاع شاسعة من السودان، يصعّب على الجيش القبول بأي هدنة ولو لأغراض إنسانية، خوفًا من أن يستغلها الأول لتأكيد تواجده فيها، عبر التفرغ لتقديم الخدمات وربما تشكيل حكومات محلية.
وستؤثر موافقة الجيش على الهدنة على تحركات التعبئة والتحشيد التي يقوم بها لتجييش الجميع ضد قوات الدعم السريع، بما في ذلك المدنيون الذين انضموا إليه تطوعًا فيما يُعرف بالاستنفار، أو الذين انخرطوا في المقاومة الشعبية المسلحة لتأمين مناطقهم من أي مخاطر محتملة، علاوة على حملات التجنيد التي تقوم بها بعض الحركات المسلحة للقتال إلى جانبه.