الاستشراق الغربي.. شواهد الانتصار والهزيمة

old-arabic-manuscript-islam-science-muslim

شهدت أروقة الفكر الإسلامي الحديث جدالات شتى لاستبانة فحوى مصطلح “الاستشراق” وكشف هويته الحقيقية من خلال تقصي النوايا الحقيقية لدراسات المختلفة للمدونة التراثية الإسلامية وقضايا المسلمين التاريخية والاجتماعية.

ولقد آلت تلك الجهود إلى اتجاهات متعددة في إيضاح مصطلح “الاستشراق” وإبراز حدِّه وفقًا لمواقف أصحابها من الظاهرة الاستشراقية، تندرج هذه الجهود ضمن اتجاهين رئيسيين: اتجاه معرفي وآخر سياسي، الاتجاه المعرفي يعتبر الاستشراق ميدانًا علميًا من ميادين الدراسة والبحث، والسياسي لا يرى في الاستشراق سوى مؤسسة غربية ذات أهداف متعددة.

في فهم أوسع نطاقًا، وانطلاقًا من التوفيق بين الاتجاهين يمكن القول بأن ظاهرة الاستشراق جاءت وليدة الصراع بين الشرق والغرب، فقد وجد الغربيون أنفسهم إثر الهزائم التي أُلحقِت بهم عقب فلول الغزو الصليبي على بلاد الإسلام في غضون القرن الحادي عشر، وتلك التي مُني بها حلفاءهم المغول بعد غزوهم الصين وكوريا وبغداد في القرن الثاني عشر، مضطرين إلى تغيير استراتيجياتهم في الصراع الحضاري مع الشعوب الشرقية، فاتجهوا إلى دراسة بلاد الشرق وشعوبها في كل شؤونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات، ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها وإلى مواطن الضعف فيها فيغتنموها.                                        

الاستشراق في العالم العربي والإسلامي

بحكم هذا الارتباط العضوي بين الاستشراق والاستعمار الغربي، فقد أُوكلت للمستشرق مهمة جمع المعلومات وترجمة النصوص من النص العربي وإليه حسب الحاجة، وتفسير التاريخ والأساليب الحضارية والأديان والتقاليد وصياغة علاقة الأسر الحاكمة بالشعوب التي تحكمها، ويقوم المستشرق بهذه المهام كخبير يفسر قضايا الإسلام ومظاهر حياة المسلمين لحكومته الاستعمارية ويعينها على فهم شعوبه وحكمها.

بحسب إدوارد سعيد فإن الأساس العام للفكر الاستشراقي منذ أواخر القرن الثامن عشر يقوم على هيكل جغرافي، إذ يقسم العالم إلى قسمين غير متساويين: قسم “متخلف” اسمه الشرق وآخر يُعرف باسم “عالمنا” وهو الغرب.

الاستشراق السلاح الأقوى في يد الاستعمار الإمبريالي الذي مكنه من اختراق العالم العربي والإسلامي وبسط نفوذه وسيطرته عليه

مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وما آلت عليه من استعمار أوروبا لما يقارب 85% من الأرض، لم يعد مثار خلاف أن الاستشراق بات يمثل جانبًا من جوانب الإمبريالية والاستعمار، حيث مكنت العملية التراكمية للاستشراق الاستعمار من التحكم بالأراضي والبشر، ومن أكبر شواهد انتصار الاستشراق أن أصبح العالم الثالث عمومًا والعالم العربي الإسلامي بشكل خاص مستهلكين للأخبار، حيث أصبح يعلم عن ذاته ويتعرف عليها عبر صور وتواريخ ومعلومات مصنعة في الغرب.

يختلف محمد أركون عن إدوارد سعيد في نظرته للاستشراق، التي غلب عليها الاتجاه المعرفي أكثر من السياسي، فمشكلة الاستشراق عند أركون أن هناك فرقًا كبيرًا بين أسلوب البحث العلمي المطبّق على المجتمعات الغربية وأسلوب البحث المطبّق على المجتمعات الأجنبية، فلو طبق المستشرقون منهجهم كاملاً على الإسلام، لا النظرة التقليدية الاحتقارية، تمامًا كما طبقوه على تراثهم الغربي، لما ظهرت فكرة الإخوان المسلمين وفكرة الحاكمية، وغيرها من الأفكار المنغلقة التي ترسخ الأرثوذكسية الدينية، واتهم أركون أولئك المستشرقين باتخاذ موقف الاستقالة الثقافية والعقلية وخيانة التنوير.

مثّل الاستشراق السلاح الأقوى في يد الاستعمار الإمبريالي الذي مكنه من اختراق العالم العربي والإسلامي وبسط نفوذه وسيطرته عليه، فقد أعاد الاستشراق تعريف القضايا المختلفة ممهدًا الطريق أمام المنظومة الاستعمارية التي قسمت العالم العربي إلى أقطار ودول، ومن ثم طبقت سياسة الفوضى الخلاقة، ولعبت على وتر النعرات الطائفية  فنقلت التجربة الأرثوذكسية الدينية لتمزق العالم العربي الإسلامي بعد أن مزقت الغرب لقرون، واليوم يوسم الإسلام في الغرب بالإرهاب وبالثقافة الهدّامة، ويُعاد رسم حدود الدول العربية من جديد ترسيخًا للسيطرة الاستعمارية الغربية للقرون القادمة.

روسيا لم تصبح عدوة للغرب لأنها اعتنقت الشيوعية، بل لما تمثله في الشرق، والأصح قوله إنها تبنت الشيوعية كرد فعل طبيعي على الاستشراق الغربي وأهدافه الاستعمارية

روسيا والاستشراق

تمثل روسيا القوة الأعظم في الشرق، ولهذا كان من الحيوي والطبيعي أن تمثل العدو التقليدي بالنسبة للاستعمار الغربي، لما تمثله روسيا من خطر في وجه الأطماع الاستعمارية الغربية في الشرق، خصوصًا إذا ما نشأ أي تواصل أو تحالف بين روسيا وشعوب الشرق، الذي من السهل التمهيد له وتحقيقه حضاريًا وجغرافيًا واقتصاديًا وعسكريًا.

ما تمثله روسيا في الشرق، جعل المستشرقين والمنظرين الغربيين يصورون الاتحاد السوفيتي بأنه إمبراطورية الشر ويحاربون الشيوعية التي كانت تحكم الاتحاد السوفيتي آنذاك من خلال التركيز على أوجه الاختلاف الكبيرة بين “الغرب الرأسمالي” و”الشرق الشيوعي”،خاصةً لجهة الحريات الفردية في الغرب وانعدام حقّ الاختيار في الشرق.

قد يمثل انهيار الاتحاد السوفيتي انتصارًا للدعاية والاستشراق الغربي الذي استهدف تدمير الشيوعية، ولكن ها هي روسيا اليوم لا تزال عدوة للغرب الرأسمالي الاستعماري بعد انهيار مرحلة تبني الشيوعية. فروسيا لم تصبح عدوة للغرب لأنها اعتنقت الشيوعية، بل لما تمثله في الشرق، والأصح قوله إنها تبنت الشيوعية كرد فعل طبيعي على الاستشراق الغربي وأهدافه الاستعمارية.

من جانب آخر، فإن روسيا بنفسها أيضًا مارست الاستشراق، ولكنه لم يصدر بدافع العداء بين الغرب والشرق الإسلامي، وإنما كان هذا الاستشراق بدافع الفضول المعرفي الإنساني، مما يجعل الاستشراق الغربي مهزومًا في المجال المعرفي والإنساني.

لم تعد الصين تجهل ثقافة الغرب أو لا تعيرها اهتمامًا، بل أصبح الغرب لا يكاد يعرف شيئًا عن الصين ولا يبذل من الجهد إلا القليل للتعرف عليه، ويدفع الغرب ثمن جهله وسيستمر في دفع هذا الثمن

عقائد شرقية هزمت الاستشراق 

العقيدة الكونفوشيوسية

ركزت العقيدة الكونفوشيوسبة الصينية على تقديس الأسلاف، وقدمت معالجة عقلانية لعلاقة السماوي بالأرضي، والمحكوم بالحاكم، والأهل بأبنائهم، والرجل بالمرأة، والأخ بأخيه، مما جعلها عميقة في وجدان الشعب الصيني ما زالت روحها حاضرة حتى يومنا هذا.

بقت الكونفوشيوسية العقيدة الرسمية في الصين حتى سيطرة الشيوعية عام 1949، وبعد موت الزعيم الصيني الشيوعي الشهير ماو تسي تونج بدأ التراجع عن الشيوعية في الصين، وبدأت رياح الغرب تهب عليها، ولكن روح الكونفوشيوسية بقت حاضرة في ظل الشيوعية وحتى بعد انتهائها، وحتى هبوب رياح الغرب لا يعني انتصار الغرب، فما زال الحزب الشيوعي هو الحاكم في الصين، وإنما التواصل الصيني مع المحيط الخارجي ازداد عما سبق.

ما يجري في كاتالونيا اليوم يُعرّي المنظومة الغربية ويمثل أبهى شواهد هزيمتها ثقافيًا وإنسانيًا

ما يميز الكونفوشيوسية بأنها تمتلك سيطرة روحية على الشعب الصيني، ولهذا لم تندثر مع مرور العقائد المختلفة، وهذا ما جعل الصين دولة متماسكة أمام الزحف والهجوم الاستشراقي الغربي.

اعتبر الصينيون أنفسهم منذ أمد طويل أكثر الناس ثقافة وأكثرهم أهمية وأنهم في الحقيقة وحدهم القوم الذين لهم أهمية على وجه الأرض، وكانوا يعتقدون أن الشعوب الأخرى كافة “همج”، وكان اتصالهم بالعالم الخارجي اتصالاً بسيطًا، تبدل الوضع الآن، إذ لم تعد الصين تجهل ثقافة الغرب أو لا تعيرها اهتمامًا، بل أصبح الغرب لا يكاد يعرف شيئًا عن الصين ولا يبذل من الجهد إلا القليل للتعرف عليه، ويدفع الغرب ثمن جهله وسيستمر في دفع هذا الثمن.

العقيدة الجوتشيه

“الجوتشيه” هي العقيدة الرسمية لكوريا الشمالية، والتي أرسى مبادئها الزعيم الراحل كيم سونغ، ويقوم المبدأ الرئيسي لهذه العقيدة على أن “الإنسان هو سيد ومقرر كل شيء”  وجماهير الشعب هم سادة الثورة، تقوم فلسفة الجوتشيه على ثلاثة أمور: استقلال القرار السياسي والاكتفاء الاقتصادي الذاتي والدفاع الوطني الذاتي.

على الرغم من القيود الاقتصادية والعقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، لا يبدو أنها تلحق ضررًا كبيرًا بكوريا الشمالية، ويمكن أن نعزو ذلك إلى اعتياد هذه الدولة على اعتمادها على نفسها بشكل مطلق في مناحي الحياة كافة. وهذا جعلها عصية أمام الانهيار والغزو الاستشراقي الاستعماري.

إن ما يجري في العالم العربي والإسلامي من تشرذم وتمزق، قد يعني انتصار الاستشراق الغربي في تحقيق مبتغاه، ولكن خيانة غالبية المستشرقين للمنابر الثقافية والعقلية، بإحجامهم عن تطبيق المنهج العلمي الكامل، والذي تحدث عنه محمد أركون يعني بالضرورة أن الثقافات الغربية تشهد تراجعًا كبيرًا على مستوى الفلسفة والسلوكيات والعجز عن الحفاظ على القيم الإنسانية.

حذر بعض قادة الغرب من أن يتحول القرن الحادي والعشرين إلى قرن آسيوي بامتياز اقتصاديًا وثقافيًا

من جانب آخر فإن الاستشراق قابله استغراب، وإن افترضنا أن الاستغراب استنبط الغربي المفيد وغير المفيد، فإنه كان متوجهًا في الإطار المعرفي البحت بعكس الاستشراق الذي كان يغلب على أداء معظمه الطابع التشويهي للشرق.

أدرك بعض قادة الغرب الخطورة التي تدركهم بفعل الاستشراق التشويهي، فقد شهدت السنوات الماضية تزايد اهتمام العالم بالصين وكوريا وباقي البلدان الآسيوية بعد أن فرضت نفسها كقوى اقتصادية قادرة على المنافسة في شتى المجالات، وحذر بعض قادة الغرب من أن يتحول القرن الحادي والعشرين إلى قرن آسيوي بامتياز اقتصاديًا وثقافيًا.

التاريخ يكتبه المنتصرون، ولكن اليوم تخفت أصداء هذه المقولة في ظل تفاوت مستويات الغرب نفسه، وخروج مجموعات غربية مدافعة عن القيم المعرفية والإنسانية، وما يجري في كاتالونيا اليوم يُعرّي المنظومة الغربية ويمثل أبهى شواهد هزيمتها ثقافيًا وإنسانيًا، وهذا النوع من الهزائم يمهد الطريق إلى هزيمة الغرب الكُبرى.