ترجمة وتحرير: نون بوست
تظهر الأحداث الأخيرة مدى تقلب الوضع السياسي في الشرق الأوسط. فقبل عام من الآن، صرحت في هذا العمود أن حكومة إقليم كردستان ستبقى حليفا رئيسيا لتركيا في العراق في المستقبل المنظور. آنذاك، كانت أنقرة وبغداد تتبادلان الشتائم بعد الرفض العراقي التام السماح لتركيا بالمشاركة في تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة. كما طالبت بغداد بانسحاب القوات التركية “غير المدعوة” من بعشيقة قرب الموصل.
في المقابل، سارعت حكومة إقليم كردستان بتقديم غطاء شرعي للوجود العسكري التركي في بعشيقة. حينها، أكدت أنقرة أن أكراد العراق أرادوا من القوات التركية تدريب مقاتلي البشمركة في العراق استعدادا لمجابهة تنظيم الدولة. وفي هذا السياق، قال نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، للصحفيين بعد أن طالب البرلمان العراقي بانسحاب القوات التركية، “فيما يتعلق بعشيقة، أنتم تعلمون أن إدارة مسعود بارزاني أرادت منذ البداية من تركيا أن تقوم بتدريب القوات المحلية لتحرير الموصل”.
في الوقت نفسه، أعرب الرئيس رجب طيب أردوغان عن غضبه من رفض بغداد السماح لتركيا بالمشاركة في تحرير الموصل، وراح يوبخ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي. وفي اتصال هاتفي مع العبادي، أورد أردوغان أن “تركيا لا تحتاج إلى إذن من أي شخص للمشاركة في عملية تحرير الموصل”. في الأخير، دخل العبادي الموصل بدعم من الولايات المتحدة، في حين رفضت تركيا سحب قواتها من بعشيقة، وبقيت النقطة الحساسة العالقة بين الجانبين.
في الواقع، ساهمت المغامرة التي خاضها رئيس حكومة إقليم كردستان، مسعود بارزاني، من خلال إجراء استفتاء الاستقلال في تغيير كل شيء، ما أجبر تركيا والعراق على التحالف ضد حكومته. وقد سر أنقرة رؤية حكومة إقليم كردستان تفقد موقعها في كركوك، وعرضت على بغداد تقديم المساعدة التي تحتاجها. كما تبين أيضا أنها سرت بهروب عشرات الآلاف من الأكراد، الذين تم توطينهم في المدينة الغنية بالنفط بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003.
حذرت وحدات الحشد الشعبي تركيا من عواقب وجود قواتها في بعشيقة ما لم تنسحب، واعتبرت الوجود التركي “احتلالا”
حيال هذا الشأن، تُجادل أنقرة بأن توطين الأكراد في كركوك كان يهدف إلى تغيير ديموغرافيا المدينة بشكل مصطنع، وتؤكد أن مدينة تركمانية تاريخيا، إلا أن علاقاتها المتوترة مع بغداد جعلتها تتجاهل هذه المسألة مع حكومة إقليم كردستان في السنوات الأخيرة. كذلك، من غير المؤكد ما إذا كانت سيطرة بغداد على المدينة، بمساعدة وحدات الحشد الشعبي المدعومة من قبل إيران، ستحظى بموافقة الحكومة التركية.
علاوة على ذلك، هناك مشكلة أخرى تكمن في أن وحدات الحشد الشعبي تعتبر بالنسبة لتركيا جماعة إرهابية شيعية، إذ لم يمض زمن بعيد عن تصريح محللين حكوميين أتراك بأن الحشد الشعبي ليس أقل سوءا من تنظيم الدولة”. وعندما كانت وحدات الحشد الشعبي تستعد لاستعادة تلعفر من تنظيم الدولة سنة 2016، حذر أردوغان من أنه إن تم ترهيب سكان المدينة، التي صرح بأنها “مدينة تركمانية بالكامل”، فإن تركيا ستتدخل، خاصة أنها أرادت منع الحشد الشعبي من المشاركة في عملية تحرير الموصل ولكنها فشلت في ذلك.
من جهتها، حذرت وحدات الحشد الشعبي تركيا من عواقب وجود قواتها في بعشيقة ما لم تنسحب، واعتبرت الوجود التركي “احتلالا”. ولكن، توقفت مثل هذه الخلافات الخطيرة بين بغداد وأنقرة بشكل مؤقت، حيث يحاول الطرفان الآن تنسيق عملياتهما المشتركة ضد حكومة إقليم كردستان، بيد أنه من المتوقع أن تظل كركوك محل خلاف في المستقبل.
بدفع من حزب الحركة القومية، المقرب من حزب العدالة والتنمية الحاكم، يرى القوميون الأتراك أن كركوك تركية المنشئ. خلافا لذلك، يعتبر الحزب أيضا أن الآلاف من أنصاره مستعدون للقتال والموت من أجل المدينة، التي كما يقول، قد تم الاستيلاء عليها بشكل غير قانوني من تركيا إبان الحرب العالمية الأولى. وقد تثير هذه التصريحات مخاوف بغداد بشأن نوايا تركيا من التدخل في العراق. بناء لذلك، يعتقد معظم الدبلوماسيين الأتراك أن بغداد لن تسمح لأنقرة بالتدخل في مصير كركوك، لوجود أصحاب هذا الفكر في تركيا.
يبدو جليا أن مخاوف الأتراك من التحركات الكردية قد تضخم بشكل كبير بعد الاستفتاء الذي قامت به حكومة إقليم كردستان
في شأن ذي صلة، تنص المادة 140 من الدستور العراقي المعتمد في سنة 2005 على إجراء استفتاء لتحديد ما إذا كان مواطنو كركوك يرغبون في الانضمام إلى إقليم كردستان. منذ ذلك الحين، طرأت العديد من المتغيرات في المنطقة من الناحية الديموغرافية والسياسية والعسكرية، مما يجعل من الصعب إجراء هذا الاستفتاء.
على ضوء هذه المعطيات، يعتقد دبلوماسي غربي تحدث إلى “المونيتور” بشكل غير رسمي لحساسية منصبه، أنه لا يوجد ما سيدفع الحكومة المركزية إلى قبول شريك في إدارة كركوك. كما قال هذا الدبلوماسي، الذي يعرف المنطقة بشكل جيد، “مع فرار الأكراد من كركوك، تشكلت فرصة جيدة للحكومة المركزية ذات الغالبية الشيعية، للسيطرة على المدينة ومرافقها النفطية، ويدفعها كل هذا لرفض تقاسم السلطة”.
في سياق متصل، أضاف المصدر نفسه “لن يكون هناك ما يدفع الحكومة المركزية للخروج عن مسارها واستيعاب التركمان السُّنة، وخاصة المجموعات التركمانية التي تدعمها أنقرة سياسيا وماليا منذ سنوات”. وأفاد الدبلوماسي أن “التدخل الإيراني أفضل من التدخل التركي فيما يتعلق بمستقبل كركوك”. وفى الوقت نفسه، فإن الإشكاليات العالقة بين أنقرة وبغداد، وعلى رأسها الوجود العسكري التركي في بعشيقة، قد أجبر رئيس الوزراء بن علي يلدرم على إلغاء زيارته المتوقعة لبغداد.
من هذا المنطلق، يبدو جليا أن مخاوف الأتراك من التحركات الكردية قد تضخم بشكل كبير بعد الاستفتاء الذي قامت به حكومة إقليم كردستان، ما قد يمنع الدوائر الرسمية من بث مخاوفها فيما يخص حكومة العبادي. ومع ذلك، هناك مراقبون، بعضهم مقرب من الحكومة، يؤكدون على أنه في حين أن تركيا سعيدة بمغادرة الأكراد من كركوك، فإن النتيجة النهائية لذلك يمكن أن لا ترضي أنقرة.
أيد العميد المتقاعد، نعيم بابوروغلو، من يقولون إن تأثير تركيا في كركوك سيكون محدودا. لكنه يعتقد أن بعض العراقيل، مثل وجود قوات الحشد الشعبي في كركوك أو مستقبل المدينة، لا تحمل أولوية كبرى بالنسبة لتركيا
في هذا الإطار، قال مدير الأبحاث في منتدى الشرق، غالب دالاي، في مقال نشرته صحيفة “كرار” اليومية، “حينما تُعد تركيا سياستها الجديدة في العراق، يجب عليها ألا تستثمر في مخطط أعمال الحكومة المركزية في العراق وإيران. وطالما أنها تواصل في الاتجاه الحالي، فإن تركيا قد لن تتمكن من ترك بصمتها في الحكومة العراقية المركزية”.
من جانبه، أعرب أفوك أولوتاس، مدير السياسة الخارجية في مؤسسة البحوث الاقتصادية والاجتماعية التي ترعاها الحكومة التركية، عن أسفه من الإزعاج الذي تسبب به بارزاني لتركيا. وفي مقال نشرته صحيفة آقشم الموالية للحكومة، قال أولوتاس إن بارزاني ألقى الأكراد في دوامة صراع مفتوح بإجرائه الاستفتاء. كما أضاف أن بارزاني زاد بدوره من نفوذ إيران وقوات الحشد الشعبي العراقي الذي لن يعجب تركيا.
بالإضافة إلى ذلك، أورد أولوتاس ان حزب العمال الكردستاني قد حصل أيضا على فرصة تاريخية لزيادة نفوذه في شمال العراق، بفضل ما قام به بارزاني. كما أيد العميد المتقاعد، نعيم بابوروغلو، من يقولون إن تأثير تركيا في كركوك سيكون محدودا. لكنه يعتقد أن بعض العراقيل، مثل وجود قوات الحشد الشعبي في كركوك أو مستقبل المدينة، لا تحمل أولوية كبرى بالنسبة لتركيا.
في هذا الصدد، أكد بابوروغلو “للمونيتور”، أن “التطورات في العراق ليست بمعزل عن التطورات الحاصلة في سوريا، حيث اكتسب الأكراد دعما أمريكيا وروسيا لا بأس به”. وأضاف أن “تركيا تدعم وحدة الأراضي العراقية التي تهددها الإدارة الكردية، بالإضافة إلى حزب العمال الكردستاني الذي استغل الاضطرابات لتعزيز موقعه في شمال العراق”.
بناء على ذلك، رأى بابوروغلو أن “أهون الشرين بالنسبة لتركيا هو دعم الحكومة المركزية في سيطرتها على كركوك، تحت غطاء الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية ضد المطامع الكردية”، كما أكد أن استقلال الأكراد يظل التهديد الرئيسي لتركيا.
المصدر:المونيتور