ترجمة وتحرير:نون بوست
في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 2017، أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارة إلى صربيا، وأثناء تواجده هناك، التقى أردوغان بنظيره الصربي، ألكسندر فوتشيتش. وفي هذا الإطار، أورد أردوغان “بالتعاون مع صربيا وكل منطقة البلقان سنسعى لحل كل المشاكل”. وقد أيد فوتشيتش هذا الكلام مؤكدا أن “تركيا اليوم تعتبر صديقة”.
في الواقع، كانت زيارة أردوغان إلى صربيا رسمية ومتبادلة، كما أظهرت أن تركيا باتت لاعبا رئيسيا في البلقان. وبالنظر لحالة التوتر التي تشهدها العلاقات التركية حاليا مع عدة دول في العالم، فإن منطقة البلقان يمكن اعتبارها شاهدة على نجاح السياسة الخارجية التركية.
في ظل التاريخ الطويل المشترك بين الطرفين ضمن ميراث الإمبراطورية العثمانية، فإن التأكيد على متانة العلاقات بين تركيا والبلقان ربما لا يكون خبرا جديدا أو مفاجئا. ولكنه يمثل بداية جديدة ومختلفة بعد حوالي قرن كامل من السياسة الخارجية التركية، التي كانت مختلفة. فبعد هزيمة الدولة العثمانية في حروب البلقان، وانهيارها بعد الحرب العالمية الأولى، انقطعت الصلة تقريبا بين المنطقة وتركيا الأتاتوركية. إذ أن السياسة الخارجية للجمهورية الجديدة التي أقامها أتاتورك، لم تنتبه لأهمية منطقة البلقان الإستراتيجية ولم توليها اهتماما.
عوضا عن ذلك، كانت الدبلوماسية التركية مقيدة بمبدأ أتاتورك الشهير: “السلام في الداخل، السلام في العالم” وتحت هذا الشعار توقفت تركيا عن السعي لكسب القوة والنفوذ في البلدان التي كانت سابقا تابعة للإمبراطورية العثمانية. وتواصلت هذه السياسة خلال مرحلة الحرب الباردة، حيث انحصر التواصل بين الطرفين في العلاقات الدبلوماسية. وكانت هذه المنطقة من وجهة نظر أنقرة مهمة فقط في سياق جهود التصدي للتهديد السوفيتي، ومن أبرز هذه الجهود المحاولة الفاشلة في الخمسينات لعقد اتفاق البلقان بين تركيا واليونان ويوغوسلافيا.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور دول في آسيا الوسطى تتكلم اللغة التركية، إلى جانب تقسيم يوغوسلافيا والحروب التي تلتها، ساهم ذلك إعادة تنشيط مكانة تركيا كقوة إقليمية في المنطقة. كما أن دعم تركيا لمسلمي البوسنة وألبانيا في حروب البوسنة وكوسوفو أثار مخاوف حكومات البلقان، خاصة في بلغراد وأثينا، من استفاقة هذا المارد مجددا.
خلال فترة أحمد داوود أوغلو، اكتسبت السياسية الخارجية التركية نسقا أكثر اتساقا وواقعية
خلال سنوات التسعينات، كان هذا الخوف متجسدا في فكرة “الهلال الإسلامي”، التي تسمى أيضا “الخط الأخضر”، في إشارة لامتداد الأراضي التي يسكنها المسلمون البلقان. كانت هذه الأراضي تمتد عبر تركيا، وبلغاريا، ومقدونيا، وألبانيا، ومحافظة سنجق الصربية التي يسكنها المسلمون، وكوسوفو، والبوسنة والهرسك. وقد فسر البعض هذا الدعم التركي على أنه محاولة لعزل اليونان عن امتدادها البلقاني وقطع الطريق والعلاقة بين أثينا وبلغراد.
في الحقيقة، ربما يكون من السهل الآن نسيان أنه في سنوات التسعينات كان هناك خوف لدى السياسيين الأمريكيين، على غرار هنري كيسنجر والمفكر المنتمي للمحافظين الجدد جوشوا مورافشيك، من توسع رقعة حروب البوسنة نحو كوسوفو ومقدونيا، ثم تورط تركيا واليونان في حرب بلقانية واسعة النطاق.
خلال فترة أحمد داوود أوغلو، اكتسبت السياسية الخارجية التركية نسقا أكثر اتساقا وواقعية، مع العلم أن أوغلو عبقري سياسي تقلد منصب وزير الخارجية بين سنة 2009 و2014، ومنصب رئاسة الوزراء بين سنة 2014 و2016. وقد ألف داوود أوغلو كتابا بعنوان “العمق الإستراتيجي: الموقع الدولي لتركيا”، وهو كتاب لم تتم ترجمته أبدا للإنجليزية. وقد اعتبر داوود أوغلو في كتابه أن تركيا يجب أن تستعيد مكانتها في منطقة أوراسيا، وستحقق ذلك عبر استعادة الأراضي التي كانت تتبع سابقا الحكم العثماني، و من بينها البلقان، عبر سياسة خارجية نشطة.
على خلاف سياستها في الشرق الأوسط، لم تحظ السياسة التركية تجاه البلقان بأي اهتمام دولي من شاكلة. ولكن يبدو أن الكثيرين في الغرب غفلوا عن الاهتمام الخاص الذي أولاه داوود أوغلو للبلقان في كتابه. فقد أشار في كتابه لحروب البلقان، إلى أن هذه هي المنطقة التي بدأ فيها انهيار الإمبراطورية العثمانية. وأكد داوود أوغلو أن تركيا عبر حضورها القوي في البلقان يمكنها فرض نفسها كقوة أوروبية. كما اعتبر داوود أوغلو أنه دون منطقة نفوذ وخطوط دفاع في البلقان، لن تتمكن تركيا من ممارسة نفوذها بشكل فعال في الشرق الأوسط أو أوراسيا. ولبلوغ هذه الغايات المعقدة، كتب داوود أوغلو أن أنقرة تحتاج لعقد تحالفات وتقوية الجاليات المسلمة عبر دول البلقان.
عملت تركيا على مبادرات دبلوماسية أخرى مع البلقان، حيث قامت بجهود وساطة بين اثنتين من الطوائف المسلمة في صربيا، إحداهما في بلغراد، والأخرى في سنجق
خلال سنة 2008، خدمت الأزمة المالية التي اجتاحت اقتصادات العالمية هذه المصالح التركية، حيث انشغلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالشؤون الداخلية، بينما عملت تركيا، التي لم يتأثر اقتصادها بنفس حدة تضرر الدول الغربية، على ملئ الفراغ بواسطة الدبلوماسية والدعم الاقتصادي. كما كانت أنقرة جادة في فرض دورها الجديد في البلقان وعلاقتها الخاصة مع مسلمي المنطقة، بيد أن التصريحات العديدة والواثقة التي أدلى بها المسؤولون الأتراك في هذا السياق، أثارت حفيظة بلغراد.
في الطرف المقابل، اعتمدت دول البلقان الأخرى مثل بلغاريا خطة تقسيم الصفوف والآراء تجاه تركيا. فأثناء زيارة أردوغان لمدينة بريزرن في إقليم كوسوفو سنة 2013، قال رئيس الوزراء الصربي حينها “لا تنسوا أن تركيا هي كوسوفو، وكوسوفو هي تركيا”. وحدث أمر مشابه من الجانب الآخر سنة 2016، فبعد وقت قصير من تنحيته من منصبه، كان داوود أوغلو في زيارة لحضور إعادة بناء مسجد هدمته الحرب في منطقة بانجا لوكا، التي تمثل الجزء الصربي من البوسنة، حيث قال: “لقد كنا هنا، نحن هنا، وسنظل هنا للأبد”.
في شأن ذي صلة، عملت تركيا على مبادرات دبلوماسية أخرى مع البلقان، حيث قامت بجهود وساطة بين اثنتين من الطوائف المسلمة في صربيا، إحداهما في بلغراد، والأخرى في سنجق. كما أطلقت مسار مصالحة ثلاثي بين تركيا، وصربيا والبوسنة والهرسك. ونجحت أنقرة أيضا في إقامة شراكة هامة مع مقدونيا. ولم يكن ذلك يهدف فقط للإضرار بمصالح اليونان، بل لأن تركيا استفادت من مقدونيا لتجد نفسها في قلب الامتداد الجغرافي للبلقان، باعتبار أن مقدونيا محاذية لصريبا، وألبانيا، وبلغاريا واليونان.
بناء على ذلك، يبدو أن البلقان هي المنطقة التي حققت فيها السياسة الخارجية التركية نجاحا كبيرا. أما في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز فقد واجهت المساعي التركية مقاومة روسية. أما في الشرق الأوسط تبدو علاقة أنقرة بجيرانها مليئة بالشكوك والعداء، وهو ما تسبب في تقويض السياسة التركية الخارجية التي وضعها داوود أوغلو حسب مبدأ “صفر مشاكل” مع الجيران.
تواجه تركيا عقبات حقيقية في محاولاتها لتحويل البلقان إلى منطقة نفوذ إستراتيجية بالنسبة لها. وأول هذه العقبات تتمثل في أن معظم السكان المسيحيين في المنطقة يعتبرونها طرفا غير محايد يقف إلى صف المسلمين في بلدانهم
منذ بداية أزمة اللاجئين سنة 2015، كسبت تركيا المزيد من النفوذ في البلقان. وبفضل قدرة أردوغان على تهديد الاتحاد الأوروبي باستخدام ورقة تدفق المهاجرين، اكتسبت تركيا أهمية أكثر من أي وقت مضى لدى دول البلقان. كما حاولت تركيا كسب عقول وقلوب المسلمين في هذه المنطقة، وهو ما يمكن رؤيته من خلال تمويل مسجد “نامزغا” في العاصمة الألبانية تيرانا، الذي يعتبر أكبر مسجد في البلقان. وفي ظل تزايد التوجهات الدكتاتورية في البلقان، نجحت تركيا بقيادة أردوغان في تقديم نفسها كنموذج سياسي يحتذى به لهذه الدول، التي وجدت نفسها خارج المؤسسات الدولية ولا تحظى باهتمام الغرب.
مما لا شك فيه، لم يمر هذا الحضور المتزايد لتركيا دون أن يلاحظه الاتحاد الأوروبي. فمع تفاقم الأزمة بين أنقرة والاتحاد، تصر تركيا إلى جانبها روسيا على كبح النفوذ الأوروبي في البلقان، حتى أن بعض الناس يعتقدون أن تركيا قد يصل بها الأمر إلى دعم توحيد كل الألبان ضمن دولة ألبانية واحدة.
رغم بعض النجاح، تواجه تركيا عقبات حقيقية في محاولاتها لتحويل البلقان إلى منطقة نفوذ إستراتيجية بالنسبة لها. وأول هذه العقبات تتمثل في أن معظم السكان المسيحيين في المنطقة يعتبرونها طرفا غير محايد يقف إلى صف المسلمين في بلدانهم. ولم يظهر هذا بشكل أكثر وضوحا من سنة 2013 في بلغراد، في إطار ردود الفعل على تصريح أردوغان في كوسوفو، حيث انسحبت بلغراد من لقاء ثلاثي جمعها إلى جانب تركيا والبوسنة.
بالنظر لتاريخ الدولة العثمانية، تحتاج تركيا للتصرف بكثير من الحساسية والدقة حتى لا ينجر عن دعمها لمسلمي البلقان كسب عداء المسيحيين. ثانيا، تعتبر تركيا دائما أن جوارها الشرق أوسطي سيظل دائما أولوية بالنسبة لها مقارنة بالبلقان، لهذا السبب تستنفذ هذه المنطقة أغلب طاقاتها ومواردها. ثالثا، تواجه جهود تركيا تحديا جديدا، ألا وهو تطور العلاقات الدبلوماسية بين صربيا، وبلغاريا واليونان.
بالنظر إلى التفوق التركي الواضح على جيرانها البلقانيين، فإنه من الطبيعي لأنقرة أن تسعى لترجمة هذا التفوق إلى نفوذ، وهذا الأمر تتوقعه هذه الدول
وبالتالي، سوف تحاول هذه الدول الثلاثة مجتمعة التصدي للنفوذ الإقليمي التركي، علاوة على أن الحضور التركي في هذه المنطقة يعتبر محدودا مقارنة بحضور الاتحاد الأوروبي. ورغم خطابات وكالات التنمية التركية التي تقدم الوعود بضخ الاستثمارات، فإنه لم يتم استثمار سوى مبالغ محدودة في المناطق الصديقة لتركيا مثل سنجق.
أما بالنسبة لتركيا، فإن أفضل طريقة لمواصلة سياستها الناجحة في البلقان تتمثل في مواصلة النهج البراغماتي، المبني على المصالح والتعاون مع عواصم البلقان. في الحقيقة، يجب القيام بهذا دون التطرق للتاريخ العثماني، الذي يثير حساسية عاطفية لدى شعوب هذه الدول التي تعتبر ذلك استعمارا إسلاميا.
من هذا المنطلق، إذا تم التصرف بهذا الحذر فإن تركيا والبلقان يمكن لهما خلق نموذج ناجح جدا للتعاون الإقليمي. لذلك، لا يجب أن ينظر إلى الحضور التركي في البلقان على أنه سلبي. وبالنظر إلى التفوق التركي الواضح على جيرانها البلقانيين، فإنه من الطبيعي لأنقرة أن تسعى لترجمة هذا التفوق إلى نفوذ، وهذا الأمر تتوقعه هذه الدول.
في المقابل، لطالما اعتبرت دول الاتحاد الأوروبي والغرب بشكل عام تبعية البلقان لها أمرا من تحصيل الحاصل، وماطلت في تقديم الدعم، وربما كانت شعوب البلقان تريد بشدة الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولكن لا يمكنها الانتظار إلى ما لا نهاية. وفي ظل غياب خيارات أفضل، فإنهم سوف يقبلون بالانفتاح على تركيا ولا يمكن حينها للغرب أن يلومهم على ذلك.
المصدر: مجلة ناشيونال إنترست