سيبدو فجًّا إذا شاهدت فيلمًا سينمائيًا يروي سيرة ديكتاتور يغلق الصحف ويصادر الكتب ويحظر المواقع الإلكترونية ويبدي عداءً واضحًا للمثقفين الذين لا يدورون في فلكه ويسوّقون لحكمته اللامتناهية ولا يؤمن بأهمية العلم والثقافة، ثم تجد نفس الديكتاتور يسعى كي يفوز واحد من تابعيه بأهم منصب دولي معني بالأساس بدعم الثقافة والعلوم، غالبًا لن يحظى ذلك الفيلم بجائزة في مهرجان سينمائي محلي متواضع.
لكن يبدو أن الواقع السياسي المصري بقدر ما يحمل من سوء، يحمل ذات القدر من الفجاجة التي تليق بخمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث عصر الديكتاتورية الكلاسيكية الرثّة.
خسرت مرشحة مصر السيدة “مشيرة خطّاب” المنافسة على موقع مدير عام منظمة اليونسكو في جولتها قبل الأخيرة، وذهب المنصب للمرشحة الفرنسية بعد خسارة مرشح دولة قطر الدكتور حمدي الكواري، لكن الأهم من الفوز والخسارة كان إدارة النظام المصري لتلك الموقعة الدبلوماسية، الإعلام من ناحيته أدار الأمر بطريقة “خناقات الحواري”، لا نتحدث هنا عن انعدام المهنية فحسب، بل عن جهل واستعلاء وشتائم للمرشح القطري الذي اتهموا بلاده بأنها اشترت أصوات العالم كي تفوز بالمنصب!
لعل حادثة مثل تعرض ذقن قناع الملك توت عنخ آمون للكسر على يد مديرة قسم الترميم في المتحف المصري كفيلة وحدها بأن نصرف النظر عن ذلك المنصب لقرن قادم
في الوقت ذاته كان وزير خارجية مصر سامح شكري يقول لمندوبي دول إفريقيا إنه سيعلم لمن ستصوّت كل دولة، فيما بدا أنه تهديد من “عدو ميكروفون الجزيرة” الشهير لدول إفريقيا بأنه لزامًا عليها أن تمنح صوتها لمصر! أما مرشحة مصر مشيرة خطّاب فقد كان لها تصريح لا يقل غرابة عقب خسارتها، إذ قالت على فضائية مصرية منذ أيام “إن مصر لا تحتاج إلى اليونسكو واليونسكو هي من تحتاج إلى مصر”!
لعل الملحوظة الأهم في خطاب النظام المصري خلال تلك الانتخابات هي نظرته الاستعلائية التي كان يتحدث بها، اتهامه لقطر بأنها دولة بلا تاريخ، وأن مصر الدولة ذات الحضارة العظيمة هي الأحق بذلك المنصب، شوفينية قبيحة تجاوزها الزمن، هي حتى شوفينية بلا سند واقعي، فنظرة سريعة على الواقع المصري جديرة بالتراجع الفوري عن تولي منصب مثل ذلك. التعليم الأساسي هو الأسوأ عربيًا، ويأتي في المرتبة رقم 140، الحال ليس أفضل على مستوى التعليم الجامعي، المناطق الأثرية في مصر لا تجد من يزيل القمامة من حولها، بعضها حتى أصبح دورات مياه عامة، ولعل حادثة مثل تعرض ذقن قناع الملك توت عنخ آمون للكسر على يد مديرة قسم الترميم في المتحف المصري كفيلة وحدها بأن نصرف النظر عن ذلك المنصب لقرن قادم.
لكن بعيدًا عن تفاصيل تلك المعركة السياسية والدبلوماسية، يبقى سؤال أهم: ما المشروع الذي يحمله النظام المصري تجاه دعم العلوم والثقافة والفنون ليسعى بكل طاقته للفوز بذلك المنصب؟
“وإيه يعمل التعليم في وطن ضايع”؟.. عبد الفتاح السيسي – ديسمبر 2016
لم تكن زلة لسان، كان السيسي يعنيها تمامًا، فالجنرال محدود الثقافة والكفاءة لا يؤمن بأهمية العلم ولا الثقافة، ولا يملك ذرة إيمان بحريات سياسية واجتماعية، نموذج متواضع لديكتاتور قادم من منتصف القرن العشرين، أما عن سعي نظامه للفوز بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو فلا يمكن تشبيهه إلا بسعي “ستالين” مثلًا أو “فرانكو”، أو “عيدي أمين” للفوز جائزة نوبل للسلام.
النظام المصري الذي سعى للفوز بذلك المنصب، هو ذاته النظام الذي أغلق مكتبات الكرامة التي أسسها الحقوقي المصري جمال عيد بأموال جائزة حقوقية دولية فاز بها، وهو ذاته النظام الذي يمنع عيد وعشرات الحقوقيين المصريين من السفر بلا أي سند قانوني، وهو كذلك النظام الذي “أمم” مكتبات “ألف” المنتشرة في مدن مصر بدعوى أن صاحبها له علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، وهو نفسه الذي يحظر أكثر من أربعمئة موقع على شبكة الإنترنت خوفًا من محتواها الذي يظنه يسعى لتأليب الرأي العام عليه، نفس ذلك النظام هو من اعتقل بضعة شباب أطلقوا على أنفسهم فرقة “أطفال الشوارع” كانوا يؤدون أغنيات ساخرة، نظام يخاف من الكتاب والأغنية والخبر والرأى، نظام مهترئ.