بدا، للوهلة الأولى، خلال الشهور القليلة الماضية، أن حالة الاضطراب الهائلة التي تفاقمت بعد اندلاع الثورات العربية في طريقها إلى النهاية، فبعد أن نجحت الثورة العربية المضادة في حصار حركة التغيير، تقدمت لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء في العدد الصغير من الدول التي شهدت انتقالًا نحو تكريس الممارسة الديمقراطية وإعلاء إرادة الشعب، أسقطت أنظمة الاستبداد وحكم الأقلية في تونس ومصر وليبيا واليمن، ولكن الحراك الشعبي لم يستطع إحداث تغيير جوهري في الأردن أو الجزائر أو العراق.
ولأن حلفاء نظام الأسد أبدوا استعدادًا للدفاع عن ركائزه الطائفية مهما كان الثمن، انقلبت الثورة الشعبية السورية إلى حرب أهلية، أوقعت دمارًا هائلًا بالمدن والبلدات، وبالاجتماع السوري ووشائج اللحمة الوطنية، وخلال عامين أو ثلاثة على انطلاق حركة الثورة العربية، كانت الانقلابات العسكرية والمدنية تطيح بالمكاسب الشعبية في مصر وتونس، وتدفع ليبيا واليمن إلى أتون الحرب الأهلية.
في العراق، أدت السياسات الطائفية قصيرة النظر لنظام المالكي إلى سيطرة داعش على أكثر من ثلث البلاد في صيف 2014، وسرعان ما عمل انحسار نفوذ الدولة إلى إفساح المجال لمزيد من توسع داعش في أنحاء سوريا كافة.
بيد أن هذه الحقبة من الثورة والتحول الديمقراطي، من الحروب الأهلية، ومن انتشار الجماعات المسلحة وانهيار السيادات وخطوط حدود الدول، بدت مؤخرًا وكأنها توشك أن تنقشع، ثمة مؤشرات متزايدة على استقرار النظام الانقلابي في مصر، وتراجع الشكوك في قدرته على مواجهة تحديات السياسة والأمن والاقتصاد.
ومؤشرات أخرى على أن الشعب التونسي، كما قواه السياسية، تعايش مع نظام السبسي وتوجهات حكومته، بما في ذلك تلك التي تعيد الاعتبار لقوى النظام السابق على الثورة التونسية.
في ليبيا، وبفضل الدعم الإماراتي الكبير، ينجح حفتر في فرض إرادته بالتدريج، مجبرًا المجتمع الدولي، وليس معارضيه الليبيين وحسب، على مراجعة اتفاق الصخيرات.
وفي اليمن، وبفضل العجز السعودي، من جهة، والطموح الإماراتي الأهوج، من جهة أخرى، لم يعد من المجدي الحديث عن هزيمة الحوثيين في اليمن الشمالي.
رغم مليارات الدولارات التي ضخها الحلفاء الخليجيون، ترتفع ديون مصر الخارجية إلى مستويات لم تصلها من قبل، بينما يخوض النظام الانقلابي معركة دموية ضد معارضيه في الوادي، وضد الشعب في سيناء، على السواء
وربما يمكن القول إن ليس ثمة شواهد على نهاية حالة الاضطراب كما هي تطورات الأوضاع في سوريا والعراق، ففي سوريا، هناك ما يشبه الإجماع على أن نظام الأسد يخرج منتصرًا من الحرب الأهلية التي تسبب في اندلاعها، وفي العراق، نجح العراقيون في إطاحة المالكي والإتيان برئيس حكومة أكثر عقلانية، ولم يعد أمامهم سوى مواقع قليلة لإعلان الانتصار النهائي على داعش، وربما يمكن القول إن هزيمة داعش باتت شاملة ومحققة، بعد اندحارها من مواقع نفوذها الأقوى في سوريا أيضًا، وهناك، إضافة إلى ذلك، من يضع المصالحة الفلسطينية ضمن التحولات الارتدادية في جهات المشرق كافة، فبعد عقد بأكمله من المقاومة، تقبل حماس أخيرًا سيطرة حكومة محمود عباس على قطاع غزة، بمباركة النظام الانقلابي في القاهرة، وليس أحدًا غيره.
بكلمة أخرى، لا تعود الأمور إلى نصابها المعتاد، وحسب، بل وإلى ما هو أسوأ من النصاب المعتاد، تعود الأجهزة الأمنية إلى فرض سيطرتها على دوائر الدولة والشعب على السواء، يعود المعتقلون إلى السجون ومراكز التوقيف، ليس بالمئات، هذه المرة، بل بعشرات الألوف، يختفي البشر بلا مقدمات، وترمى جثث المعارضين في الطرق الصحراوية بلا مساءلة، تعود البرلمانات إلى طبيعتها الأصلية، منتديات صورية للخطابة ومراكز لهو للحكام وأتباعهم، وتعود الأقليات الحاكمة، الطائفية والاجتماعية والفئوية، لتعزيز قبضتها على السلطة والثروة، تهمش أغلبية الشعب وتضطهد الجماعات الإثنية والدينية المختلفة.
في هذه البلاد العتيقة، المزروعة في تاريخ سحيق، لا يعرف له من بداية ولا نهاية، لا تتغير الأشياء لمجرد اندلاع ثورة شعبية أو حرب أهلية أو وقوع اضطراب ما!
هذه قراءة ممكنة لما يعيشه المشرق العربي، وهي قراءة لا ينقصها التسويغ والأدلة، ولكن هناك قراءة أخرى، لا تقل تسويغًا ودلالة، لم تلبث الدول العربية، التي قادت الثورة المضادة، أن تسببت في اندلاع أزمة كبرى في الخليج، يبدو أنها ستؤدي إلى انهيار مجلس التعاون الخليجي.
وليست ثمة دولة عربية واحدة شهدت انقلابًا على، أو تراجعًا عن، أهداف الحركة الشعبية نجحت في إقامة نظام بديل مقنع للأغلبية الشعبية، سواء لأسباب اقتصادية أو سياسية، أو بفعل تداعيات الحرب الأهلية، لا يزال مستقبل مصر، تونس، ليبيا، اليمن، سوريا، معلقًا في الميزان، العنف الهائل الذي توظفه الطبقات الحاكمة لإخضاع الشعوب، والذي يفوق عنف أنظمة ما قبل 2011، ليس مؤشرًا على ثقة بالنفس، بل على العجز عن تأسيس الشرعية بالوسائل التقليدية، التي تؤسس شرعية الدول.
ورغم مليارات الدولارات التي ضخها الحلفاء الخليجيون، ترتفع ديون مصر الخارجية إلى مستويات لم تصلها من قبل، بينما يخوض النظام الانقلابي معركة دموية ضد معارضيه في الوادي وضد الشعب في سيناء، على السواء، ولم يحول نظام الأسد معظم البلاد إلى حطام وحسب، بل إن سوريا باتت مقسمة إلى قطاعات أمنية، تدير كلًا منها وحدات جيوش أجنبية.
لم تزل سيطرة حفتر الهشة محصورة بشرق ليبيا، ورغم أن الإدارة السعودية ـ الإماراتية للحرب في اليمن تبدو أنها أقرب لمصلحة الحوثيين منها لمصلحة الشرعية، تتراجع سيطرة الحوثيين على البلاد، وإن ببطء بالغ.
ورغم اللغة التصالحية التي يستخدمها رئيس الحكومة العراقية، فقد أشرف على تحويل المليشيات الطائفية الشيعية إلى جيوش شرعية للدولة، وأطلق يدها لتفرض سيطرتها على مختلف مناطق الأغلبية السنية.
كانت ممارسات الشرطة الاتحادية في الموصل والأنبار ما مهد الطريق لانتشار داعش في صيف 2014، ممارسات قوات الحشد الشعبي، التي تتصرف باعتبارها جيش احتلال، تفوق في طائفيتها كل ما عرف عن الشرطة الاتحادية، هزمت داعش بالفعل، وكان طبيعيًا ومتوقعًا أن ينتهي مشروع عدمي كداعش إلى الهزيمة، ولكن أحدًا لم يكن لديه تصور لمستقبل الإقليم ما بعد داعش، لأن أحدًا لم يكن يستطيع التقدم بهكذا تصور، ولم يكن غريبًا، بالتالي،، وحتى قبل أن تندحر داعش كلية، أن تنفجر أزمة كردستان العراق، التي تهدد بإشعال حرب طاحنة جديدة في شمال العراق، وتقويض أمن الإقليم برمته.
ما لم يره الدارسون والمهتمون بشؤون المشرق أن حركة الثورة العربية كانت أكثر تعقيدًا وعمقًا مما ظهرت به، الشباب والشابات الذين خرجوا للمطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، كانوا يعبرون عن أزمة أنظمة حكم الدول الوطنية، وعن أزمة النظام الإقليمي، الذي ولد من حطام الحرب الأولى. وليس في العراق وسوريا وحسب، بل وفي سيناء، وعلى حدود مصر الشرقية، سرعان ما تداخلت الأزمتان، بحيث لم يعد من الممكن قراءة الواحدة منهما بمعزل عن الأخرى.
مشرق تقوده أقليات طائفية أو اجتماعية أو عسكرية، لم يعد قابلًا للاستمرار، مهما كان مستوى العنف الذي توظفه الطبقات الحاكمة، ومشرق يستند إلى حدود دول القرن العشرين الوطنية ودولة المشروع الصهيوني، لم يعد قابلًا للاستمرار، كانت السنوات القليلة الماضية سنوات اضطراب عظيم بلا شك، ولكن من الوهم تصور اقتراب هذا الاضطراب من نهايته.