لتكن مزايدة ثورجية من خلف الحاسوب سنتحمل كلفتها كالعادة، لكننا سنقول ما نفكر فيه أمام موجة الإقبال المتحمسّة للترشح لرئاسة الجمهورية في تونس، حيث أسماء كثيرة يتم تداولها كمرشحين محتملين، وإن لم يعلن أحد له وزن مقابل الرئيس الحالي.
الحجة الظاهرة في خطابات غَيُورين كثيرين على مستقبل البلد هي الإنقاذ، إنقاذ البلاد من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تردّت فيها بعد انقلاب 25 يوليو، وفجأة صار الإنقاذ مهمة مشتركة ذات أولوية، ما غيّب السؤال الجوهري عن أسبابها، وغيّب السؤال الأهم: أليس إنقاذ البلاد تغطية لإنقاذ الانقلاب؟ كيف نتلافى نتائج أزمة بتأكيد أسبابها؟ سننظر إلى الأمر من هذه الزاوية المنسية.
هل النوايا صادقة؟
لن نخوض في النوايا فليس لنا من الغيب علم، لكن ننظر في الاحتمالات، فالترشح لمنصب الرئيس لن يكون إلا طبقًا لقوانين وضعها الانقلاب، أهمها دستور خطه شخص واحد بعد أن ألغى بجرة قلم دستورًا مجمعًا عليه، أُنفقت فيه جهود جبارة ليكون، ثم أُلغيت بالطريقة نفسها هيئات انتخابية منتخَبة، أشرفت بحياد على 4 انتخابات، وقدمت نتائج موضوعية مقبولة محليًّا ودوليًّا.
ظلت النخب السياسية الوطنية تعارض هذه الإجراءات وتنعتها بالانقلابية وترفض ما انجرَّ عنها، خاصة في جلسة أخيرة للبرلمان الشرعي أصدرت القانون عدد واحد لسنة 2022، ورفض الاعتراف بالانقلاب ودستوره، والآن يعلن المرشحون أو تعلَن نوايا الترشح على أساس الدستور الانقلابي المرفوض.
هذه الإعلانات أو النوايا تمثل اعترافًا صريحًا بالانقلاب، وتقبل برغبة وربما بحماس التخلي عن الدستور المجمع عليه، وتطعن في كل ما بُني عليه، بما في ذلك الهيئات الدستورية المنتخبة ومنها الهيئة الانتخابية.
هذا الاعتراف في تقديرنا يضفي شرعية لا غبار عليها على الانقلاب، ويسلم له بما أنجز، وهو أيضًا طعن في فترة معارضته التي امتدت من يوم 25 يوليو/ تموز حتى لحظة تداول فكرة الإنقاذ، إنها تحويل الانقلاب إلى حكم شرعي وقانوني.
هل غاب هذا الأمر عن الذين ينوون خوض الانتخابات؟ وفيهم رجال قانون أفذاذ من ذوي التاريخ المعارض في المعارضة القانونية منذ زمن بورقيبة؟ لا نظنه جهلًا ولا نودّ الخوض في النوايا، لكن النتيجة أن أي تقدم للمنصب طبقًا لقانون الانقلاب هو إنهاء للثورة وشعاراتها، ولفترة من الصراع الديمقراطي أعقبتها وأنتجت حالة ديمقراطية نادرة لن تتكرر إذا تمّ الاعتراف بالانقلاب.
البلد في أزمة لن تُحَلّ بتغيير الرئيس
نتفق مع كل معارض يتحدث عن أزمة عميقة تردّى فيها البلد، ونتفق أكثر مع من يربط الأزمة بأسبابها البنيوية السابقة على الثورة، والتي فشلت الثورة في حلّها وتجاوزها، ونتفق تمامًا مع من يرى أن القوى التي جاءت بالانقلاب، هي نفسها القوى التي خلقت الأزمات وعاشت منها ولا ترغب في حلها.
هذه القوى لا تزال تمسك بخناق البلد، وقد تأقلمت مع الانقلاب وحمته ولم تخسر ثرواتها ومواقعها، وكل ما قامت به أنها أعادت ترتيب قدراتها ووسائلها (ماكينتها الإعلامية خاصة) لتظلَّ في مواقعها، وهذه القوى غير مهتمة بمعركة الديمقراطية والشرعية الدستورية، بل ترى فيها خرابها.
لذلك نراها تقف ضد كل تغيير، وربما عملت على الإبقاء على الرئيس الحالي لأنه يحميها من التحولات العميقة ذات الطبيعة الديمقراطية، ولن تقبل تغييره إلا بمن يواصل الحفاظ على مصالحها ومواقعها، فهل هؤلاء المتقدمون للمنصب واعون بثقل هذه القوة غير الديمقراطية؟
نقدّر أن الحل ليس في تغيير شخص الرئيس، بل في فهم قواعد اللعبة السياسية برمّتها، وخريطة الفاعلين الحقيقيين، ولا أرى في خطاب المتقدمين الآن من فهمَ المشهد حقّ فهمه، وتعامل مع قواه بما يعيد ترتيب قواعد اللعبة السياسية، فيضع بناء الديمقراطية فوق صراع المواقع.
إن الأسماء التي نتابعها لا تزال تفكّر طبقًا لخريطة النضال القانوني (النظيف)، وتحاول حل الأزمة من موقع نخبوي فوقي يظنّ خيرًا بقوة القانون المجردة، ويعتقد أن تغيير القانون يغير الواقع كما فكّر بورقيبة ذات يوم وقد استلم بلدًا متخلفًا، فظنَّ أنه يغيره بقوة الفعل القانوني وحدها.
وقوى الاختصار السياسي هذه تزيّن نفسها بأن القبول بالانقلاب مرحلي، بدعوى أنه يفتح لها باب إلغاء نتائج فعله وتأثيراته العميقة من داخله بوسائل الدولة نفسها، لذلك نعتقد جازمين أنها ترى في السلطة المطلقة للرئيس كما صاغها دستور الانقلاب (الذي سيصير دستور 25 يوليو) فرصة ووسيلة ممتازة للتغيير الفوقي، دون المرور ببرلمان يعيقها بنقاش في الأصول وفي الفروع، كما كان الأمر قبل الانقلاب.
وهذا يجعلها مساوية في الجوهر للانقلاب، وتعمل بمنهجه وأسلوبه وأدواته، وبهذا تصير قوة انقلابية على بذرة الديمقراطية التي مرّت من نظام له برلمان فعّال إلى سلطة رئاسية مطلقة، ولا يهم هنا إن كان الشخص ملاكًا أو شيطانًا، لأنه سيقوم بنفس الفعل الفردي المعادي للديمقراطية.
الترشح (واحتمال الفوز) يعني الحفاظ على نظام رئاسي مطلق، وليس المناورة بدستور الانقلاب للعودة إلى دستور 2014، أو في أفضل الاحتمالات تعديله لتفريغ البرلمان من كل سلطة، وهنا يمكن أن يحدث لقاء بين القوى المالية المحافظة (المنظومة الفاعلة) وأي مرشح يعدها بذلك، وأظنهم كثر وستفوح رائحة النقاشات التحتية في نزل الساحل ومقاهي العاصمة قريبًا.
لم يتغير شيء لنقبل بالانقلاب
لم ينجز الانقلاب إنجازًا اقتصاديًّا يغفر له إثم الانقلاب. إنه المسؤول عن تفاقم الأزمة، وهو المسؤول عن حلها، وأي قبول به هو تشريع لفعله الانقلابي، لذلك أي مشاركة في تقديرنا هي إنقاذ له وليست لإنقاذ البلاد.
وذلك الحديث الطيب عن فائدة الصمت والعزلة هو مقدمة خبيثة، مبنية على استغفال نخبوي لجمهور تعلّم من انكساراته ولم يعد يتابع النخبة في مناوراتها القصيرة الأمد، والتي تنتهي غالبًا لصالح الأفراد الذين يقودون النقاش، ويلحسون حتى بعض التحليلات الصائبة التي نطقوا بها في وقت سابق.
مثال ذلك ما قيل من قبل الكثيرين، على أن مقاطعة استفتاءات الرئيس وانتخاباته لم تكن مقاطعة له فقط، بل هي مقاطعة لكل النخبة ومناوراتها، وإثبات لعدم الثقة فيها من قبل الجمهور الناخب، لكن فجأة صار بالإمكان العودة إلى انتخابات ومداعبة مشاعر الجمهور بفكرة إنقاذ البلاد.
هذا الجمهور لم يغرق البلاد في الأزمة، وإن تحمّل كل أوزارها، لذلك إن مناداته لحلها هي مرحلة أخرى من النفاق السياسي المفضوح.
نختم بأسى، من أغرق البلاد في أزمة هو المعنيّ بحلها، أو تركه يواجه مصيره بمفرده وعدم مد سلّم له ليخرج ولو إلى محاكمة عادلة، فليتوقف كل سياسي يحترم نفسه ويحترم الجمهور عن هذا الحديث المخاتل تحت يافطة إنقاذ البلاد، فالإنقاذ من الحريق لا يتم بتقبيل النار في موضع التهابها.
نظن أن الجمهور الناخب قد مجَّ ألاعيب النخب، خاصة المتكلمين بالقانون الدستوري، ولا بأس أن يفهم البعض هذه الورقة دعوة إلى المقاطعة الجذرية.