يتسم موقف الإدارة الأمريكية إزاء الحرب في غزة منذ بدايتها بثنائية الازدواجية والتناقض، فقد اعتاد جو بايدن التأرجح على وتر التصريحات الإنسانية التي تدغدغ المشاعر تارة والدعم المطلق لجيش الاحتلال تارة أخرى، وبين هذا وذاك تباينت الرؤى والقراءات الخاصة بتقييم السياسة الأمريكية تجاه هذا الملف.
في الأيام الأخيرة وبعدما تجاوز عدد ضحايا هذه الحرب أكثر من 30 ألف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال، ونزوح قرابة مليون ونصف مواطن، ووضع حياتهم على قوائم الموت البطيء بسبب حرب التجويع التي يمارسها الاحتلال، يحاول بايدن وأعضاء إدارته الظهور بمظهر المتعاطف إنسانيًا مع الوضع، والمناهض لإدارة حكومة بنيامين نتنياهو للحرب، والمُطالب بضبط بوصلة المواجهات بما يضمن سلامة وحياة المدنيين.
إزاء هذا المشهد، تحاول بعض وسائل الإعلام، الإسرائيلية والأمريكية، تصدير صورة نمطية غير دقيقة، تتعلق بتباين قوي في وجهات النظر بين إدارة بايدن وحكومة الحرب الإسرائيلية بشأن تلك المعركة غير الإنسانية، بما يوحي بخلاف بين الطرفين، ومحاولة واشنطن بذل المستطاع لإنقاذ المحاصرين في غزة من بطش وتنكيل جيش نتنياهو.
يخطئ من يعتقد أن غزة من الممكن أن تكون محل خلاف بين واشنطن وتل أبيب، وواهم من يظن أن الإنسانية يمكن أن تجد لها مكانًا لدى أي من الطرفين بما يؤثر على عمق العلاقة بينهما، فكلاهما يستمد قوته من عنصريته المتعمقة، وبرغماتيته المتطرفة، وديماغوغيته الشعبوية المتعجرفة، إذا كيف يمكن قراءة هذا التباين الظاهري في المواقف والتصريحات؟ وما دوافعه وأهدافه الحقيقية؟
هذا ما قدمته أمريكا للاحتلال
منذ اليوم الأول للحرب وتؤكد واشنطن على دعمها اللامحدود للاحتلال في حربه ضد فصائل المقاومة في غزة، مسخرة كل إمكاناتها لأجل تحقيق الكيان المحتل أهدافه المعلنة من تلك الحرب، وهي القضاء على حماس وتحرير الأسرى وضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا لـ”إسرائيل”، وقدمت إدارة بايدن لدولة الاحتلال حزم غير مسبوقة من الدعم بكل أشكاله التالية:
الدعم العسكري: إرسال حاملة الطائرات “يو إس إس إيزنهاور” ومجموعة السفن الحربية التابعة لها، والحاملة “جيرالد فورد”، وبعدها سفينة القيادة والسيطرة (ماونت ويتني) التابعة للأسطول السادس الأمريكي، بالتزامن مع أنظمة دفاع صاروخية مثل نظام “ثاد”، وبطاريات “باتريوت”، هذا بخلاف الدعم الاستخباراتي الكامل والحديث عن قوات أمريكية من وحدات خاصة انضمت بشكل رسمي إلى القوات الإسرائيلية في تلك الحرب.
وكانت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية قد كشفت في 6 مارس/آذار الحاليّ أن أمريكا وافقت – منذ بداية الحرب على غزة – على أكثر من 100 صفقة عسكرية شبه سريّة لبيع السلاح لـ”إسرائيل”، لم تعلن إلا عن اثنتين منها فقط، وتتضمن تلك الصفقات آلاف الذخائر الموجهة، والقذائف الخارقة للتحصينات، والقنابل والدروع وغيرها من الأسلحة الفتاكة.
وما كان لجيش الاحتلال أن يواصل حربه كل هذه الفترة دون تلك المساعدات، حسبما قال رئيس المنظمة الدولية للاجئين والمسؤول السابق في إدارة بايدن، جيريمي كونينديك، الذي نقلت عنه الصحيفة قوله: “هذا عدد غير طبيعي من المبيعات في فترة زمنية قصيرة جدًا، ما يشير إلى أن الحملة الإسرائيلية لا يمكن أن تُستأنف من دون هذا المستوى من الدعم الأمريكي”.
"الأبرياء في غزة يقتلون بدولاراتنا".. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يلقي قصيدة ينتقد فيها الدعم الأمريكي لإسرائيل في حربها على #غزة ويدعو إلى وقف إطلاق النار#حرب_غزة pic.twitter.com/gx0P2YzxuG
— قناة الجزيرة (@AJArabic) December 29, 2023
الدعم الاقتصادي: دعمت الولايات المتحدة دولة الاحتلال بأكثر من 15 مليار دولار منذ بداية الحرب، سواء تم ذلك بموافقة الكونغرس أم بقرار فوقي من البيت الأبيض، هذا بخلاف المساعدات السنوية التقليدية البالغ قيمتها 3.8 مليار دولار، فيما أعلنت إدارة بايدن مضاعفة هذا الدعم خلال المرحلة المقبلة، ومساعدة الاحتلال على تخطي أزمته الاقتصادية التي أوقعته فيها الحرب والخسائر التي يتكبدها على أيدي المقاومة.
الدعم السياسي: أوقفت أمريكا كل مساعي ملاحقة الاحتلال دوليًا داخل مجلس الأمن، فقد استخدمت حق النقض “الفيتو” 3 مرات ضد مشروعات قرار بشأن وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، في إصرار واضح على استمرار الحرب الإجرامية التي يشنها المحتل، هذا بخلاف تعدد زيارات المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس ووزيري الخارجية والدفاع لتل أبيب لتقديم الدعم السياسي، بجانب استهداف حركة حماس بالعقوبات المالية والاستثمارية التي شملت عددًا من قيادتها في فلسطين وتركيا والجزائر والسودان وقطر.
ما الذي حدث؟
ما كان للاحتلال أن يمارس إجرامه بهذه الكيفية في غياب المساعدات الأمريكية ودون الضوء الأخضر الممنوح له من إدارة بايدن، وهو الموقف الذي وضع واشنطن في مرمى انتقادات الأحرار في العالم والنشطاء الحقوقيين في الداخل الأمريكي، فضلًا عن تأجيجه لمشاعر الغضب لدى العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وخارجها.
ومع مرور الوقت وفي ظل الإصرار على مواصلة هذا الدعم، تصاعدت المشاعر المعادية لأمريكا وباتت مصالح البلاد في خطر، وهو ما أقلق الأمريكان بصفة عامة، هذا بخلاف انخفاض شعبية بايدن حزبيًا وسياسيًا، حيث تراجعت بين الديمقراطيين نقطة مئوية، من 86% عند تسلمه السلطة إلى 75% نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كما تراجعت شعبيته بين المستقلين أربع نقاط كاملة، وفق ما كشف استطلاع للآراء أجرته مؤسسة غالوب في الفترة من 2 إلى 23 أكتوبر/تشرين الثاني 2023.
وفي استطلاع آخر للرأي أجرته “رويترز/إبسوس” كشف تراجع شعبية الرئيس في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 إلى أدنى مستوى لها منذ أبريل/نيسان 2023، فقد عبر قرابة 56% من الأمريكيين عن عدم موافقتهم على أداء الإدارة بصفة عامة، وفي تعاملها مع الحرب في غزة بصفة خاصة، فيما جاءت انتخابات الديمقراطيين في ميتشغان وجورجيا كرسالتي تحذير قاسيتين بشأن التهديد الذي يواجه بايدن في الانتخابات المقبلة نهاية الشهر الحاليّ.
#بايدن يصبح الرئيس الأميركي الأقل شعبية منذ الحرب العالمية الثانية.. واستطلاعات رأي: تقدم #ترمب قد يمنحه أسبقية الفوز بالرئاسة#أميركا#العربية#العالم_الليلة pic.twitter.com/a9NhHM70zt
— العربية (@AlArabiya) March 12, 2024
تدارك الأمر.. محاولة لامتصاص الغضب
في ظل المخاوف التي بدأت تنتاب الديمقراطيين بشأن تداعيات دعم إدارة بايدن اللامحدود للاحتلال على مستقبل الحزب السياسي وفرصه في الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة، بدأت الإدارة في انتهاج سياسة جديدة تعتمد في المقام الأول على التصريحات الرنانة المدعومة أحيانًا بإجراءات تغازل الإنسانية وتوهم المتلقي بحدوث تغييرات في موقف واشنطن تجاه غزة.
خرج مساعدو بايدن وعلى رأسهم وزير الخارجية ونائبة الرئيس يتحدثون عن ضرورة وقف إطلاق النار في غزة وتقديم المساعدات لسكان القطاع، والتلويح بين الفينة والأخرى عن عدم رضاهم عن أداء نتنياهو وإدارته للحرب، وضرورة تجنب المدنيين في هجماته التي لا تتوقف ليل نهار.
كما عزفت واشنطن على مشاعر الدغدغة الإنسانية من خلال إرسال مساعدات للمحاصرين في غزة عبر الإنزالات الجوية، رغم أنها قادرة على الضغط على الاحتلال والقاهرة معًا لفتح معبر رفح على مصراعيه وإدخال تلك المساعدات بشكل تلقائي، بما يوفر الوقت والجهد ويحقق الغاية من تلك المساعدات بعيدًا عن مشاهد الإذلال التي تكشفها عملية إرسال المساعدات عبر الإنزال الجوي.
مواطن أمريكي يقاطع خطاباً للرئيس جو بايدن ويصفه بالديكتاتور وسط حشود من ناخبيه. pic.twitter.com/sTvHESCo3d
— TRT عربي (@TRTArabi) March 11, 2024
الإدارة الأمريكية التي ترسل القاذفات والقنابل للاحتلال لقتل أطفال غزة ونسائها بيدها اليمنى فيما تقذف لهم المساعدات بيدها اليسرى، يد تقتل وأخرى تقدم حفنة من الغذاء، معادلة مضحكة مبكية وازدواجية فاضحة، حتى الحديث عن تدشين ميناء مؤقت على شواطئ غزة لا يخرج عن كونه مخططًا لتعزيز الأجندة الإسرائيلية في القطاع حتى إن تم إلباسه رداء الإنسانية.
كما يجب وضع الناخب الأمريكي ذي الأصول العربية والإسلامية في الحسبان عند تقييم الموقف الأمريكي الحاليّ ومحاولة ادعاء الإنسانية، فالديمقراطيون وبعد درس ميتشغان وجورجيا يحاولون قدر الإمكان مغازلة الأصوات العربية التي كان لها في السابق دورها في حسم المعركة الانتخابية لصالح بايدن، واليوم يُخشى من فقد هذا الدور، فضلًا عن القلق من انحيازه لصالح الجمهوريين، ومن هنا تأتي رسائل المغازلة والاستمالة.
اتفاق على الأهداف وخلاف في التكتيك
بات من الواضح أن إدارة جو بايدن تمارس لعبة “الكراسي الموسيقية” في تعاملها مع الوضع في غزة، فريق يشن هجومًا إعلاميًا ضد حكومة الاحتلال، وآخر يطالب بتقديم المساعدات العاجلة، وثالث ينادي بوقف إطلاق النار، ورابع يُبدي تعاطفه مع الضحايا من الأطفال والنساء.
لكن ما يتم عمليًا هو استمرار إرسال الأسلحة الفتاكة لجيش الاحتلال، بالطرق القانونية وغير القانونية، استمرار استخدام حق الفيتو لعرقلة أي مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار، محاربة كل من يلاحق “إسرائيل” أمام المنصات الدولية، والتشديد على ضرورة تحقيق الحرب لأهدافها كاملة والقضاء على المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
ومن ثم تتبني إدارة بايدن إستراتيجية تبادل الأدوار في تقسيم المهام والتكليفات بين أعضائها، فما يحدث من تباين في وجهات النظر ليس إلا خدعة لتسكين الرأي العام الأمريكي والعالمي وتدجين التيارات السياسية التي تنادي بوقف الحرب والانتصار للإنسانية.
المخاوف تدور حول استخدام واشنطن الميناء كقاعدة عسكرية أو أن يكون مشروعه مخططاً لتهجير الفلسطينيين.. شكوك حول الميناء العائم الأمريكي الذي يزعم إنشاؤه لإنقاذ أهل #غزة من المجاعة. pic.twitter.com/OjCNcPTb7W
— نون بوست (@NoonPost) March 12, 2024
وعليه فإن الحديث عن خلاف بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو حديث حالم، يتنافى شكلًا وموضوعًا مع الواقع والميدان، ولا وجود له إلا في مخيلة المتفائلين، فهناك تطابق كلي في الهدف وإن كانت الوسيلة هي محل التباين، فالولايات المتحدة تدعم الكيان المحتل في مخططه التوسعي الإقليمي وتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على تيار المقاومة في كل بلدان العالم العربي والإسلامي.
إلا أن الخلاف هنا ربما يكون في التكتيكات المستخدمة، فبدلًا من قتل مئة ألف لتحقيق الأهداف الإسرائيلية، – التي هي للعلم أهداف أمريكا بحكم أن الاحتلال ذراعها اليمني في المنطقة وأداتها للحفاظ على مصالحها -، يكون من الأفضل قتل 50 ألفًا فقط، وبدلًا من القتل بسلاح التجويع فمن الأفضل أن يكون بالقصف والتفجير، وليس هذا من قبيل الإنسانية المزعومة لكنه من باب سد جبهات الانتقاد وامتصاص غضب وحدة الرأي العام وتجنب تداعيات ذلك على حظوظ بايدن الانتخابية.
وفي الأخير فإن التعويل على واشنطن في دعم حقوق الفلسطينيين في غزة محض خيال، ووهم يجب الاستفاقة منه في أقرب وقت، كما أن الحديث عن استفاقة متأخرة للإنسانية الأمريكية عبر إرسال المساعدات جوًا وبحرًا حديث يشوبه الكثير من الشكوك التي تفرغه من صبغته الإنسانية وتلبسه ثوبه التآمري الذي يخدم الأجندة الإسرائيلية في مجملها.