أفرزت ثورة آذار عام 2011 واقعًا سياسيًّا جديدًا على الساحة السورية، مع توسع حركة الاحتجاجات الشعبية في عموم البلاد، وتبنّي نظام الأسد الحل الأمني العسكري ضد المتظاهرين، مقابل ضعف تأثير الأحزاب والتيارات السياسية الحاضرة قبل الثورة، ومحدودية فعاليتها آنذاك.
نتيجة لذلك، بدأ المتظاهرون منذ الأيام الأولى للثورة محاولة تنظيم أنفسهم، وتنظيم الحراك المدني السلمي، وصياغة المطالب الثورية المتمثلة بإسقاط النظام ورموزه، وإصدار البيانات السياسية الممثلة للحراك وتوجّهاته، وإدارة التنسيق والتواصل بين مختلفات الجهات الثورية.
فتشكّل عدد كبير من المجموعات الشعبية الثورية المنظَّمة، التي مثلت المتظاهرين في مختلف المدن والبلدات والأحياء السورية، وعبّرت عن شباب مختلف المشارب الفكرية والأيديولوجية، لا ينتمي إلى تنظيمات سياسية محددة، يجمعهم الانتماء فقط إلى الثورة ضد الاستبداد، والمطالبة بالحرية والكرامة، كالتنسيقيات ولجان التنسيق المحلية.
تطورت هذه التشكيلات والمجموعات تدريجيًّا بالتناسب طردًا مع ما أصاب الملف السوري من تطورات وتغيرات محلية وإقليمية ودولية، خاصة مع تحول الثورة نحو العسكرة، ممهّدة الطريق أمام ظهور تنظيمات سياسية رسمية، بما في ذلك الأحزاب والائتلافات، كالمجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة.
في هذه المادة، نلقي الضوء على الأجسام السياسية الأولى التي عبّرت عن الحراك السلمي، وخرجت بصور متعددة من لجان التنسيق المحلية، واتحاد تنسيقيات الثورة، والهيئة العامة للثورة السورية، والمجلس الأعلى لقيادة الثورة.
لجان التنسيق المحلية
كانت لجان التنسيق المحلية اللبنة الأولى لتلك المجموعات الثورية المختلفة للتوحُّد تحت مظلة منظمة موحّدة، جمعت ضمنها شبكة واسعة ضمّت نحو 131 تنسيقية في عام 2012، لينخفض العدد بعدها إلى ما يقارب من 70 لجنة محلية بعد تحول الثورة إلى العسكرة، حيث انتشرت في معظم المحافظات السورية، تحت إدارة ناشطين إعلاميين وميدانيين وسياسيين وحقوقيين.
أُصدر أول بيان مشترك لتنسيقيات الحراك السلمي في سوريا تحت اسم “لجان التنسيق المحلية”، الذي جاء فيه “إن تحقيق شعارات الحرية والكرامة لن يتسنّى إلا من خلال التغيير الديمقراطي السلمي”، وطالبت بـ”الإفراج عن كل سجناء الضمير، وتفكيك الجهاز الأمني الحالي واستبداله بآخر ذي اختصاصات قانونية محددة يعمل وفقًا للقانون”، ووقف احتكار حزب البعث للسلطة.
أكّدت اللجان عبر بياناتها المتكررة أن الهدف الأول للثورة هو تغيير النظام السياسي، وأن الثورة الشعبية هي مصدر الشرعية السياسية في البلاد، وهي مستمرة إلى حين تحقيق أهداف الشعب السوري في الحرية والمساواة والكرامة، وحمّلت الأسد المسؤولية السياسية والقانونية عمّا ارتكبه من مجازر بحقّ السوريين.
وقالت في بيانها الذي أصدرته في 11 يونيو/ حزيران 2011، وحددت فيه رؤيتها لمستقبل سوريا السياسي: “إن عناصر رؤيتها لإنقاذ البلاد تتضمن وقف القتل والعنف، والإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين جميعًا، ووقف التجييش الإعلامي ضد المتظاهرين”.
كما ركزت اللجان نشاطها على تغطية كامل الأحداث في سوريا، ونشرها على صفحاتها في وسائل التواصل الاجتماعي وموقعها الخاص، وإرسال المعلومات إلى وسائل إعلامية عربية وعالمية، فضلًا عن تنظيم المظاهرات والإضرابات، وتقديم التقارير الإخبارية، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد، وتعزيز العصيان المدني في جميع أنحاء البلاد.
ومع تحول الثورة من السلمية إلى التسلح، حافظت اللجان على مبادئ الحراك السلمي وأهدافه، ورفضت الدعوات إلى عسكرة الثورة السورية أو التدخل العسكري الدولي في سوريا، وقالت في بيان إذا تم إسقاط النظام “بمظاهراتنا السلمية، التي تشارك فيها مدننا وبلداتنا وقرانا، ونساؤنا وأطفالنا ورجالنا، كانت فرص الديمقراطية في بلدنا أكبر بكثير ممّا إذا سقط بمواجهة مسلحة”.
ثم مع تصاعد عنف النظام، تحول موقفها تدريجيًّا إلى دعم الجيش الحر، وتحديدًا في مجالات الإغاثة والإعلام والقانون، وأصبحت جزءًا من المجلس الوطني السوري ثم الائتلاف الوطني السوري، حيث اعترفت بالمجلس الوطني بوصفه الممثل الشرعي للمعارضة السورية، قبل أن تتدهور العلاقات بينهما تدريجيًّا عام 2012، إذ أصدرت بيانًا تتهم فيه المجلس الوطني بـ”خيانة روح ومطالب الثورة السورية، وتهميش دورها”، لتتراجع أهميتها تدريجيًّا مع سيطرة الحالة العسكرية على الساحة السورية.
اتحاد تنسيقيات الثورة
في يونيو/ حزيران 2011، أعلن ناشطون سياسيون يمثلون عددًا من التنسيقيات المحلية في كافة المناطق والمدن السورية تشكيل “اتحاد تنسيقيات الثورة“، الذي ضمّ كافة تنسيقيات الثورة الإعلامية والميدانية، بهدف “تمثيل الحراك المدني على الأرض سياسيًّا وإعلاميًّا وتنسيق وتوحيد العمل ميدانيًّا، وتشكيل قاعدة لمجلس من شباب وناشطي الثورة لحماية أهدافها وضمان تحقيقها بشكل كامل”.
وحدّد الاتحاد أهدافه بـ”إسقاط النظام وتفتيت أركانه الأمنية، ومحاكمة كل من تورّط في قتل وتهجير وتعذيب السوريين، والعمل على تحقيق الحرية والعدالة والكرامة للشعب السوري، وتحقيق التنمية البشرية، ونهضة المجتمع السوري، والحفاظ على وحدة الدولة السورية، وتفعيل دور قيادي للشباب السوري في الحياة السياسية”.
واعتمد الاتحاد على الاحتجاجات والإضرابات والحملات الاجتماعية والعصيان المدني، وساعد في نقل الأخبار من المناطق الثائرة، إضافة إلى دوره في دعم المستشفيات الميدانية والعمل الإغاثي، بينما بلغ عدد التنسيقيات المنضوية ضمن الاتحاد من مختلف المحافظات نحو 80 تنسيقية حتى بداية العام 2012، لينضمَّ لاحقًا إلى الهيئة العامة للثورة السورية.
الهيئة العام للثورة السورية
مع ارتفاع مستوى عنف النظام، وسط حالة تشرذم وانقسامات بين مختلف مكونات الثورة السورية، جاءت فكرة تأسيس الهيئة العامة للثورة السورية، في محاولة لتوحيد صفوف المعارضة، وزيادة الفاعلية والتأثير على الساحة.
فأعلن اتحاد التنسيقيات السورية، المكون من 57 تنسيقية وعشرات الهيئات السياسية والإعلامية، تأسيس الهيئة العامة للثورة السورية في 18 أغسطس/ آب 2011 في مدينة إسطنبول بتركيا، حيث ضمت نحو 40 مجموعة وحركة معارضة داخل سوريا وخارجها، منها اتحاد تنسيقيات الثورة، وعدد من اللجان المحلية والتنسيقيات المستقلة، والتجمعات الشبابية، ووسائل إعلام معارضة مثل “شبكة شام”.
وأصدرت الهيئة بيانًا صاغت فيه رؤيتها السياسية لمستقبل سوريا، وعللت تشكيلها بـ”ضرورة توحيد الجهود الميدانية والإعلامية والسياسية، ولضرورة الانصهار في بوتقة عمل يوحّد الرؤى لدى الثوار بمختلف الائتلافات والتنسيقيات، ويضبط أهدافها المتمثلة بدايةً في إسقاط نظام بشار الأسد ومؤسساته القمعية والنفعية، ثم بناء سوريا دولة ديمقراطية مدنية تحكمها مؤسسات، تضمن تحقيق الحرية والمساواة والكرامة واحترام حقوق الإنسان لمواطنيها كافة”.
سعت الهيئة إلى تشكيل تجمع ثوري خارج المعارضة التقليدية، والتأثير على مستقبل سوريا السياسي، من خلال تشكيل تجمع سياسي يكون بديلًا عن النظام والمعارضة، وانخرطت في أدوار حركية ذات تأثير، خاصة في مجال الإعلام والإغاثة الإنسانية، وتنظيم التظاهرات، واختيار أسماء تظاهرات يوم الجمعة، وتبنّت الخيار السلمي بداية، مؤكدة على إسقاط النظام بالوسائل السلمية، عبر المظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني.
وفي منتصف عام 2012، تبنّت الهيئة الخيار المسلح تحت مظلة الجيش الحر، ودعت إلى التدخل العسكري الأجنبي لحماية المدنيين من بطش النظام، وقدمت مساعدات لوجستية وتمويل لمجموعات من الجيش الحر، ورفضت الاندماج مع المجلس الوطني السوري، لتنخرط لاحقًا ضمن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة.
المجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية
في سبتمبر/ أيلول 2011 أُعلن عن تأسيس المجلس الأعلى لقيادة الثورة، الذي ضمّ 40 مجلسًا محليًّا ثوريًّا من معظم المحافظات السورية، واحتوى على مكاتب سياسية وخدمية وإغاثية ودعم لوجستي.
حيث قال في بيان التأسيس إنه تشكّل “من أجل توحيد جهود الثوار السوريين، وتحقيق أهداف الثورة السورية بإسقاط نظام الاستبداد والظلم والقتل الإجرام، والوصول إلى نيل الحرية واستعادة العزة والكرامة، ثم تأسيس وإقامة دولة المواطنة والحق والعدل والمساواة”، ويقوم بـ”مهمة التمثيل السياسي للثوار وتنظيم العمل الميداني واستقبال وتوزيع الدعم المادي للثورة والثوار”.
ركّز المجلس بداية تأسيسه على العمل السلمي من خلال تنظيم المظاهرات، ونشر المعلومات عن الثورة، ثم تحول إلى مهمة تأمين الدعم المالي واللوجستي للجيش الحر وبعض الكتائب والألوية الإسلامية، مثل لواء الإسلام وكتيبة الأنصار، وساهم في إنشاء المجلس العسكري المحلي في محافظة إدلب.
كما شارك المجلس الأعلى لقيادة الثورة في تأسيس المجلس الوطني السوري بكتلة تعدادها 17 عضوًا، وكان أحد الأعمدة الأساسية التي اتكأ عليها المجلس الوطني عند تأسيسه، إذ اُنتخب عدد من أعضاء المجلس الأعلى لاحقًا لعضوية الأمانة العامة للمجلس الوطني، كما شارك في تشكيل الائتلاف الوطني.
ختامًا
إن سرعة وتوالي الأحداث وتطورها مع اتساع دائرة الاحتجاجات والرد العنيف للنظام، والذي أدّى لاحقًا إلى دخول الثورة مرحلة العسكرة، كل ذلك فرض على الثوار استحداث آليات مختلفة للتعامل مع كل تلك التغيرات، والقيام ببلورة أشكال تنظيمية قادرة على مواكبة الحراك الشعبي الثوري وتنظيمه ورفع حجم تأثيره.
ويمكن القول إن المعارضة السورية لم تنجح في الأشهر الأولى من عمر الثورة من تشكيل قيادة سياسية وطنية جامعة، إذ لم تتخذ الأجسام السياسية الأولى (لجان التنسيق المحلية، والتنسيقيات، والهيئة العامة للثورة) خطًّا أيديولوجيًّا محددًا ولا مسارًا سياسيًّا موحّدًا.
فكان لا بدَّ من تأليف قيادة جامعة، تضمّ مختلف الجماعات السياسية العاملة داخل وخارج سوريا، لا سيما مع ضغط المجتمع الدولي ومطالبته القوى الثورية بتشكيل تمثيل واضح للحراك الثوري، يمثل الثورة سياسيًّا محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، لتبدأ مرحلة جديدة تمثلت بالبحث عن تمثيل سياسي قادر على التعبير عن الحراك الثوري، وترجمته إلى مطالب سياسية واضحة، وهو ما ظهر لأول مرة مع تأسيس المجلس الوطني السوري.