توالت ردود الفعل على القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وتتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إذ تعددت الدعوى والتحركات القانونية أمام المحاكم الوطنية المختلفة، وفي ردهات البلديات، وبين جنبات البرلمانات، لإدانة “إسرائيل” ودفع الحكومات التي تدعمها إلى التخلي عن تسليحها وتمويلها غير المشروط للمقتلة المستمرة التي لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلًا.
يستعرض هذا المقال بعض هذه التحركات العالمية، وآثارها ومآلاتها المحتملة على العملية العسكرية، ومستقبل دولة الكيان على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية.
التحركات القضائية العالمية ضد “إسرائيل”
فيما تدرس محكمة العدل الدولية تقريرًا إسرائيليًّا وصفته بالسرّي، للإجراءات المتخذة في سبيل الالتزام بقرار التدابير الاحترازية الذي اتخذته المحكمة في يناير/ كانون الثاني الماضي، استجابة لطلب جنوب أفريقيا، والذي طالبت فيه “إسرائيل” بتقديم تقرير بعد شهر من صدور القرار، تبيِّنُ فيه ماهية الإجراءات المتخذة لوقف ما يمكن أن يشكّل جريمة إبادة جماعية في القطاع؛ لا تكاد التحركات القانونية والقضائية الدولية المناصرة للحق الفلسطيني تتوقف على مستوى الدول والأقاليم.
كانت من أوائل تلك القضايا الوطنية، دعوى رفعتها منظمات فلسطينية من بينها الحق والميزان ومركز حقوق الإنسان الفلسطيني، وأخرى أسترالية منها المركز الأسترالي للعدالة الدولية، أمام المحكمة الأسترالية العليا أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، للكشف عن معلومات تتعلق بتصدير الأسلحة لـ”إسرائيل”.
ألقت الدعوى الضوء على تجارة الظل المزدهرة للأسلحة في أستراليا، والتي تفتقر إلى الشفافية والمساءلة بشكل متزايد، وقد كشفت وزارة الدفاع الأسترالية عن صادرات عسكرية إلى “إسرائيل”، بلغت وفق المعلن عنه 350 شحنة منذ عام 2017 منها 52 خلال عام 2023 وحده، بينما تتورّط الحكومة وفق اتهامات من حقوقيين وسياسيين بصادرات جمّة لا يتم الكشف عنها.
أنكرت الحكومة الأسترالية التعاقد مع “إسرائيل” حول أي صفقات أسلحة، متجاهلةً التعاقدات التكنولوجية التي تربط أستراليا بالكيان، خاصة علاقة الحكومة المشبوهة بشركة “ألبايت” الإسرائيلية للأنظمة العسكرية وتلك المتعلقة بالتجسُّس وشبكات الاستخبارات الصناعية.
وسبق أن نجحت حركة المقاطعة “بي دي أس” في قطع علاقات مؤسسات أسترالية متخصصة، مثل المعهد الملكي للتكنولوجيا في أستراليا، مع شركة “ألبايت”، بينما بقيت علاقات أخرى خاصة حكومية في الظل وغير واضحة تمامًا، حتى بعد إنهاء عقود العمل المؤقتة مع الشركة، وقد جاءت هذه الدعوى لتسليط الضوء على هذه الممارسات، مؤسِّسة لدعاوى كثيرة مشابهة حول العالم.
لم تكتفِ الأوساط الحقوقية الأسترالية بالتوجّه إلى المحاكم الوطنية، بل قامت في خطوة هي الأولى من نوعها أيضًا بالتوجّه لمحكمة الجنايات الدولية، مطالبة المدّعي العام بالتحقيق مع الحكومة الأسترالية، وعلى رأسها رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز، ووزير الدفاع ريتشارد مارليس، ووزيرة الخارجية بيني وونغ، وزعيم المعارضة بيتر داتون، بوصفها شريكة بالإبادة الجماعية في القطاع، وقد تقدم بهذا الطلب ما يقارب الـ 100 محامٍ أسترالي بموجب المادتَين 15 و25 من ميثاق روما المؤسّس لمحكمة الجنايات الدولية 1998.
في قضية مميزة أخرى، شهد نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي تقدم مجموعات حقوقية فلسطينية، تحت مظلة مركز الحقوق الدستورية الأمريكي، بدعوى أمام محكمة فيدرالية أمريكية، تتهم فيها الرئيس الأمريكي بايدن ووزير خارجيته بلينكن ووزير دفاعه أوستن بالضلوع في جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، من خلال توفير دعم غير مشروط للكيان الإسرائيلي عسكريًّا وماليًّا وسياسيًّا، وطالبت الدعوى المحكمة باتخاذ تدابير مؤقتة، تمنع الإدارة الأمريكية من إكمال دعمها لـ”إسرائيل” إلى حين البتّ في الدعوى.
ردَّ فريق الدفاع عن البيت الأبيض بعدم اختصاص المحكمة في النظر بالقضية، نظرًا إلى وقوعها في خانة السياسة الخارجية التي تختص بها السلطة التنفيذية حصرًا، قبل أن يقوم القاضي فعلًا بردّ الدعوى شكلًا لعدم الاختصاص، إلا أنه أشار في التسبيب المكتوب إلى كون الإدارة الأمريكية ضالعة فعلًا فيما يعتقد أنه جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
تاريخيًّا، لم تكن هذه أولى التحركات القانونية ضد دعم الإدارة الأمريكية غير المشروط لـ”إسرائيل”، فقد سبق لمحاكم أمريكية رد الدعاوى المتعلقة بالحق الفلسطيني شكلًا لعدم الاختصاص، حتى لو تضمنت مواطنًا أمريكيًّا مثل الدعوى التي رفعتها عائلة الأمريكية رايتشل كوري عام 2007، بعد مقتلها بجرافة إسرائيلية أمريكية الصنع أثناء محاولتها الدفاع عن بيت فلسطيني مهدد بالهدم، حيث ردّت المحكمة الدعوى أيضًا كونها تقع ضمن الأعمال السيادية في السياسة الخارجية للبيت الأبيض.
ورغم أن هذه الدعاوى تقع ضمن ما يعرَف بنظرية السؤال السياسي التي تحول دون تدخل القضاء في أعمال السياسة الخارجية، إلا أنها تنطوي على بُعد استراتيجي مهم من ناحية الإعلام وتحريك الرأي العام وتشكيل السياسة الداخلية للولايات المتحدة، خاصة في ظل التحضير لانتخابات رئاسية أمريكية نهاية العام الجاري.
بالمثل تواجه الحكومة الكندية دعوى قضائية تتهمها بالضلوع في الجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” في القطاع؛ فقد رفعت منظمة المحامين الكنديين لحقوق الإنسان، بالتعاون مع منظمة الحق الفلسطينية، قضية ضد وزارة الخارجية الكندية، بتهمة تصدير المعدّات والتكنولوجيا العسكرية لـ”إسرائيل” بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، والتي يتم استخدامها في ارتكاب فظائع بحقّ الفلسطينيين.
أشار فريق الادّعاء إلى ضلوع كندا بصفقات تقدَّر بـ 21 مليون دولار أمريكي، أغلبها ذات طبيعة عسكرية، منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، مبيّنًا أن هذه الصادرات تعدّ انتهاكًا للالتزامات القانونية الداخلية في ظل القانون الكندي، إضافة إلى الالتزامات الدولية في ظل القانون الدولي.
ساهمت هذه الدعوى التي قد تردّها المحكمة أيضًا إلى عدم الاختصاص، بإلقاء الضوء على الالتزامات القانونية للحكومة الكندية، فقد طالب الحزب الديمقراطي الكندي رئيس الوزراء ترودو بالكشف عن الوثائق المتعلقة بصادرات كندا إلى “إسرائيل” منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، في تحرك سياسي يشكّل ضغطًا إضافيًّا على الحكومة، للحدّ من علاقاتها والنأي بنفسها عن الجريمة المستمرة في القطاع.
شهد ديسمبر/ كانون الأول الماضي أيضًا رفعًا لقضية مشابهة في المملكة المتحدة؛ فقد رفعت كل من شبكة العمل القانونية البريطانية ومنظمة الحق الفلسطينية دعوى ضد وزارة العمل والتجارة البريطانية، تطالبان فيها المحكمة بمراجعة رخصة التصدير الحكومية التي تتيح لها تزويد “إسرائيل” بالأسحلة.
إذ تتمتّع “إسرائيل” برخصة تصدير واسعة المدى منذ عام 2015 منحتها إياها الحكومة البريطانية، من ضمنها رخص محدودة تخضع للمراجعة وتشكّل ما قيمته 472 مليون جنيه إسترليني، وأخرى بقيمة 58 مليون جنيه إسترليني، وتعدّ رخصًا مفتوحة لا مراجعة عليها ولا شروط.
ردّت المحكمة البريطانية العليا الدعوى أيضًا لكن لأسباب مغايرة، حيث رأت أن الحكومة لم ترتكب خرقًا واضحًا للقانون الدولي، مشيرة إلى أن الانتهاكات التي تنطوي عليها أفعال الحكومة يجب أن تكون ذات طبيعة خطيرة، وهو ما لم ترَ المحكمة وجوده في القضية المرفوعة أمامها، إلا أن فريق الادّعاء أبدى نيته استئناف القرار الذي رأى فيه مخالفة للإجماع الدولي المتنامي حول ضلوع “إسرائيل”، في انتهاكات خطيرة للقانون الدولي في القطاع.
غير أن أبرز هذه التحركات جاء في فبراير/ شباط الماضي، حين أمرت محكمة استئناف هولندية الحكومة بوقف تصدير طائرت إف-35 إلى “إسرائيل”، للشكّ باستخدامها في انتهاكات للقانون الدولي، وقد أشارت الحكومة إلى نيتها استئناف الدعوى في المحكمة العليا.
تبع هذا القرار قرار سابق لمحكمة هولندية ردّت الدعوى لعدم الاختصاص، نظرًا إلى وقوع موضوعها ضمن اختصاصات الحكومة السياسية، بعد أن رفعت مجموعات حقوقية من ضمنها فرع أوكسفام الهولندي، في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، الدعوى أمامها، قبل أن يتم استئناف القرار لاحقًا وانتزاع هذا القرار التاريخي الذي أصبح يستخدم مرجعًا من قبل الناشطين والحقوقيين العالميين في الحق الفلسطيني.
وفي ألمانيا، رفعت عائلات ألمانية ذات أصول فلسطينية دعوى أمام المحكمة، تتهم فيها الساسة الألمانيين بالمساعدة بارتكاب جرائم حرب وجريمة إبادة جماعية ضد فلسطينيي القطاع، ووجّهت عائلات ضحايا فقدت أفرادًا لها في المقتلة المستمرة في القطاع اتهاماتها للمستشار الألماني شولز ووزير الخارجية بيربوك، لتزويدهما “إسرائيل” بالأسلحة التي يتم استخدامها في جرائم الحرب وجريمة الإبادة المستمرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
كما تمّ توجيه تهم مماثلة لمجلس الأمن الفيدرالي الذي يوفّر تراخيص بيع الأسلحة، وتستند الدعوى إلى الدستور الألماني مباشرة، والذي يتيح للمحكمة النظر في قضايا تُرفع ضد أفراد ضالعين بجرائم ذات طبيعة خطيرة، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية.
كما يتضمن القانون الألماني نصوصًا واضحة، تمنع فيها الحكومة من الضلوع بجريمة الإبادة الجماعية، وتطالب الساسة باتخاذ كافة الإجراءات لمنع وقوعها، بينما تقدّر صادرات ألمانيا من الأسلحة لـ”إسرائيل” بحوالي 350 مليون دولار أمريكي العام المنصرم وحده، معظمها وقع بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، حيث تشكّل هذه الصادرات ما نسبته 28% من واردات “إسرائيل” العسكرية.
الطريق القانوني في ألمانيا ليس واعدًا بالخصوص، إذ يشترط القانون تحريك المدعي العام لتحقيق بالشكوى، وهو ما يستبعَد لأسباب سياسية، فقد واجه المستشار الألماني 55 تهمة بين عامَي 2021 و2023 رفض المدعي العام التحقيق في أي منها حتى اللحظة، إلا أن الخطوة القانونية تنطوي على بُعد سياسي مهم، يستخدَم فيه القانون لرفع الوعي وإلقاء الضوء على الانتهاكات الجارية، وتحريك المياه الراكدة في وكالات الإعلام في واحدة من أعتى داعمي “إسرائيل” في أوروبا.
وفي أحدث التحركات القانونية بالخصوص، رفعت منظمات دنماركية، هي فرع منظمة العفو الدولية في الدنمارك وأوكسفام الدنمارك ومنظمة أكشن إيد الدنماركية بالتعاون مع منظمة الحق الفلسطينية، دعوى ضد كل من مؤسسة الشرطة ووزارة الخارجية الدنماركية، متهمين إياها بالضلوع بارتكاب جرائم ضد الشعب الفلسطيني، من خلال التصدير المباشر وغير المباشر للأسلحة إلى “إسرائيل”.
وطالبت المنظمات الحقوقية المحكمة بنظر مدى انتهاك الدنمارك لقواعد تجارة الأسلحة الدولية، التي تمنع الحكومة من تصديرها لأنظمة يشكّ بضلوعها في انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، حيث إن الحكومة الدنماركية مصادقة على كل من اتفاقية الأمم المتحدة لتجارة السلاح وقواعد الاتحاد الأوروبي لتصدير الأسلحة.
خالفت الحكومة هذه القواعد صراحةً من خلال التصدير المباشر للأسلحة لـ”إسرائيل”، وأيضًا بصورة غير مباشرة من خلال تصدير قطع مقاتلات إف-35 ليتمَّ تجميعها من خلال شركات أمريكية، دون شفافية أو تحقق من استخدامها في جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين، حيث كشف وزير الخارجية، لارس راسموسن، أن ما مجموعه 15 شركة دنماركية تعمل في هذا المجال.
على صعيد آخر، وفي إطار الملاحقة القضائية للمسؤولين الإسرائيليين، توجّهت مجموعة محامين سويسريين بتقديم شكوى جنائية ضد الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، أثناء تواجده في مؤتمر دافوس في سويسرا منتصف يناير/ كانون الأول الماضي، بتهمة التحريض على ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين، والضلوع الفعلي في انتهاكات جسيمة في قطاع غزة.
تم تقديم الشكوى من منظمة معروفة باسم العمل القانوني ضد الجرائم ضد الإنسانية، تحت مظلة ما يعرَف بالاختصاص العالمي، وهو اختصاص أوجدته اتفاقية جنيف الرابعة المعنية بحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة لعام 1949، والتي ألقت على الدول المتعاقدة مسؤولية محاكمة الضالعين في انتهاكات جسيمة تشكّل جرائم حرب أو جرائم ذات طبيعة دولية خطيرة، مثل الجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية التي تقع في أي مكان في العالم أمام محاكمها الوطنية.
إلا أن هذا الاختصاص يواجه إشكالات متعلقة بحصانة الدبلوماسيين الأجانب، إضافة إلى عوامل أخرى تتطلب موافقة مستويات سياسية في الدولة على الشروع في التحقيق بالاتهامات، وقد تم استخدام الاختصاص من قبل في متابعة الحق الفلسطيني، كان أشهرها مذكرة اعتقال أصدرتها المحكمة البريطانية، عقب شكوى جنائية تم التقدم بها في بريطانيا عام 2009 ضد وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، بتهم ارتكاب جرائم جسيمة في قطاع غزة فيما يعرَف بـ”عملية الرصاص المصبوب”.
الشكوى وصلت إلى طريق مسدود بعد تعديل القانون البريطاني، ليتطلب موافقة المستويات السياسية على هذه التحركات، ما أجهض جوهرها، بينما نجحت مساعٍ مشابهة تحت الاختصاص ذاته في ألمانيا لمساءلة مجرمي حرب تابعين للنظام السوري، متهمين بارتكاب فظائع ضد المدنيين إبّان الثورة السورية، وعليه يبدو واضحًا أن كرت الاختصاص العالمي يتم استخدامه في الغرب بصورة سياسية ووفقًا لمصالحه وتوجهاته.
تحركات برلمانية وبلدية موازية
لا تقتصر التحركات القانونية على أروقة المحاكم، بل إن للبرلمانات والبلديات نشاطًا لا يقلّ تأثيرًا عن القرارات القضائية، حيث تنوعت تحركات النواب والبرلمانيين وموظفي البلديات حول العالم، بين طرح مشاريع القوانين والقرارات والضغط باتجاه إقرارها، وبين التحركات الدبلوماسية والسياسية ذات الطبيعة الرمزية، والتي تعبّر عن المواقف وتحشد الدعم والتأييد.
وقّع أكثر من 200 برلماني ينتمون إلى 12 دولة، عريضة يطالبون فيها حكوماتهم بوقف تصدير الأسحلة لـ”إسرائيل”، في ظل انقسام واضح في السياسة الخارجية العالمية، فبينما أوقفت دول مثل هولندا وبلجيكا صادراتها العسكرية لـ”إسرائيل”، تعدّ دول مثل بريطانيا وألمانيا وكندا وبالطبع الولايات المتحدة مصدرًا رئيسيًّا للواردات العسكرية الإسرائيلية.
وطالب البرلمانيون، وأكثرهم من فرنسا وتركيا وإسبانيا والبرازيل وأستراليا، بالتخلي عن تسليح وتمويل “إسرائيل” احترامًا لقواعد القانون الدولي، وحتى توفّر على نفسها تهم الضلوع في إبادة جماعية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
تعدّ هذه العريضة التي نظمتها منظمة التقدم الدولية، والتي تعدّ مظلة لتجمّع البرلمانيين اليساريين ونشطاء حقوق الإنسان، وسيلة مهمة لجذب الانتباه وتجييش الرأي العام، ومحاولة التأثير على السياسيين وصانعي القرار.
استخدم كذلك البرلمانيون قرار محكمة العدل الدولية كإطار جامع حول الالتزامات القانونية المترتبة على الدول أعضاء المجتمع الدولي، ومن بينها وقف صادرات الأسلحة التي تعدّ، وفقًا لاتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، التزامًا قانونيًّا واجبًا وليس مجرد إجراء أخلاقي.
يشكّل توقيع هذه العريضة بشكل متزايد ضغطًا سياسيًّا على الحكومات، ويعطي مساحة للناشطين في مجال حقوق الإنسان لمطالبة ممثليهم في الحكومات والبرلمانات، للكشف عن تعاملاتهم العسكرية مع الكيان، ويلقون على عاتقهم مهمة توضيح مدى اتفاق هذه التعاملات مع القانون الدولي والوطني، ما يشكّل ضغطًا متزايدًا على السياسيين والحكومات لتحديد الصادرات وربطها بشروط الالتزام بالقانون.
بينما طالب البرلمان الأوروبي في نهاية فبراير/ شباط في قرار بأغلبية ضيقة، “إسرائيل” بوقف إطلاق النار بشكل فوري ودائم وغير مشروط، وطالب بضرورة إدخال المساعدات بشكل فوري، وقد حاز القرار على تأييد 265 نائبًا بينما عارضه 253 نائبًا وامتنع عن التصويت 10 نواب، في الوقت الذي صوّت فيه 400 نائب ضد قرار وقف تصدير الأسلحة للكيان.
وفي الولايات المتحدة، أثمر الضغط البرلماني في الكونغرس الأمريكي بتحرك ولو ظاهري للبيت الأبيض، منح فيه “إسرائيل” مهلة زمنية لتوقيع وثيقة تؤكد استخدامها للأسحلة المصدَّرة من الولايات المتحدة بشكل يتفق مع قواعد القانون الدولي الإنساني.
كما طالب برلمانيون ديمقراطيون، على رأسهم رشيدة طليب، إدارة البيت الأبيض في رسالة مفصّلة بالالتزام بقانون ليهي الأمريكي، الذي يمنع تصدير الأسلحة وتقديم المساعدات والتمويل لأنظمة تتوارد معلومات موثوقة بضلوعها في انتهاكات لحقوق الإنسان، وكذلك سياسة بايدن المتعلقة بنقل الأسحلة.
تم توجيه الرسالة أيضًا إلى مكتب المحاسبة الحكومية، مطالبين إياه بتقييم فوري لمدى التزام الإدارة الأمريكية بقواعد القانون الأمريكي والقانون الدولي، ونشر خلاصة التقييم للعامة، حيث سيساعد ذلك في التوجه إلى المحاكم والعمل القانوني والمجتمعي، باتجاه محاسبة الإدارة الأمريكية على عدم التزامها بالقانون.
يعمل قانون ليهي إذا ما تمّ تطبيقه على “إسرائيل”، على ضمان إنهاء التمويل الحكومي للكيان وتسليحه، الذي يبلغ سنويًّا 3.8 مليارات دولار، وقد تضاعف بشكل جنوني منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول بحزم مساعدات وتسليح غير مشروطة.
هناك تحركات أخرى عديدة على مستوى البلديات، وهي تحركات في معظمها رمزية وتهدف إلى تحريك الرأي العام وصناعة الموقف والضغط على صنّاع القرار على المستويات الفيدرالية، لاتخاذ قرارات تتماشى مع الإرادة الشعبية.
مثلًا، أصدرت عشرات البلديات الأمريكية قرارات تؤيّد وقف إطلاق النار، كان أكبرها بلدية شيكاغو، وبلديات كبرى في كاليفورنيا مثل سان فرانسيسكو، وفي ميشيغان مثل ديترويت، حيث تملك هذه الأجسام صبغة رمزية للتعبير عن إرادة أعضائها ومجتمعاتهم، ولا تصنع بشكل مباشر السياسة الخارجية، إلا أن تأثيرها على السياسة الداخلية جليّ.
فقد أثبتت ولاية متأرجحة مثل ميشيغان مثلًا قدرتها على قلب النتائج، حيث صوّت 100 ألف ناخب في الولاية بـ”غير ملتزم” في الانتخابات التمهيدية التي جرت الشهر الماضي، في إشارة إلى احتجاجهم على سياسة بايدن المؤيدة لـ”إسرائيل” في حربها الحالية على القطاع.
ومثلها فعلت ولايات مثل مينوسوتا وكولورادو وألاباما وغيرها من الولايات المتأرجحة بنسب معتبرة من الناخبين المحتجين، تراوحت بين 4% و19% من مجموع الناخبين، ما يعطي مؤشرًا مقلقًا للحزب الديمقراطي في انتخاباته الرئاسية المقبلة، لعدم مشاركة هؤلاء الذين يعدّون مصوّتين تقليديين للحزب الديمقراطي، وبالتالي زيادة فرص الحزب الجمهوري بالفوز في الانتخابات.
ما الذي يمكن لهذه التحركات أن تحقّقه؟
يمنح القانون إطارًا مريحًا للشعوب والمنظمات للتحرك والعمل، حيث تعمل قرارات المحاكم على إذكاء شعلة الاحتجاج، وإضفاء الشرعية على حركة مستدامة ومؤثرة من المناصرة، خاصة في المجتمعات الغربية التي تضخّ حكوماتها وقود آلة الحرب الإسرائيلية، فتوسّع المنظمات من قاعدة عملها، وتكتسب جسارة أكبر على مواصلة العمل والتأثير.
كما أن حركة الاحتجاج والمناصرة، سواء كانت على شاكلة مظاهرات ووقفات احتجاجية، أو على شاكلة عمل مؤسساتي منظَّم في أروقة المحاكم ومكاتب الساسة والدبلوماسيين، تملك قدرة على زعزعة استقرار البلدان المعنية من عدة نواحٍ، أهمها المناكفات السياسية والتأثير على نتائج الانتخابات الداخلية، بل محاصرة الأفراد والمؤسسات الضالعة في الانتهاكات.
بمعنى آخر، تخلق القرارات القضائية، وما تنطوي عليه من قواعد قانونية ناظمة، أداة لمحاسبة الأفراد والمؤسسات ومساءلتهم عن الدور الذي يلعبونه في الانتهاكات القائمة، ما يدفع البعض إلى الانسحاب أو تغيير قواعد اللعبة تجنّبًا للملاحقة القضائية، ومخافة من الثمن الذي ينبغي عليهم دفعه.
كما توفّر قرارات المحاكم مادة أساسية لمزيد من التحركات القضائية، وتوسيع قائمة المتهمين ونوعية الانتهاكات التي تستهدفها، حتى يشمل التحرك القضائي النظام الإجرامي كاملًا بمؤسساته وأذرعه وشخصياته، ويعتبر بذلك مقصلة معلقة فوق رؤوسهم ورؤوس من يساندهم.
لا سيما إذا ظل خطر إصدار مذكرات الاعتقال، وتجميد الأصول، ومنع منح تأشيرات الدخول، وإمكانية المثول أمام المحاكم، قائمًا حيثما حلّوا أو ارتحلوا، وقد شهدنا عدة تحركات لمحاصرة النظام الإسرائيلي والشخصيات الغربية التي تدعمه حتى في دول أخرى لا يحملون جنسيتها، لمجرد تواجدهم على أرضها لأي غرض.
إضافة إلى الدور السياسي للقرارات القضائية، تحمل الأخيرة تأثيرات اقتصادية مهمة تضطلع بها حركات المقاطعة تحت مظلة العمل القانوني، فقد تضاعفت إنجازات “بي دي أس” في الآونة الأخيرة، وكان على رأسها سحب صندوق التقاعد النرويجي استثماراته التي تقارب نصف مليار دولار من “إسرائيل”، تاركًا إياها في أزمة مالية وسط حربها الاستنزافية التي تخوضها في القطاع.
وانطلاقًا من القرارات الصادرة من أجهزة قضائية ذات سلطة عالمية أو حتى وطنية مدعومة بالأدلة والوقائع، تستطيع “بي دي أس” وغيرها من حركات المقاطعة التحرك بجرأة أكبر، واستهداف مزيد من الضالعين في الانتهاكات بشرعية غير مشكوك فيها، وبعيدًا عن المناكفات القضائية والدعاوى الكيدية التي تستنزف المقدرات وتضعف الروح المعنوية، كما أن المقاطعة ذات الأبعاد الثقافية والرياضية والأكاديمية تتصاعد هي الأخرى وتزدهر، بالاتّكاء على القرارات القضائية، وتعمل على محاصرة الكيان وشخوصه وزيادة عزلته الدولية.
تعمل التحركات القضائية أيضًا على إطلاق صفارات تحذير للحكومات التي لا ترغب بالتورُّط بسمعة دولية تنطوي على الضلوع في جريمة إبادة جماعية ضد المدنيين، وما تجرّه هذه السمعة من مخاطرة في مكانتها العالمية ومصالحها في الخارج، وسلامة مواطنيها واستقرار مجتمعات المهاجرين داخلها.
وقد لاحظنا تغيّرًا ملموسًا في خطابات بعض الدول اتجاه الحملة العسكرية الإسرائيلية في القطاع، مثل العديد من دول أوروبا على رأسها فرنسا وإسبانيا وبلجيكا، التي باتت تندد بالانتهاكات الإسرائيلية وتطالب الحكومة الإسرائيلية بوقف فوري للحملة العسكرية في القطاع، بعد أن كانت تؤيد بشكل مطلق حقّ “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها.
وعلى الصعيد الدولي، وحين تقول أعلى هيئة قضائية عالمية مثل محكمة العدل الدولية كلمتها في احتمالية وقوع جريمة إبادة جماعية في القطاع، فإن الضبابية التي تحاول “إسرائيل” وحلفاؤها خلقها في الوسط الدولي، خاصة في الأمم المتحدة، ستزول، وستتمكّن الهيئة الأممية من التحرك بشكل أوضح على كافة مستوياتها، وتتعالى أصوات الخبراء الأممين في دعوات إيقاع العقوبات على “إسرائيل”، وفرض حظر تصدير السلاح إليها، وضرورة فتح تحقيقات فورية في جرائمها وملاحقة مسؤوليها في المحافل كافة.
حذّر بالفعل خبراء أمميون من صفقات الأسلحة الموجهة لـ”إسرائيل”، كونها تشكّل مشاركة فعّالة في انتهاك القانون الدولي في القطاع، وتطالب الدول والحكومات بوقف صادراتها العسكرية للكيان فورًا، وبدأت الأصوات الأممية تتعالى في الهيئات المختلفة بضرورة وقف إطلاق النار فورًا، وضمان دخول المساعدات للقطاع المنكوب بشكل عاجل وغير مشروط.
في الختام، تظهر محكمة الجنايات الدولية توجّهًا مبدئيًّا لفتح تحقيق جنائي بالجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، في ظل ضغط دولي متزايد عليها لتحريك الملف الفلسطيني القابع أمامها منذ عام 2015، والذي يبدو أن المدعي العام للمحكمة كريم خان ظلَّ يتجاهله لصالح قضايا أخرى مثل أوكرانيا وغيرها، حيث عيّن الأخير المحامي البريطاني أندرو كايلي، والذي كان يشغل منصب محقق عسكري سابق، ليقود مهمة التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية.
ووسط خيبة أمل حقوقية كون كايلي يعدّ من المؤيدين للسياسة الإسرائيلية، إذ يعرَف عنه تأييده المعلن لحزب المحافظين، كما أن له باعًا طويلًا في القضايا الجنائية الدولية، وكان وراء إقناع المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية بالتخلي عن التحقيق في الحرب الأمريكية البريطانية على العراق؛ يتواصل النضال القانوني والقضائي المناصر للقضية الفلسطينية في المحافل المختلفة وعلى كافة المستويات، على أمل أن يكون لهذه التحركات أكثر من أثر الفراشة.