آمن الشاب الجزائري الثائر محمد بودية بحقّ أبناء شعبه في تقرير مصيره بعيدًا عن المستعمر الفرنسي، فانضمَّ مبكرًا إلى صفوف المقاومة، وقاد الخلية الباريسية لجبهة التحرير الجزائرية، التي أشرفت على عديد العمليات الفدائية ضد مصالح المستعمر، وما أن تحقق استقلال البلاد حتى عاد إلى حبّه الأول: المسرح.
تحررت الجزائر، لكنه لم يرمِ سلاحه، إذ كان مناضلًا أمميًّا ثائرًا آمن بقضايا التحرر، خاصة القضية الأمّ للإنسانية القضية الفلسطينية، ليقرّر المشاركة في النضال الفلسطيني بسلاحه وقلمه وقدراته الكبيرة على التخطيط للعمليات الفدائية السرّية.
احترافه المسرح جعله يطوّع أدواته للتخفي عن أعين الإسرائيليين والمخابرات الفرنسية التي ظلّت تلاحقه لسنوات، إلى أن تمكّن الموساد من اغتياله في عملية “غضب الرب” صباح يوم 28 يونيو/ حزيران 1973 في باريس، ورغم اغتياله ما زال أثره حاضرًا بيننا، لما قدّمه للقضية الفلسطينية والجزائرية والإنسانية جمعاء.
محمد بودية ..المسرحي الثائر
يوم 24 فبراير/ شباط 1932، عرف حي الباب الجديد في القصبة العليا بالجزائر العاصمة ولادة طفل اختارت له عائلة بودية اسم محمد، وفي مدارس القصبة العتيقة وأحيائها نشأ وتلقّى تعليمه الأول، وانخرط في صفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية.
اهتم محمد بودية خلال مرحلة دراسته بالمسرح وولع به، وفي سنّ الـ 22 التحق بالمركز الجهوي للفنون الدرامية لصقل موهبته، فقد كان فصيح اللسان وذا قوة كبيرة على الإقناع، فضلًا عن براعته في التعبير والكتابة.
لم يدم نشاطه المسرحي داخل الجزائر طويلًا، إذ التحق بودية بالخدمة العسكرية في الجزائر العاصمة ثم في ديجون بفرنسا، وذلك في سياق التجنيد الإجباري الذي فرضته السلطات الاستعمارية على الجزائريين منذ عام 1912، لكن في فرنسا ساقته الأقدار للتعرّف إلى فرقة مسرحية جزائرية تنشط بمدينة ديجون، وهناك احتكَّ بجزائريين يناضلون من أجل استقلال الجزائر من المستعمر الفرنسي، الذي انتهك الأرض والعرض ونهب الثروات الكثيرة.
بدأت علاقة المسرحي الثائر مع القضية الفلسطينية في كوبا، عندما التقى بوديع حداد الملقّب بـ”أبو هاني”، قائد فرع العمليات الخارجية في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
أراد بودية خدمة وطنه من خلال الفن الذي عشقه، فألّف بعض الأعمال المسرحية التي تشيد بالمقاومة وتنتقد الاحتلال، وتهدف إلى دفع الناس للثورة على القمع والأنظمة الاستعمارية، خاصة أنه عايش الوحشية الاستعمارية، وتأثر بمجازر 8 مايو/ أيار 1945.
كان بودية يؤمن بالدور الهام للثقافة والمسرح في سبيل تحرير بلاده، فطوّع قلمه ولسانه لذلك، واضعًا أولى أُسُس مسرح المقاومة، فهو يرى أن الثقافة مرادفة للحرية، والمسرح بالنسبة إليه جزء من النضال من أجل الاستقلال، وبمجرد تحقيق الاستقلال كان على المسرح أن يكون سلاحًا تحرريًّا اجتماعيًّا وسياسيًّا.
لكن اندلاع الثورة الجزائرية المسلحة نهاية عام 1954 دفعه للانخراط في صفوف العمل السرّي لجبهة التحرير الجزائرية، التي اختارت نقل الحرب من الجزائر إلى فرنسا، وبسرعة أصبح بودية مسؤولًا عن الخلية الباريسية لجبهة التحرير، التي أشرفت على العديد من العمليات الفدائية في فرنسا بين عامَي 1957 و1958، ومن أهم تلك العمليات تفجير أنابيب النفط بضواحي مدينة مرسيليا يوم 25 أغسطس/ آب 1958.
عقب هذه العملية بأسابيع قليلة، اعتقلت السلطات الفرنسية محمد بودية، وحكمت عليه بالسجن 20 عامًا مع الأشغال الشاقة، لكنه تمكّن من الهرب من سجن أنجي في 10 سبتمبر/ أيلول 1961، بمساعدة الحركة الفرنسية المناهضة للاستعمار، ولجأ إلى تونس المستقلة حديثًا.
بداية النضال
بعد أشهر قليلة على هروبه من السجن استقلت الجزائر، لكن الثائر الأممي محمد بودية كان يرى أن هذا الاستقلال لن يكتمل إلا بتحرير كلّ الأراضي المحتلة، على رأسها الأراضي الفلسطينية التي اغتصبها الكيان الصهيوني بمساعدة القوى الغربية.
بدأت علاقة المسرحي الثائر مع القضية الفلسطينية في كوبا، عندما التقى بوديع حداد الملقّب بـ”أبو هاني”، قائد فرع العمليات الخارجية في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وخلال هذا اللقاء زاد اقتناعه بضرورة وضع خبرته النضالية في خدمة الكفاح الفلسطيني.
تزامن هذا الأمر مع النكسة العربية، ففي يونيو/ حزيران 1967 شنَّ الكيان الإسرائيلي حربًا على 3 من دول جواره العربي (مصر وسوريا والأردن)، دامت 6 أيام وهُزمت فيها الأطراف العربية هزيمة مخزية، وكان من النتائج احتلال أجزاء واسعة من الأراضي العربية، وتدمير أغلبية العتاد العسكري العربي.
شرف الثوري الجزائري على تفجير مخازن إسرائيلية ومصفاة بترول في روتردام بهولندا، فضلًا عن عملية اختطاف طائرة إسرائيلية في مطار اللّد (بن غوريون) غربي القدس في 8 مايو/ أيار 1972
ارتبط بودية بالقضية الفلسطينية وكتب عنها عديد المقالات الصحفية، إذ كان مؤمنًا بمشروع تحرُّر فلسطين، مدفوعًا في ذلك بحماسه الذي ورثه من نضاله في صفوف جبهة التحرير الجزائرية، وعمله في المسرح السياسي، فحاول بودية أن يطوّع علاقاته الكثيرة لخدمة القضية الفلسطينية، والتعريف بها في مختلف بلدان العالم، خاصة أنه كان يمتلك علاقات كثيرة مع أوساط المثقفين والفنانين وشخصيات سياسية بارزة، سواء في أوروبا والمنطقة العربية أو في أمريكا اللاتينية.
الكفاح المسلح
هزيمة الجيوش العربية في النكسة حتّمت على الثوار الانتقال إلى المقاومة المسلحة، وتوسيع العمليات ضد الإسرائيليين وحلفائهم في الخارج، وقد انخرط محمد بودية في هذا المسار، لاقتناعه بأن الحقوق لا تهدى إنما تؤخذ بقوة السلاح.
قاد وديع حداد مجموعات ثورية مسلحة عُرفت باسم “المجال الخارجي”، ضمّت أفرادًا وتنظيمات من دول كثيرة، وأسندت لمحمد بودية في مطلع السبعينيات مهمة قيادة عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أوروبا، بعد تجربة قصيرة في جامعة باتريس لومومبا في موسكو.
كان بودية (أصبح يكنّى باسم أبو ضياء) العقل المدبّر لأغلب عمليات الجبهة الشعبية، ثم منظمة أيلول الأسود ضدّ المصالح الإسرائيلية في أوروبا في تلك الفترة، ردًّا على المجازر والاعتداءات الإسرائيلية والصمت الدولي، ومحاولة لإيصال صوت فلسطين وإيقاظ الضمير الجمعي للعالم.
كما أشرف على التنسيق بين الجبهة وعدد من التشكيلات الثورية على غرار الجيش الأحمر الياباني، ومجموعة بادر ماينهوف الألمانية، والألوية الحمراء الإيطالية، ومنظمة إيتا الباسكية، فضلًا عن تجنيده لبعض الشباب خدمة للقضية الفلسطينية.
قرر الموساد تصفية الثائر الجزائري في أول فرصة ضمن عملية “غضب الرب”، التي أقرّتها رئيسة وزراء “إسرائيل” آنذاك غولدا مائير
ضمن نشاطه الثوري، خطّط أبو ضياء لإرسال 3 ألمانيات شرقيات إلى القدس لتفجير عدة أهداف إسرائيلية، قبل أن يتم التفطّن للعملية، فضلًا عن تفجير مركز شونو بالنمسا، الخاص بتجميع يهود الاتحاد السوفيتي المهاجرين إلى الكيان الإسرائيلي.
كما أشرف الثوري الجزائري على تفجير مخازن إسرائيلية ومصفاة بترول في روتردام بهولندا، فضلًا عن عملية اختطاف طائرة إسرائيلية في مطار اللّد (بن غوريون) غربي القدس في 8 مايو/ أيار 1972، قُتل فيها مقاومون وجنود إسرائيليون بعد محاولة اقتحامهم الطائرة.
إلى جانب ذلك، كان بودية المشرف على عملية خلية الجيش الأحمر اليابانية بقيادة إكوزو أوكوموتو، ضد ّطائرات إسرائيلية في مطار اللد، وفيها قُتل 26 شخصًا وجُرح 80 على الأقل، وتفجير خط أنبوب بترولي بين إيطاليا والنمسا بمنطقة ترياست يوم 5 أغسطس/ آب 1972، ما أدّى إلى إتلاف نحو 250 ألف طن من النفط.
وفي السنة نفسها، استضاف أفراد الكوماندوز الفلسطيني الذي قام بعملية ميونيخ، ثم قام بتهريبهم وإخفائهم، وتتمثل تلك العملية في احتجاز 11 رياضيًّا إسرائيليًّا خلال الألعاب الأولمبية الصيفية المقامة في ميونيخ الألمانية، ومطالبة الفدائيين بإطلاق سراح 236 أسيرًا فلسطينيًّا، لكن تدخل الأمن الألماني أسفر عن مقتل الرياضيين المحتجزين.
“رجل ذو 100 وجه”
أشرفَ بودية على كل هذه العمليات دون أن يترك وراءه أي أثر، حيث تقول تقارير الموساد الإسرائيلي، ومخابرات غربية أخرى منها الفرنسية والسويسرية، إنه كانت لديهم تأكيدات أن الجزائري ناشط في تخطيط العمليات التي طالت المصالح إسرائيلية وعناصر من جهاز الموساد، لكن دون أن يملكوا دليلًا يدينه، إذ كان يمارس عمله المسرحي بانتظام من دون أي شبهة.
ووفق تقرير لجهاز الاستخبارات السويسري، كان بودية يتنقل بين العواصم الأوروبية بأسماء مستعارة وهويات مزورة، مثل “بيرتان بيير”، و”بيرتان رولان”، و”بوايي موريس أندريس”، و”رودريغ”، و”روبير”، و”روجي”، و”بيتانشان”، فضلًا عن أسماء عربية مثل “سعيد بن أحمد”، و”أبو خليل”، و”أبو خالد”.
فضلًا عن تغيير اسمه، تعمّد أبو ضياء تغيير مقرّ إقامته في العاصمة الفرنسية باستمرار، حتى لا يترك وراءه أي أثر للجهات الباحثة عن العقل المدبّر للهجمات الفلسطينية في أوروبا، وذلك من بين ما تعلمه في نشاطه ضمن صفوف المقاومة الجزائرية وجامعة باتريس لومومبا في موسكو.
نهاية بطل
كان عملاء الموساد والمخابرات الغربية يظنون أن عدة أشخاص وراء العمليات الفدائية ضدّ المصالح الإسرائيلية وحلفائها في أوروبا، لكن بعد عناء طويل وصلوا إلى قناعة بأن وراء كلّ هذه العمليات شخص واحد فقط، وهو محمد بودية.
لم يبحث الموساد كثيرًا عن دليل الإدانة، إنما قرر تصفية الثائر الجزائري في أول فرصة ضمن عملية “غضب الرب”، التي أقرّتها رئيسة وزراء “إسرائيل” آنذاك غولدا مائير، وأسندت المهمة إلى فرقة “كيدون (الرمح)” بقيادة العميل مايكل هراري، وكانت مهمتهم صعبة فلا منزل واضح لبودية ولا اسم متعارف عليه له.
صباح يوم 28 يونيو/ حزيران 1973، جهّز بودية نفسه للخروج من شقة كان يرتادها بالدائرة الخامسة في باريس، مرتديًا ثوب الفنان المسرحي، ثم توجّه إلى سيارته رينو-16 الزرقاء اللون التي كانت مركونة عند شارع فوسي سان برنارد، وعندما فتح الباب، وبمجرد ملامسته كرسي السائق انفجرت عبوة ناسفة صغيرة كانت مثبّتة تحته، أدّت إلى استشهاده عن عمر ناهز 41 عامًا، قضى أكثر من نصفها في سبيل تحرير الجزائر وفلسطين ودعم حركات التحرر في العالم.
تمكّن الموساد من اغتيال محمد بودية في ذلك اليوم بمساعدة جهات أمنية فرنسية، لكنه لم يتمكن من وقف النضال والكفاح في سبيل قضية عادلة، آمن بها ملايين البشر في مختلف أنحاء العالم، فبعد استشهاد الثائر الأممي بودية حمل المشعل عنه الآلاف، ولا سبيل لهذا الكفاح أن ينتهي إلا بزوال الاحتلال الإسرائيلي.