تلقى الاحتلال الإسرائيلي خلال الساعات الماضية ضربة موجعة أخرى تُضاف إلى سلسلة الضربات التي يتلقاها على أيدي المقاومة في ميدان القتال منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكنها هذه المرة من وجهاء العائلات والعشائر في غزة الذين رفضوا أي تعاون مع الكيان المحتل إلا عبر السلطة المنتخبة في القطاع وأجهزتها الأمنية الرسمية والتي تقودها حركة حماس.
حاول الاحتلال المدعوم أمريكيًا، بمساعدة بعض الجهات الإقليمية والدولية، استمالة العشائر في غزة وإغرائهم لتولي المسؤولية المؤقتة بدلًا عن حماس، بزعم المساعدة في تأمين وتوزيع المساعدات الإنسانية على المحاصرين في شمال وجنوب القطاع، لكن جاء الرفض عنوانًا واضحًا ومباشرًا لرد الوجهاء.
من الواضح أن ما فشل فيه المحتل عسكريًا يحاول تحقيقه عبر نوافذ أخرى، تارة عبر المفاوضات والسعي للضغط من أجل اتفاق يمنح الكيان ما عجز عنه ميدانيًا، وتارة أخرى عبر محاولة شق الصف وإحداث الوقيعة بين حماس والعشائر والشارع الفلسطيني، والعمل من أجل تفتيت الجبهة الداخلية الموحدة من خلال إحياء نموذج الصحوات العراقية داخل قطاع غزة.
وجهاء عائلات في #غزة يرفضون التعاون مع إسرائيل لتوزيع المساعدات pic.twitter.com/yXpG1rcwmQ
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 13, 2024
“لن نكون بديلًا عن الحكومة”
في يناير/كانون الثاني الماضي، كانت قناة “كان” الإسرائيلية قد كشفت عن خطة لجيش الاحتلال لتوزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة من خلال تقسيمه إلى مناطق تحكمها كبريات العشائر الموجودة، وقالت القناة حينها إنه “سيتم تقسيم القطاع إلى مناطق ونواح، حيث ستسيطر كل عشيرة على ناحية، وستكون مسؤولة عن توزيع المساعدات الإنسانية”.
أوضحت القناة أن تلك العشائر المعروفة لدى أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية هي من ستتولى إدارة الحياة المدنية في القطاع لفترة محدودة، دون تحديد مدتها وطبيعة إدارتها وحدود سلطتها، ومنذ ذلك الوقت وبدأت الاتصالات المكثفة تنهال على وجهاء تلك العشائر من الكيان المحتل ووكالة والأونروا وبعض الجهات الدولية الأخرى.
وبعد قرابة شهرين من الاتصالات ومحاولات الإقناع التي يبدو أنها لم تؤت ثمارها، خرج رئيس الهيئة العليا لشؤون العشائر في المحافظات الجنوبية من قطاع غزة، أبو سلمان المغني، ليعلن أن موقف العشائر “ثابت وواحد لا يمكن أن يتغير، وهو أن جميع العشائر وأنا أتحدث باسمهم جميعًا، لا يمكن أن تقبل بأن تكون بديلًا عن الحكومة”، مضيفًا في تصريحات لوكالة شهاب الفلسطينية : “لن نكون بديلًا عمن اختاره شعبنا ممثلًا له، وسنظل مع اختيار شعبنا حتى إجراء الانتخابات”.
وأكد المغني أن العشائر رغم ما لديها من نفوذ لا يمكنها أن تحكم، فهي ليست مؤهلة لذلك، لافتًا إلى أن دورها الأساسي يتمحور حول إصلاح ذات البين ومساندة الحكومة المنتخبة في تأدية أعمالها، واصفًا بعض الذين تعاونوا مع الاحتلال خلال الآونة الماضية بأنهم “ليسوا مخاتير ولا وجهاء ولا ممثلين عن عوائلهم”، وتابع “هؤلاء ليسوا منا كعشائر ولسنا منهم، ولا ينتمون لفلسطين ولا لأهل غزة، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا من أهلنا”.
وفي بيان مشترك قال تجمع القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية (تجمع شعبي غير حكومي، يضم ممثلين عن غالبية القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والشتات): “الوحدة الوطنية هي الطريق الوحيد للحفاظ على كينونة الشعب الفلسطيني والوطن وصمود أهله وبسالة مقاومته”، مؤكدًا أن “القبائل ليست بديلًا عن أي نظام سياسي فلسطيني، بل مكون من المكونات الوطنية، وداعم للمقاومة ولحماية الجبهة الداخلية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي”.
وأكد التجمع في بيانه أن كل القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية “جزء أصيل من فسيفساء المجتمع الفلسطيني، وهي داعمة للمقاومة الشاملة”، مشددًا على أن “إدارة شؤون الشعب الفلسطيني هو شأن داخلي، وحق فلسطيني خالص، لن يسمح التجمع لأحد بأن يتدخل فيه”، داعيًا “أبناء القبائل والعشائر العربية وأحرار العالم إلى الانخراط في الحملة العالمية لإسناد الشعب الفلسطيني ونصرته، حتى وقف العدوان الإسرائيلي واسترداد حقوقه”.
مؤامرة شق الصف
منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وتتبنى دولة الاحتلال خطابًا مشيطنًا لحماس وبقية فصائل المقاومة، تحاول من خلاله تشويه صورتها وتجريدها من ظهيرها الشعبي في القطاع الذي يمثل ضلعًا محوريًا في تماسك الحركة وصمودها وقدرتها على البقاء طيلة السنوات الماضية.
وجيش المحتل آلته الإعلامية والدعائية والعسكرية لشيطنة حماس عبر الترويج إلى أن ما يحدث في القطاع من قتل وتدمير وتنكيل وتجويع ما كان له أن يكون إلا بسبب الحركة، وأنها المسؤولة عن أرواح الأطفال والنساء التي أزهقها الاحتلال، ومن ثم فإن التخلي عنها هو الخطوة الأولى نحو إنهاء الحرب، والحفاظ على حياة من تبقى، هكذا يتوهم الاحتلال.
لأجل تنفيذ هذا المخطط التآمري الذي يهدف إلى شق الصف وتفتيت الجبهة الداخلية لعبت “إسرائيل” على وتر الخلافات والتوترات بين حماس وبقية الجبهات، والتي تمحورت في مسارين اثنين:
الأول: استغلال التوتر بين بعض العشائر وحماس منذ أن سيطرت الأخيرة على القطاع عام 2007 وجردت العشائر والعائلات الكبيرة من الأسلحة التي كانت تمتلكها في محاولة لإنهاء حالة الانفلات الأمني التي كانت تخيم على القطاع آنذاك، وهو ما خلق عداءً مستترًا بين الحركة وبعض القبائل التي كانت رافضة لهذا الإجراء، ومن ثم يحاول المحتل اللعب على هذا الوتر وإحياء هذا التوتر مجددًا بعد إغراء تلك العائلات بالعودة للأضواء مجددًا وتوليها السلطة في القطاع.
حماس: موقف عشائر غزة يثبت وحدة وتماسك مجتمعنا الفلسطيني خلف خيار المقاومة والوحدة الوطنية#حرب_غزة pic.twitter.com/jI7r3Ff6Dt
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 13, 2024
الثاني: توظيف الخصومة بين الحركة والسلطة الفلسطينية، حيث تحاول الأجهزة الأمنية الإسرائيلية استغلال تلك الخصومة المعروفة للجميع بين الحركتين، حماس وفتح، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب وفق سياسة “فرق تسد” التي تجيدها “إسرائيل” وأسفرت عن تعزيز نفوذها في الداخل الفلسطيني جراء تلك السياسة.
وكانت القناة “14” العبرية قد أشارت في تقرير سابق لها إلى أن مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، بدأ بالفعل ترتيبات تدشين ميليشيات مسلحة جنوب قطاع غزة، تتكون من عناصر منتمية إلى العشائر المناوئة لحماس بهدف القيام بدور الحركة في القطاع وإحلال السلطة مكانها، كما ادعت هيئة البث الرسمية العبرية أن رئيس مجلس الأمن الإسرائيلي تساحي هنغبي، التقى مؤخرًا فرج بموافقة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لافتة إلى أن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، كان قد اقترح تولي رئيس المخابرات في السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزة مؤقتًا بعد انتهاء الحرب.
وفي سياق المخطط ذاته كان قد أثير استعانة الولايات المتحدة بعناصر مسلحة من غزة لتأمين المساعدات المزمع إدخالها للقطاع عبر الميناء المؤقت الذي قالت واشنطن إنها ستدشنه في غضون شهر إلى شهرين، وهي المعلومات التي أثارت القلق بشأن مؤامرة تكوين ميليشيات مسلحة داخل غزة تكون بديلة عن الحكومة ويتم تأهيلها لمواجهة سلطة حماس.
إحياء نموذج الصحوات العراقية
فكرة تقسيم القطاع إلى عشائر وعائلات تتولى إدارة المناطق تشبه إلى حد كبير نموذج الصحوات في الأنبار بالعراق كما ذهب الخبير العسكري والإستراتيجي اللواء فايز الدويري، الذي أشار إلى أن الاحتلال يبحث عن صحوات بثوب جديد لتولي مهمة المساعدات في البداية على أن تتولى لاحقًا الملف الأمني.
وأوضح الدويري أن ما تحاول “إسرائيل” فعله اليوم فعلته الولايات المتحدة في العراق قبل 20 عامًا، حين فشل الجيش الأمريكي في إدامة عملياته القتالية هناك، فاضطر إلى اختلاق نظرية الصحوات والطائفية والمناطقية بديلًا لمقاتلة تنظيم القاعدة، وهو ما أدى في النهاية إلى تفتت الدولة وانهيار جبهتها الداخلية وانفلاتها أمنيًا حتى اليوم.
تعود فكرة إنشاء الصحوات في محافظة الأنبار (غرب العراق) إلى عام 2006 حين أنشئت فيها أول مجلس صحوة لمحاربة تنظيم القاعدة، ثم توسعت الفكرة لتشمل محافظات أخرى مثل ديالى وصلاح الدين ونينوى، حين دعمت الولايات المتحدة تلك المجالس بالمال والسلاح ومنحتها أفضلية في النفوذ والقوة من أجل القتال نيابة عنها في مواجهة عناصر القاعدة.
ويعاني العراق حتى اليوم من تلك الصحوات التي تمددت أفقيًا ورأسيًا بالتوازي مع دخول ميليشيات مسلحة أخرى شيعية على خط المواجهة، ما تسبب في إحداث حالة من الفوضى وتكريس للطائفية بشكل يدفع العراقيون ثمنه على مدار قرابة عقدين من الزمن.
فشل المخطط الإسرائيلي
بهذا الرد الرصين أفشلت العشائر الجولة الأولى من مخطط الاحتلال الخبيث لشق الصف الوطني الفلسطيني في غزة، وهو ما قالته حماس في بيان لها نشرته عبر تليغرام أشادت فيه بـ”الموقف الوطني المسؤول لعائلات وعشائر غزة، الذي رفض بِحَسم، التجاوُب مع المخططات الخبيثة للاحتلال الصهيوني، والهادفة إلى خلق أجسام تنسيقية شاذة عن الصف الوطني الفلسطيني”، مشددة على أن العائلات بموقفها هذا تؤكد “دعمها للمقاومة والحكومة وأجهزتها الشرطية والأمنية، ورفضها محاولات الاحتلال العبث بالصف الوطني الفلسطيني”.
عصبة رام الله.. هكذا قرّروا نصرة غزة!!
في الأنباء أن أجهزتها قررت الدخول على خط بعض "العشائر" وتشجيعها على إنشاء مجموعات مسلحة كبديل للسلطة في غزة، بدعوى تأمين المساعدات الإنسانية.
تعبوا من انتظار "اليوم التالي"، فقرّروا مساعدة نتنياهو على تأمين مسار يريده، لعله يرضى عنهم،…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) March 13, 2024
واعتبرت الحركة أن “هذا الموقف الأصيل، لعائلات وعشائر غزة، يثبت وحدة وتماسك مجتمعنا الفلسطيني خلف خيار المقاومة والوحدة الوطنية، والدور المحوري الوطني الذي تلعبه العائلات والعشائر، كصمام أمان للجبهة الداخلية، وحماية ظهر أبنائهم الميامين في المقاومة، الذين يتصدّون بكل بسالة للعدوان الوحشي الصهيوني على قطاع غزة”.
موقف وجهاء غزة المشرف سيعزز من صمود المقاومة ويمنحها القوة من أجل مواصلة نضالها ضد الاحتلال، لكنه في الوقت ذاته جرس إنذار يكشف عن نوايا الاحتلال وأعوانه لتفتيت اللحمة الوطنية وضرب الجبهة الداخلية التي ظل تماسكها عاملًا رئيسيًا للمواجهة على مدار سنوات، الأمر الذي يتطلب معه الحيطة والحذر إزاء أي من مثل تلك المخططات الخبيثة مهما كانت المغريات والادعاءات، فما عجز عنه الكيان المغتصب ميدانيًا لن يدخر جهدًا في العمل على تحقيقه عبر المؤامرات التي اعتادها منذ نشأته السرطانية.